الأزمة الاقتصادية تذكّر الإيرانيين بموجة الجفاف الكبرى منذ 70 عامًا

تزايد الإنفاق على الحروب وتراجع الأمل في رفع فوري للعقوبات الدولية فاقما التضخم

«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية تذكّر الإيرانيين بموجة الجفاف الكبرى منذ 70 عامًا

«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)

لماذا يتذكر بعض الإيرانيين هذه الأيام موجة الجفاف الكبرى التي ضربت البلاد عقب الحرب العالمية الثانية؟ الإجابة التي وردت في تقارير وشهادات، حصلت «الشرق الأوسط» على جانب منها، تبدو بسيطة: تدهور اقتصادي متزايد يضغط على ملايين الإيرانيين لأول مرة منذ نحو سبعة عقود.
وبينما أشاعت قيادات في نظام طهران أن الاتفاق النووي المزمع مع الدول الكبرى سوف يؤدي لانفراجة تنقذ البلاد من أزمتها المالية، بدأت نذر خلافات في هرم السلطة بعد أن اتضح أنه لا يوجد ارتباط مباشر بين توقيع الاتفاق ورفع العقوبات الدولية المفروضة على هذا البلد منذ سنوات، وأدت لخسائر بمليارات الدولارات.
يقول أحدث تقرير أعده معارضون إيرانيون بناء على ما قالوا إنها إحصاءات رسمية، إن عدد الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفع بنسبة 150 في المائة خلال الفترة بين عامي 2003 و2012، وذلك رغم تضاعف عائدات النفط الإيراني خلال الفترة نفسها. والسبب يرجع، وفقا للتقرير، إلى عدة سياسات، منها تمويل حروب الميليشيات التي تديرها إيران في عدد من البلدان العربية من بينها العراق وسوريا واليمن، والإنفاق على البرنامج النووي، والفساد.
لأول مرة، منذ الاحتجاجات الضخمة في 2009 ضد النظام الإيراني، يعود نشطاء المعارضة في الداخل والخارج لتنظيم الوقفات الاحتجاجية وتنظيم المظاهرات احتجاجا على التضخم. يقول شاهين قبادي، أحد زعماء المعارضة، من منفاه في أوروبا: «تفيد المعلومات من داخل البلاد بأن القوة الشرائية للعمال انخفضت منذ عام 2005 بنسبة 73 في المائة». ويضيف في رده على عدد من أسئلة «الشرق الأوسط»: «معدل البطالة في إيران خرج عن السيطرة. هذا يذكر الإيرانيين بسنوات الجفاف في الماضي».
وتمول إيران حروبا لمصلحتها في المنطقة تقدر بمليارات الدولارات. وتفيد مصادر معارضة من الداخل الإيراني، في اتصال عبر الإنترنت، بأن مشكلة معرفة الأرقام الدقيقة لتمويل هذه الحروب تتعلق بالنظام المالي المتبع من جانب السلطة في طهران، وقدرات مجلس الشورى (البرلمان) المحدودة، بالإضافة إلى قمع أي صوت معارض في الداخل، خاصة من بين أولئك الذين يثيرون قضية إدارة أموال الدولة، والمطالبة بكشف حسابات الإنفاق الداخلي والخارجي.
ومع ذلك، وفقا لمصادر أخرى، بدأت تظهر بعض الأصوات من داخل النظام نفسه تتساءل عن المخصصات المالية وأين تذهب، وجدوى منح حكومات ومتمردين في العراق وسوريا واليمن أموالا ضخمة بينما قيمة العملة المحلية تتآكل والانتعاش المنتظر من وراء الاتفاق النووي يبدو بعيد المنال. وقالت المعلومات إن شبح التململ من الأزمة الاقتصادية وسياسات الرئيس حسن روحاني، المنتخب منذ عامين، انعكس على نظام العضوية في «مجلس صيانة الدستور» الذي يعد بمثابة سلطة عليا في البلاد.
رغم النظام الرئاسي في إيران فإن السلطات الفعلية تقع بين يدي مرشد الثورة، علي خامنئي. وكان ينبغي إنهاء عضوية عدد من نواب البرلمان، ممن يشغلون مواقع في «مجلس صيانة الدستور»، لكن مصدرا في المعارضة في طهران أفاد ردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن الظروف المرتبكة التي يمر بها النظام، وعلاقة المرشد والرئيس بأجنحة الدولة، دفعت قادة كبارا للمطالبة بتأجيل فتح هذا الأمر للنقاش، وهو أمر قوبل بالرفض من جانب كثير من نواب البرلمان ممن يقفون ضد الوصاية على أعمالهم بوصفهم جهة تشريعية ورقابية يفترض أن تكون مستقلة.
وأضاف المصدر نفسه أن الحديث عن الأزمة الاقتصادية أصبح من العوامل المشتركة التي تجمع كثيرا من الإيرانيين سواء كانوا في السلطة أو في الشارع، مع ملاحظة أن «أصوات المعارضة في الداخل مقموعة، كما هو معلوم.. العديد من قادة المعارضة بمن فيهم الإصلاحيون والمعتدلون لا يستطيعون إلقاء الكلمات في الأماكن العامة، كما كان الحال في عام 2009».
ومن منفاها في الخارج، واصلت قيادات معارضة عقد الفعاليات السياسية والإعلامية للتحذير من خطر الطريق الذي يسير فيه حكام طهران على الإيرانيين ودول المنطقة والعالم. وفي هذا الإطار، وبعد يومين من حديث بـ«الفيديو كونفرنس» لزعيمة المعارضة مريم رجوي، أمام لجنة بالكونغرس الأميركي، عقد السيد قبادي مؤتمرا صحافيا عبر الإنترنت، الليلة قبل الماضية، بمناسبة عيد العمال ومرور عامين على تولي الرئيس روحاني الحكم خلفا للرئيس أحمدي نجاد.
وقال قبادي إنه بعد مرور نحو عامين على اختيار روحاني رئيسا، ونظرا لما قطعه من وعود بتحسين الظروف الاقتصادية للشعب الإيراني كمحور لجهود حكومته.. «فإننا إذا ألقينا نظرة سريعة على الوضع لن نرى أي تحسن في أوضاع العمال الإيرانيين، بل على العكس فقد تدهورت أوضاعهم سريعا وبشكل حاد».
وفي ما يتعلق بالقول الذي يطلقه البعض في داخل البلاد عن أن الأزمة الراهنة تذكر الإيرانيين بموجة الجفاف التي وقعت قبل نحو سبعين سنة، وأدت لأزمة خانقة في عموم إيران، قال قبادي: «نعم.. منذ موجة الجفاف التي ضربت البلاد عقب الحرب العالمية الثانية، لم يكن العمال الإيرانيون بهذا الفقر الذي نراه اليوم. المستقبل أسوأ إذا استمرت سياسات النظام على هذه الشاكلة. الحل ليس في إصلاحه ولكن في استبدال نظام جديد به».
ويعد تدفق مياه الأمطار، وما تسفر عنه من جداول تأتي من أعلى قمم الجبال معظم شهور السنة تقريبا في مناطق واسعة بإيران، أحد أهم مصادر الدخل للفلاحين وسكان الأرياف. لكن البلاد تعرضت ثلاث مرات لندرة الأمطار، كانت أسوأها في أواخر أربعينات القرن الماضي، إلى جانب مرتين أخريين واحدة في السبعينات والأخرى في عام 2000. وترتبط ذكريات الجفاف بتشريد ملايين المواطنين.
ويشبه العديد من المعارضين الإيرانيين الأزمة الاقتصادية الراهنة بسنوات الجفاف التي اقترنت في أذهان الإيرانيين بما يشبه «الكابوس» و«التفكير في كيفية مواجهة الخطر من شظف العيش والفقر».. و«حين نقول إننا نتعرض، في الوقت الحالي، للجفاف فهذا يعني أن ملايين العمال والقرويين (المزارعين) يعانون من مأساة في المعيشة بسبب السياسات الاقتصادية للنظام. في الماضي، كان نقص الأمطار يعبر عن خسارة ملايين الأطنان من القمح. واليوم توجد خسائر ضخمة، ليس لنقص الأمطار، لكنها ترجع لأخطاء في إجراءات الدولة وتوجيه الأموال لإرضاء طموحات القادة بينما الشعب يعاني من العوز».
السيد قبادي استند إلى إحصاءات رسمية، وإلى ما قال إنها تصريحات لمسؤولين إيرانيين أيضا، للتدليل على تفاقم الأوضاع الاقتصادية، مشيرا إلى غياب الأمان الوظيفي وتأخر الرواتب الشهرية. وقال: «لقد أقر مسؤولون في النظام بأن 90 في المائة من العمال في البلاد يعيشون تحت خط الفقر، بينما أكثر النسبة الباقية لا تتجاوز الخط إلا بقدر ضئيل». وأضاف أنه، وطبقا للإحصاءات الرسمية، تبلغ القوة العاملة في إيران نحو 64 مليونا، بينما النسبة القادرة على العمل من السكان تصل إلى 41 مليونا، وذلك إضافة إلى 1.2 مليون من القوة العاملة الذين يدخلون السوق سنويا.. و«مع ذلك، وبحسب ما توضح الإحصاءات الرسمية، فإن عدد العاملين ثابت عند 21 مليونا.. يمكن القول بعبارة أخرى إن أكثر من نصف النسبة القادرة على العمل من السكان عاطلون عن العمل».
واتهم قبادي نظام الرئيس روحاني باتباع سياسة ظالمة بحق ملايين العمال، وعلى سبيل المثال، كما يقول، تقدم الرئيس للبرلمان بمشروع قانون تحت مسمى إزالة كل العقبات التي تعرقل الإنتاج، وعليه قام مجلس صيانة الدستور الأسبوع الماضي بالتصديق على مشروع القانون، الذي يزيل في حقيقته العقبات التي تحول دون فصل العمال عن عملهم، ويدعم فرض العقود المؤقتة كأمر واقع.
وقال إن الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور هي سياسات النظام، لأنه يجري إنفاق ثروة الشعب ورأس ماله على أعمال القمع وأدواته، وعلى تصدير التطرف والإرهاب، بالإضافة إلى السعي نحو تصنيع السلاح النووي.. «ورغم كل المشكلات الاقتصادية، تمت زيادة مخصصات القوات القمعية في الموازنة بنسبة 53 في المائة».
وتناول تقرير أعده معارضون إيرانيون وصول انتقادات من جانب قيادات في النظام إلى سمع الرئيس روحاني، على خلفية الإنفاق المالي الكبير على أجهزة الأمن والأجهزة شبه العسكرية مثل فيلق القدس الذي يدير حروبا بالوكالة في عدة بلدان بالمنطقة، آخرها اليمن. وقال التقرير إن الرئيس بعد أن استمع إلى هذه الانتقادات رد بأن هذا النوع من الإنفاق المالي له الأولوية في موازنة الدولة، وهو أمر مقدم على أي شيء آخر، حتى لو بلغت نسبة الإنفاق على هذا البند كامل مخصصات موازنة الدولة.
ومن جانبه، قال السيد قبادي في رده على الأسئلة، إن «نظام رجال الدين (حكم طهران) ينفق مبالغ فلكية على تصدير الإرهاب والتطرف»، مشيرا إلى تصريح لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا مؤخرا، خلال لقاء خاص في واشنطن، أفاد فيه بأن إيران تمنح سوريا 35 مليار دولار سنويا.
وأضاف قبادي الذي يشغل عضوية «لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية»، بأن بعض التقديرات تشير إلى إنفاق نظام طهران نحو 300 مليار دولار على البرنامج النووي على مدى السنوات الماضية.
وتطرق أيضا إلى ما زعم أنها تقارير عن الفساد في الداخل أسهمت في تدهور الأوضاع في هذا البلد الغني بالنفط والثروات الطبيعية، مشيرا إلى أن «أنباء الفساد باتت أمرا معتادا في إيران.. الكثير من طبقات النظام متورطة في هذا». واستعان قبادي بما قال إنها إفادات سابقة من وزير الداخلية الإيراني تشير إلى استفحال الفساد في عموم البلاد، منها «تسجيل أكثر من 3 آلاف شركة بعنوان واحد، وكذلك تسجيل ما يزيد على 4 آلاف شركة بكود واحد».
ويعني مثل هذا الأمر تسرب مليارات الدولارات بعيدا عن خزانة الدولة، منها على سبيل المثال التهرب من سداد الضرائب من تلك الشركات. وعلى الجانب الآخر، كما يذكر قبادي، فقد زادت عمليات التهريب إلى داخل البلاد.. «بحيث أصبحت قيمتها تتجاوز 25 مليار دولار سنويا، وبات من المعلوم في إيران أن الطرف الأساسي المتورط في تلك العمليات هو قيادات في الحرس الثوري وغيره من الأجهزة والهيئات الحكومية».
وفي زيارة سابقة لـ«الشرق الأوسط» إلى مدن إيرانية منها «طهران» و«شيراز» و«قم»، فإن سلطات المرشد خامنئي تبدو أكبر من الرئيس المنتخب. ومن السهل ملاحظة ذلك سواء في الكلمات الافتتاحية للمؤتمرات الرسمية التي تبدأ عادة بكلمة المرشد لا الرئيس، أو في صور المرشد المعلقة في الميادين والشوارع الرئيسية. ويقول أحد زعماء الطلاب المعارضين عقب مشاركته في فعاليات قرب السكن الطلابي المواجه لـ«البارك ترفيه» في شارع الدكتورة فاطمة بطهران: «لا يمكن انتقاد المرشد». وأضاف في إفادة عبر الإنترنت: «إذا انتقدت خامنئي تكون مخالفا للدين، بينما هو القائد الفعلي للدولة».
وقال السيد قبادي ردا على الأسئلة: «في العام الماضي جرى الكشف عن سيطرة خامنئي على نحو 95 مليار دولار من خلال ما يعرف بـ(اللجنة التنفيذية لأوامر الإمام)». لكن لا يوجد ما يؤكد مثل هذه المزاعم من مصادر مستقلة. ومع ذلك يضيف قبادي أن هذا بعض من الإمبراطورية المالية الضخمة التي يديرها المرشد، مشيرا إلى أن العديد من المؤسسات التي تخضع إدارتها لسلطات خامنئي تعفى من الضرائب، مثل «مؤسسة المستضعفين»، وغيرها، قائلا إن الحرس الثوري الإيراني (الذي يخضع للمرشد أيضا) يسيطر على جزء كبير من شرايين الحياة في اقتصاد الدولة.
ومن جانبه، تضمن التقرير الذي أعدته المعارضة ما قال إنها شهادات عن تدهور الوضع الاقتصادي جاءت على لسان مسؤولين إيرانيين في الأيام الأخيرة، من بينهم رئيس البرلمان، علي لاريجاني، الذي نسب إليه اعترافه بأن 42 في المائة من خريجي الجامعات في إيران لا يجدون فرص عمل، إضافة لاعتراف آخر من رئيس غرفة الصناعة والتجارة والتعدين في البلاد ذكر فيه أن 40 في المائة فقط من وحدات الإنتاج والوحدات الصناعية هي التي تعمل.
وقال قبادي عن هذه القضية: «نعم.. لا يزال إغلاق المصانع ووحدات الإنتاج مستمرا. هذا يؤدي إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل أكثر من السابق»، مشيرا إلى أن منظومة العمال والتشغيل تحت سياسة نظام الحكم في إيران لا تحظى بأقل قدر من الحماية القانونية». وأضاف: «لا توجد أي ضمانات تمنع أصحاب العمل، وأكثرهم مسؤولون في الحكومة أو في الحرس الثوري، من فصل العمال عن عملهم، أو حرمانهم من حقوقهم».
وتضمن التقرير المكتوب باللغة الإنجليزية أنه طبقا لإحصاءات وزارة العمل الإيرانية فإن 93 في المائة يعملون بعقود مؤقتة، وسبعة في المائة فقط يعملون بعقود رسمية، وأن «الفجوة بين الطبقات الاجتماعية اتسعت في السنوات الأخيرة، وازدادت بمقدار 30 مرة إلى حد جعل إيران تتصدر قائمة الدول التي تتسع فيها الفروق بين الطبقات الاجتماعية على مستوى العالم»، ونتج عن هذا ارتفاع نسبة الاضطرابات والاحتجاجات.
ووفقا لإحصاءات المعارضة فقد قامت القوى العاملة في البلاد بالتصعيد ضد سياسات النظام، وجرى، على مدى العام الماضي فقط، تنظيم نحو 1300 من الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات.. «وبعد أن كان عددها في شهر مارس (آذار) 120، زاد إلى أكثر من 250 احتجاجا الشهر الماضي».
وخلال اليومين الماضيين نظمت تجمعات عمالية مظاهرات جديدة بسبب الظروف المعيشية الصعبة وتأخر صرف الأجور، من بينهم عمال في قطاع صناعة المرطبات والبتروكيماويات والحديد والصلب، كان من بين هذه الفعاليات مظاهرة لعمال مصنع «بامجال» بعد أن تأخرت رواتبهم لأكثر من شهرين.
ومن جانبه، يتهم النظام الإيراني المعارضة في الداخل والخارج بالتهويل والمبالغة، ويقول أحد الدبلوماسيين الإيرانيين ممن عملوا لسنوات في مكتب رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة (السفارة) إن «بعض الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم اسم معارضة هم في الحقيقة يعملون ضد مصلحة الدولة والشعب الإيراني»، مشيرا في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عبر الهاتف، إلى أن الاتهامات الموجهة إلى نظام طهران «غير صحيحة»، وأن المركز الاقتصادي لبلاده «قوي جدا».
لكن عددا من المراقبين الغربيين، خاصة أولئك الذين عملوا بالقرب من الملف الإيراني في السنوات الأخيرة، يرون في اندفاع النظام الإيراني نحو توقيع الاتفاق النووي قبل نهاية يونيو (حزيران) المقبل، يعكس وجود أزمة اقتصادية كبيرة، ويعكس أيضا رغبة من النظام في التخلص من العقوبات الدولية، رغم أن التوصل لمثل هذا الاتفاق ما زال أمرا سابقا لأوانه.
وبحسب المصادر الغربية فإن إيران يبدو أنها تماطل في مسائل جوهرية تتعلق بالاتفاق بشأن برنامجها النووي على رأسها مسألة الإخطار المسبق بتوقيت وصول المفتشين الدوليين، ورفضها دخول المفتشين للمواقع العسكرية، والنسب المسموح بها في ما يتعلق بالتخصيب وغيرها. وقالت وندي شيرمان، مساعدة وزير الخارجية الأميركي، خلال زيارتها الأخيرة للهند، إنه يجب تسوية مزيد من التفاصيل بشأن المفاوضات النووية مع إيران، وإن هناك عدة تطورات على الصعيد الدولي من شأنها أن تخرج هذه المفاوضات عن مسارها.
وفي الداخل الإيراني، بحسب المصادر، تتزايد الشكوك بين قادة النظام، خاصة جماعة المرشد خامنئي، بشأن إمكانية التوصل لرفع فوري للعقوبات بمجرد توقيع الاتفاق النووي، بعد أن خرجت تسريبات غربية تقول إن العقوبات المفروضة على طهران لأسباب ترتبط بالإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، ستظل كما هي دون تغيير، مما يعني استمرار وجود عراقيل أمام الشركات الدولية في العمل في هذا البلد المتهم بنشر الفوضى والتطرف في المنطقة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.