«العراب»... صياغة معاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي

الرواية الأيقونة في خمسينية الفيلم

ماريو بوزو
ماريو بوزو
TT

«العراب»... صياغة معاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي

ماريو بوزو
ماريو بوزو

ليس ثمة فيلم سينمائي أنتجته هوليوود وترك بصمات لا تُنسى في الثقافة الشعبية داخل الولايات المتحدة، وعبر العالم، كما «العراب»، أو Godfather، الثلاثية التي قدمها المخرج الأميركي - الإيطالي فرانسيس فورد كوبولا. ويحتفل هذا العام بخمسينية عرض الجزء الأول منه (1972).
تحفة سينمائية متكاملة الأركان نصّاً وتمثيلاً، وإخراجاً وتصويراً وحواراً وموسيقى تركت بصمة لا تُنسى على صناعة السينما، وتحديداً أفلام العصابات، وغيَّرت نظرة الأميركيين للأقليات المهاجرة، لا سيما الإيطاليين منهم، وصاغت إلى حد بعيد تصورات كثيرين عن طبيعة تنظيمات الجريمة التي اتخذت من المافيا الإيطالية منهجاً لها، كما طرحت عدة أوجه نقدية لفكرة الحلم «الرأسمالي» الأميركي، على نحو لم يُطرح من قبل بهذا الشمول في أي منتج ثقافي موجَّه للاستهلاك الجماهيري.
النجاح البارق والمستحق لـ«العراب»، الفيلم لا ينبغي له أن يحجب القيمة الرفيعة للعمل الأساس الذي استند إليه: أي الرواية التي كتبها ماريو بوزو، الأميركي من أصل إيطالي، ونشرت في 1969 لتلقى نجاحاً فورياً هائلاً، إذ احتلت مكانة ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لما يزيد على العام، وباعت ما يفوق الـ25 مليون نسخة في ترجمات وطبعات عدة، وصارت النموذج لكل أدب يتعلق بالجرائم والمافيات.
لكن الحياة الأهم لهذه الرواية، التي تسجّل نوعاً من سيرة لزعيم مافيا إيطالية في نيويورك عبر مراحل حياته المهنية والشخصية المتعاقبة، امتداداً لتقاعده ونقله مقاليد السلطة لابنه، قد تكون صياغتها المعاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي - كنموذج للمجتمعات الرأسمالية الغربية، وتحليلها المعمق للصراعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تحكم مصائر الأفراد فيه، حتى صارت نوعاً من «إنجيل» للسياسة والقوة (وفق التعبير باللغة الإنجليزية) لا يستغني عنه كل معنيّ بفهم ديناميات صنع الأحداث المعاصرة داخل مؤسسات الحكم والسلطة الأميركية، حتى يمكن الزعم بأنه كتاب «الأمير المعاصر» على نسق ما كان كتاب «الأمير» لنيقوليو ميكافيللي دليلاً للسياسة والحكم في عصر النهضة، و«الأمير الجديد» لأنطونيو غرامشي في وصفه للحزب السياسي كأداة تقوم بدور «الأمير» الميكافيللي في مجتمعات الحداثة. وفي الواقع فإن عدداً من الكتب اعتمد مفاهيم مستلة من «العراب» لتحليل أوضاع سياسية معاصرة، ومن أحدثها «عقيدة العراب» لجون هولسمان وويس ميشل الذي يقدم تفسيراً لانعطافات السياسة الخارجية الأميركية منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، استناداً إلى المادة السياسية لرواية «بوزو».
لكن المفارقة أن صاحب رواية «العراب» لم يكن يوماً قريباً من السلطة أو مراكز صنع القرار، ولم يلتقِ في حياته - وفق تصريحاته للصحف - بأي زعيم عصابات حقيقي. فماريو بوزو الذي رحل عن عالمنا في 1999، كان قد ولد عام 1920 لأبوين أميين من المهاجرين الإيطاليين في حي هيل - كيتشين الشعبي في نيويورك، وهو يدين بفكرة شخصية «العراب»، التي تمزج بين الصرامة المطلقة والحنان الفياض إلى والدته التي تولَّت رعايته صغيراً مع ستة من إخوته، وإدارة شؤون العائلة بعدما أصيب والده بالشيزوفرانيا، وعُزِل في المستشفى، وأصبح مصدر دخل الأسرة معتمداً على التقدمات الاجتماعية من المؤسسات الحكومية؛ فمارست سياسة براغماتية لكن حاسمة لحماية أولادها من الأجواء الموبوءة بالجريمة والفقر من حولهم - تماماً كما يليق بأم إيطالية تقليدية، ليترك حضورها انطباعاً لا يُنسى في ذاكرة الابن.
وبحكم ظروفه المادية، كان بوزو الصبي الفقير يجد ملجأ للتحليق بخياله، وإزجاء الوقت في المكتبة العامة، حيث سحرته الروايات التاريخية كحكايات الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. شظف العيش دفعه للالتحاق بسكك الحديد كعامل إشارة، وهو لما يزال في الخامسة عشرة، لكن الكتب والقراءة بقيت شغفه، لدرجة أنه تسبب ليلة في تعطل حركة القطارات، عندما نسي، وهو مستغرق بقراءة رواية لدوستويفسكي، أن يغير الإشارات في الوقت المحدد.
شعوره بالحرمان والحصار في بيت مكتظ وأسرة متطلبة وحي فقير وتعليم محدود، دفعه لاتخاذ قرار بأن يخرج من الدائرة المفرغة للعيش في طبقة شعبية إلى فضاء أرحب، عبر امتهان الكتابة، وهو أمر وجدت أمه أنه مجرد جنون ولد مراهق. لكن فرصته أتت للخروج من ربقة ظروفه القاسية، مع انخراط الولايات المتحدة بالحرب العالمية الثانية، فسارع للالتحاق بالخدمة العسكرية في أوروبا، ولم يعد إلى نيويورك إلا عام 1949 بعد مهمة إضافية مع الجيش في الدعاية والعلاقات العامة استمرت لما بعد سنوات القتال. وإثر عودته، التحق بجامعة كولومبيا المرموقة لدراسة الكتابة الإبداعية، فكتب نصوصاً لمجلات شعبية قبل أن يصدر روايته الأولى «الساحة المظلمة» عام 1955، عن الحياة في ألمانيا بعد الحرب وبعدها بعقد «الحاج المحظوظ» - 1965. لكن تلك الأعمال لم تبع جيداً، وأصبح ماريو موضع سخرية العائلة والأقارب، فكان قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن حلمه، ويدع مسألة الكتابة تلك لوقت ما بعد التقاعد.
ما أوقفه عن ذلك حينها كان اقتراح من ناشر رواية «الحاج المحظوظ» بأن يكتب رواية عن المافيا، لكنه أصرَّ على قبض مقدم قبل الشروع في الكتابة، وهو أمر لم يقبل به ذلك الناشر، لكن ناشراً آخر وافق - إثر توصية من صديق - على منحه خمسة آلاف دولار أميركي لتلك الغاية. تردد وقتها، لكنه كان مفلساً تماماً، بل ومديناً بعشرين ألف دولار للأقارب والبنوك وبيوت المقامرات، فلم يجد بُدّاً من القبول.
ومع أن بوزو قضى سنوات يفاعته في أجواء حي شعبي تنتشر فيه الجريمة، وأنه لاحقاً خبر بيئة بيوت المراهنات والقمار، إلا أنه لم يلتق في حياته بزعيم مافيا حقيقي كما ذكرنا، ولذلك فإن كل «العراب» مستوحاة من بحث معمَّق أجراه في الكتب المتوفرة وتحقيقات الكونغرس عن أنشطة المافيا على الأراضي الأميركية. وللحقيقة، فإنه كسليل عائلة إيطالية من المهاجرين التعساء، فإن خبرته الإثنية كانت بعيدة تماماً عن الكليشيهات المتوقعة عن نظام عيش العائلات البرجوازية المتحدرة من هناك؛ فهو لم يسمع في طفولته أي غناء إيطالي في مناسبة عائلية، وكانت كل الشخصيات الإيطالية التي التقاها قاسية الطبع، أقرب للجلافة والجهل. وقد كبر ليدرك أن هجرة أهله وآلاف غيرهم من بلادهم إلى العالم «الجديد» لم تكن سوى نتيجة استمتاع تلك العائلات البرجوازية بملذات الحياة الباهظة على حساب مواطنيهم.
استفاد بوزو من تواتر الأنباء عن أنشطة المافيا وجرائمها وصراعاتها خلال الستينات من العقد الماضي ليخلق شخصيات وأحداثاً قريبة من الواقع على نسقها. ويقال إن شخصية الدون فيتو كورليوني مستمدة من فرانك كاستيلو (رئيس وزراء) المافيا الذي كان معروفاً بميله إلى حل المشكلات بالدبلوماسية، وعبر رشوة القضاة والسياسيين بدلاً من العنف.
استغرقت كتابة العراب وقتاً طويلاً، ولما أراد بوزو الحصول على سلفة مقدمة بقيمة 1200 دولار للذهاب مع عائلته إلى أوروبا، اضطر إلى أن يسلم الناشر نسخة من النص ليثبت تقدمه في العمل، فأعلمهم بأنه لن يغيب طويلاً، وأن تلك النسخة غير نهائية وتحتاج لكثير من التعديل وإعادة الكتابة لدى عودته. لكنه بعد فترة، تورط بديون لبيوت المراهنات تجاوزت الثمانية آلاف دولار، فلم يجد بداً من الاتصال بناشره لطلب المساعدة والحصول على سلفة إضافية، ليُفاجأ بالأخبار المذهلة: لقد تنافس عديدون لشراء حقوق نشر الرواية، وأن الناشر على وشك بيعها بما يقرب من نصف مليون دولار أميركي.
لم يجرؤ بوزو على المطالبة باستعادة النص لإجراء التعديلات التي كانت في ذهنه خوفاً من أن يخسر فرصة الثراء المفاجئ، إن غير الناشر رأيه، وهكذا نُشِرت الرواية دون تعديلات، لتحظى بنجاح تجاري فوري كبير. وقد قابل بعدها بعضاً من الشخصيات المرتبطة بالمافيا التي شككت بادعاء بوزو بأنه كتب روايته من الأبحاث فحسب، دون أن يكون هو نفسه مستشاراً لأحد العرابين على الأقل.
لم تكن رواية «العراب» مع ذلك ضربة حظ، بل نتاج سنوات طويلة من العزيمة والإصرار ومقارعة الأدب والقراءة المكثفة حتى أصبح روائياً محترفاً يُشار إليه بالبنان. أما ما الذي ألهمه لامتهان الكتابة من حيث المبدأ، فليس واضحاً تماماً. أهو الفقر، أم الولع بالقراءة، أو شخصية أمه الصارمة الحنون، أو ربما «الإخوة كارامازوف»، كما قال في إحدى المقابلات. لكننا اليوم مدينون له لقراره ذاك، مهما كانت دوافعه.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.