الكاتب الأوكراني أندري كوركوف: لا يوجد ما يدعو للضحك في بلدي

تدور أحداث روايته التي ستنشر الشهر المقبل في «دونباس»

أندري كوركوف
أندري كوركوف
TT

الكاتب الأوكراني أندري كوركوف: لا يوجد ما يدعو للضحك في بلدي

أندري كوركوف
أندري كوركوف

كتب أندري كوركوف حول القتال بين روسيا وأوكرانيا قبل وقت طويل من غزو الخميس الماضي. لكنه الآن، وأكثر من أي وقت مضى، يرغب في أن يشرح ذلك الأمر للعالم.
وأندري كوركوف، أحد أشهر المؤلفين في أوكرانيا، وغالباً ما يُطلق عليه اسم الروائي الهزلي لتأليفه كتباً مثل «الموت والبطريق» الذي يدور حول كاتب للنعي يتبنى بطريقاً من حديقة حيوانات متداعية.
لكن منذ أن اجتاحت روسيا بلاده، الخميس الماضي، يقول كوركوف إنه «لم يشعر بأنه مستعد للضحك على أي شيء». وأضاف، في مقابلة هاتفية من منزله في كييف، يوم الخميس، أنه توقف عن كتابة رواية جديدة، وكان يكرّس وقته للتحدث مع المراسلين لشرح ما يجري في بلاده.
ظل كوركوف يلفت الانتباه بشكل واسع إلى العدوان الروسي على أوكرانيا. وتدور أحداث روايته بعنوان «النحل الرمادي» في 2018، من المقرر إطلاقها في الولايات المتحدة في أبريل (نيسان) المقبل، في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، حيث أعلن المتمردون الموالون لروسيا، استقلال مدينتي دونيتسك ولوغانسك في 2014.
تحكي الرواية قصة رجلين مسنين يعيشان في المنطقة المحايدة بين مواقع الجيش الأوكراني والانفصاليين، ويبدو أن أحدهما يهتم بتربية النحل أكثر من الصراع الدائر حولهما.
تحدث كوركوف في المقابلة عن رواية «النحل الرمادي»، وكيف سوف تغير الحرب الراهنة من الأدب الأوكراني وآماله الشخصية في المستقبل. وفيما يلي مقتطفات محررة من الحوار:

> تعيش في موطنك في كييف... كيف تبدو الحياة بالنسبة لك؟
- حسناً، كنا نبحث عن مأوى في أول الأمر، لأن الجيران بدأوا يصرخون لقرب قدوم غارة جوية، لكن بدلاً من المأوى، انطلقنا إلى فندق راديسون ومكثنا هناك لنصف ساعة. ثم ذهبنا إلى صديق لديه مأوى في منزله. لكنه كان رثاً للغاية وليس لطيفاً بالمرة. زادت الانفجارات من حولنا، وبعدها ساد الهدوء فرجعنا إلى المنزل.
> سيحاول بعض القراء تناول رواية «النحل الرمادي» للوقوف على خلفية الصراع الدائر... لماذا قررت الكتابة عن الحرب السابقة في شرق أوكرانيا؟
- حسناً، لم أكن أخطط لتأليف هذه الرواية، لكننا شهدنا تدفقاً كبيراً للاجئين من دونباس إلى كييف في 2014، والتقيت رجل أعمال شاباً من دونيتسك اعتاد قيادة سيارته كل شهر إلى قرية ليست بعيدة عن خط المواجهة، وهناك ظلت سبع عائلات كاملة بلا متاجر، وبلا كهرباء، وبلا شيء البتة. كان الشاب يجلب لهم الأدوية، وأي شيء آخر يحتاجون إليه، وكانوا يردون الصنيع بمنحه جراراً مليئة بالخضراوات والمخللات المحفوظة.
> هناك شخصيتان رئيسيتان في الرواية تتعاملان فقط مع الحياة اليومية، ولا يبدو أنهما يكترثان كثيراً لأمور السياسة أو الحرب.
- يريد الناس البقاء على قيد الحياة فحسب. ويحاول الناس التكيف مع ظروف الحرب، إن لم تنجح في تدميرهم شخصياً. ذهبت ثلاث مرات إلى هناك، وتبين أنه حتى الأطفال يمكنهم إخبارك أي صاروخ أو لغم تسبب في الانفجار من صوته فقط. لقد صارت الحرب أمراً معتاداً بل جزءاً من الحياة اليومية.
> نظراً لأنك عاينت الصراع من قرب، فهل توقعت الغزو في السابق؟
- كلا، حتى قبل عدة أسابيع مضت، لم أكن أعتقد أن ذلك سيصبح أمراً واقعاً. ثم لاحظت أن بوتين صار طاعناً في السن وبسرعة كبيرة، وأصبح يتحدث مثل ستالين قبل رحيله. يحلم بوتين بعودة الاتحاد السوفياتي للحياة، ويصف كل مَن لا يحب روسيا، مع فهمه للغة الروسية، بالخونة. وهو يعشق اغتيال الخونة.
> ما سبب هذا الغزو؟
- تعتبر روسيا أوكرانيا داخل مجال نفوذها الطبيعي، وقد ارتفعت التوترات لدى موسكو إثر اقتراب أوكرانيا من الغرب، واحتمال انضمامها إلى حلف «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي، مع أن أوكرانيا ليست جزءاً من أي منهما، وتأتيها المساعدات المالية والعسكرية من الولايات المتحدة ومن أوروبا.
> هل بدأت التوترات الراهنة للتو؟
- احتدم الصراع بين البلدين منذ عام 2014، عندما دخل الجيش الروسي إلى الأراضي الأوكرانية، إثر انتفاضة اندلعت في البلد أسفرت عن تغيير رئيسها الصديق لروسيا بحكومة موالية للغرب. ثم ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ودعمت الحركة الانفصالية في الشرق. جرى التفاوض على وقف لإطلاق النار في 2015، غير أن القتال لم يتوقف.
> كيف وقع الغزو؟
- بعد تعبئة الحشود العسكرية بالقرب من الحدود الأوكرانية لعدة أشهر، وقع الرئيس الروسي في 21 فبراير (شباط) على مراسيم تعترف بمنطقتين انفصاليتين مواليتين لروسيا في شرق أوكرانيا. وفي 23 فبراير، أعلن عن بدء «عملية عسكرية خاصة» في أوكرانيا. ثم تمخض الأمر منذ ذلك الحين عن عدة هجمات على المدن في جميع أنحاء البلاد.
> ما تأثير الاضطرابات في أوكرانيا على الأدب في البلاد منذ 2014؟
- لم يكن هناك أدب حرب قبل اندلاع النزاع. كانت المؤلفات في أغلبها تتناول قضايا الجنس، والمخدرات، وموسيقى الروك آند رول - وروايات الجريمة بالطبع. بيد أن الحرب الجارية ستخلق أدباً موازياً - أدب يألفه المحاربون القدامى، وبعض المتطوعين. ربما يتخذ هؤلاء المؤلفون طريقهم فعلياً إلى الخطوط الأمامية الآن.
إذا تجاوزت أوكرانيا تلك الأزمة، فسوف تبدع المزيد من الأدبيات الحربية، لكن ذلك لا يعني أن الأدب سوف يتطور إلى الأفضل. وإنما يعني فقط أن الأدب سيكون أكثر تسييساً من قبل، مثل الأدب السوفياتي، لكن بنوع مغاير من الدعاية أو الأفكار الوطنية.
> يبدو أن هذه التطورات تثير قلقك...
- أجل إنها كذلك، لأن في روسيا، الكتّاب تقليدياً يخدمون الحكومة وتوجهاتها الآيديولوجية. لكن في أوكرانيا، الكتّاب لا يخدمون سوى أنفسهم وقرائهم. أعني أن الحكومة لا تعبأ أبداً بما يؤلفه الكتّاب. ولهذا السبب، لدينا الكثير من الكتب عن الجنس والمخدرات وموسيقى الروك، من دون الكثير عن التاريخ الأوكراني.
> بالإضافة إلى التحدث للمراسلين، كنت ضيفاً بمقالاتك على بعض الصحف والمجلات الأخرى لتتناول الأوضاع الجارية في أوكرانيا... فما الرسالة التي تريد إبلاغها إلى قراء «نيويورك تايمز»؟
- أود، بصفة عامة، شرح الفرق بين الروس والأوكرانيين، والفارق بين التاريخين الروسي والأوكراني، وبين العقليتين الروسية والأوكرانية، نظراً لأن بوتين وكل رفاقه يكررون في كل يوم أن الأوكرانيين والروس متماثلون - وأننا إخوة ويتعين علينا أن نتعايش معاً. هذا غير صحيح بالمرة. وهي قصة طويلة للغاية. كان الأوكرانيين، عبر ثلاثة قرون من الزمان، مستقلين تماماً عن القياصرة الروس، وعن أي نوع من الحكم الإمبراطوري.
> بالنسبة لقرائنا الذين يتطلعون إلى معرفة أوكرانيا في هذه اللحظة، ما الكتاب الذي تقترح عليهم قراءته؟
- هناك المؤلفون المفضلون لدي الذين يمكنني ترشيحهم، مثل «ماريا ماتيوس» - إنها من بوكوفينا بالأساس، بالقرب من الحدود مع رومانيا. وهي مؤلفة واحدة من أفضل الروايات التي كُتبت منذ الاستقلال بعنوان «داروسيا الحلوة». وتدور حول قريتين من بوكوفينا، والحياة هناك من عشرينات إلى تسعينات القرن الماضي. إنها تتناول أموراً مروعة، لكنها مكتوبة بلغة رائعة، تجعلك تحب كل شخصيات الرواية وتتعايش معها. إنها رواية مفعمة بعاطفة قوية للغاية.
> ما الذي تأمل أن يحدث الآن؟
- حسناً، أملي الوحيد أن يجد العالم طريقة لإيقاف بوتين ليترك أوكرانيا بسلام، لأن هدفه هو تدمير البلاد والقضاء على استقلال أوكرانيا. وإذا حدث ذلك، فسوف يغادر نصف السكان إلى أوروبا، مهاجرين أو لاجئين، وسوف يأتي الروس على كل ما تبقى من البلاد، وسوف يتصرفون مثل البلاشفة عام 1917، لن يختلفوا عنهم في شيء.

* خدمة «نيويورك تايمز»



«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية
TT

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة، مع أن مؤلفه الروائي حسن كريم عاتي أصرَّ على تجنيسه على غلاف الكتاب بالرواية.

فالكتاب يفتقد المقومات المعروفة للبنية الروائية ومنها الراوي والمروي له، والمتن الروائي بما فيها من حدث وشخصيات وأزمنة وحوارات ومخلوقات من لحم ودم، وقد يدفع هذا القارئ إلى القول بأن هذا الكتاب عبارة عن مدونة تاريخية عن مدينة بغداد، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور عام 144 هجرية وحتى اليوم، بلغة تدمج بين التاريخ ولغة السرد الروائي الحديث.

ولكني، مع كل ذلك، وبرغم كل هذه التحفظات أرى أن هذا النص هو حقاً رواية، لكنها رواية من نوع خاص واستثنائي، وربما يُستحضر مفهوم الرواية هنا من الموروث العربي والإسلامي، حيث كان هذا المفهوم ينصرف إلى نقل وتدوين الوقائع والأحداث التاريخية، أو تناقل الأحاديث النبوية مع الاحتفاظ بسندها ورواتها بما يتفق و«علم الجرح» أو «علم الرجال» في الموروث العربي.

هذه الرواية تتخذ من المكان بطلاً، والمكان هنا مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد، وسيرورتها نحو الشيخوخة وصولاً إلى الحاضر. لذا يمكن النظر إلى الرواية هذه بوصفها سيرة أو ترجمة يدونها روائي معاصر لمدينة بغداد، بعد أن أشبعها المؤرخون المتقدمون منهم والمتأخرون دراسةً وتدويناً ووصفاً.

ولا يعمد المؤلف، في البنية الزمنية للرواية إلى التسلسل التاريخي الرسمي أو الكرونولوجي للأحداث، بل إلى منطق حجر النرد وأوجهه الستة، مستهلاً روايته بـ6 تساؤلات، بعدد أوجه حجر النرد، ويتساءل في الفقرة السادسة عما إذا كان ما سيرويه يمثل الحقيقة:

«تساؤلات ستة، تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادة الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم»، (ص7). لذا يعمد المؤلف بين آونة وأخرى إلى تقليب أوجه النرد باستمرار: «فلنحاول مرةً أخرى تقليب وجه آخر من وجوه حجر النرد» (ص10).

كما تتحول وجوه حجر النرد هذه إلى تمفضلات للبنية السردية للرواية على الوجه التالي: كوكب الهوى (يك)، أساور العروس (دو)، هل أتاك حديث المغل (سي)، هناك من يستذكر الملك (جهار)، أم يأكل الأبناء ثديها (بنج)، الدكتاقراطية (شيش). لكن الباب الثالث الموسوم بـ«باب المراد» يتحرر نسبياً من سلطة النرد.

والرواية لا تعتمد على التاريخ الرسمي، في سرد تشكل مدينة بغداد ونموها عبر التاريخ، بل إلى ما هو مهمش وعرضي ومسكوت عنه من تاريخها، كما نجد تناصات كثيرة مستقاة من كتب تاريخية عن بغداد؛ منها «تاريخ بغداد» لابن الخطيب، و«الروض المعطار في خير الأمصار» للصنهاجي، ومن رسائل سلطانية مختلفة، تضع الخطوط العريضة لكيفية قيادة السلطان أو الخليفة أو الوالي لشؤون الرعية، بما يصح أن نسميه بكتاب «الأمير العربي» الذي سبق كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيلي.

ويلعب المؤلف لعبة نرد أخرى يكشف فيها عن التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة: «وبتقليب وجهٍ آخر من وجوه النرد، تبدو الصورة أقرب إلى الكمال، ولن تكتمل، فإن التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة»، (ص11). ويشير إلى أن «هذا النسق من هيمنة السلطة على (الرعية) أو (العامة) هو القانون المتوارث في سياسة السلاطين لتحقيق اجتماع الرعية وسلامة بقائهم يزفه سلطان في فم سلطان»، (ص12).

ويبحث الروائي في الأسباب التي جعلت الخليفة أبا جعفر المنصور يختار مدينة بغداد عاصمةً بديلة له عن الهاشمية التي اتخذ منها أسلافه عاصمة عند تأسيس الدولة العباسية. فقد كان الخوف يتسرب إلى نفسه من ولاءات الأنصار والمدن البعيدة والقريبة. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة، والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً؛ ولذا - وبعد استقصاءات طويلة - قرر ترك مدينة الهاشمية التي اتخذها أسلافه عاصمة لهم، والبحث عن مكان بعيد عن الولاءات المعروفة، فكان أن وقع اختياره على مدينة بغداد لتكون عاصمة المملكة. «ذلك ما كان يفكر به الخليفة، ولو قال له اليعقوبي، ما كان له بعد بنائها... لما خطر ببال الخليفة أن تكون كما قال جزيرة بين دجلة والفرات، دجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا... فهي واسطة العقد، في مدن الزمان، على ما أجمع عليه قول (الحساب) وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء»، (ص23). «وبذا كان اختيار الخليفة لعاصمته الجديدة، فترك الهاشمية وبدأ ببناء مدينة بغداد سنة 145»، (ص28).

وعند تقليب حجر النرد على الوجه «دو» يبتدئ فصل «أساور العروس» بدخول الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور، على بغلة بيضاء مرتدياً قلنسوة الحرب السوداء، وهو يشاهد العرض العسكري، يحف به، وخلفه رجال دولته (ص29)، وتدور رحى الحياة بحلوها ومرها، ويتوالى خلفاء بني العباس إلى أن يدخل عليهم الأعاجم ويجتزون رأس آخر خلفائهم ويرفعونه على باب المدينة المقابل للجسر. (ص39).

ويكشف النرد في حركته الجديدة على الوجه «سي» حكاية دخول المغول، أو المغل، بغداد، واحتلالهم مدن الخلافة من الموصل إلى أسوار بغداد، ونشرهم الرعب بين الناس: «فقد وصلتنا قوافل الهاربين من الموصل إلى أبواب دار السلام»، (ص41).

وفي محاولة لمواجهة هذا الغزو المغولي، جمع الخليفة أمام أبواب المدينة جيشاً بـ800 فارس، هي كل القوة التي استطاع جمعها، لكن جيش المغول كان كبيراً ووحشياً؛ لذا فسرعان ما سقطت بغداد عندما حاصرت جيوش المغول أسوار بغداد وأمطرتها بقذائف النفط والحجارة، ووضع المغول الخليفة داخل كيس جلدي وقُتل رفساً، وهكذا انتهت الدولة العباسية واستبيحت بغداد من قبل المغول أيما استباحة. وفي نقلة جديدة لحركة حجر النرد «جهار» ينتقل المؤلف زمنياً، وهو يؤرخ لبغداد، إلى العصر الحديث عندما عين الإنجليز الملك فيصل الأول ملكاً على سوريا، ثم نقل إلى العراق. وكان العراق قد تخلص للتو من ربقة 4 قرون من الاحتلال العثماني الذي حكم زوراً وبهتاناً تحت اسم الخلافة الإسلامية، ليسقط تحت حكم كولونيالي جديد باسم الانتداب البريطاني على العراق، والذي قوبل بثورة شعبية عارمة، هي ثورة العشرين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1920، التي أجبرت الإنجليز على مراجعة خططهم والتخفيف من وطأة الاحتلال بسلسلة من الإجراءات الشكلية، منها تأسيس مجلس النواب، ومجلس الوزراء، وبناء جيش وطني تحت مظلة الدولة العراقية الجديدة.

وفي نقلة جديدة لحجر النرد «بنج» ينتقل المؤلف إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وقد فزعت بغداد لمقتل ملكها الشاب غازي بحادث سيارة، يتهم فيه الناس الإنجليز بتدبيره؛ لذا امتلأت الشوارع بالمحتجين والمتظاهرين المنددين بالسيطرة البريطانية، وبالثأر لدم الملك الشاب. ويستمر نضال الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية في وثبة كانون 1948، وانتفاضة 1952، واختتمت بثورة 14 تموز عام 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، بإعلان النظام الجمهوري ونهاية الحكم الملكي في العراق. لكن السرد سرعان ما يقودنا إلى صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجى على الأرض بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من البعثيين الذين مارسوا أبشع أنواع التقتيل والاضطهاد بحق العراقيين. ونجد نقلة أخرى سريعة لحكم أحمد حسن البكر، وإرغامه من قبل صدام حسين على التنازل، في مجزرة «قاعة الخلد» المشهورة.

وفي حركة جديدة لحجر النرد «شيش» يدون الروائي سلسلة جرائم البعث وقائده الديكتاتور صدام حسين، ومنها اجتياحه الإجرامي للشقيقة الكويت، وقبل ذلك حربه الدموية مع الجارة إيران، مما جرّ البلاد إلى المزيد من الويلات منها حرب الخليج لطرد جيش صدام من الكويت التي كان ضحيتها الجيش العراقي. ويستمر مسلسل العنف والانهيار حتى دخول قوات المارينز الأميركية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وكان إسقاط تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس كناية عن هذا السقوط وانتهاء حكم دولة البعث وهيمنته الكولونيالية الأمريكية.

وفي الفصل الثالث والأخير من الرواية الموسوم بـ«باب المراد» يدون الروائي، بوصفه مؤرخاً، تفاصيل جديدة لم تستخدم في وجوه حجر النرد المعروفة، جانباً من معاناة الأسرة العراقية التي ثكلت بأبنائها، ومظاهر الفجيعة التي طالت الزوجة والأبناء حيث يصرخ طفلٌ اكتشف حقيقة موت أبيه: «هل يعني ذلك أني أصبحت من دون أب؟!» (ص105). ويعمد الروائي إلى توظيف المفارقة الساخرة أمام جثة القتيل، عندما تعلن الزوجة الثكلى، في لون من الكوميديا السوداء، أن هذه الجثة ليست لزوجها: «الجثة التي أتوا بها لم تكن حليقة العانة، وزوجي قبل ذهابه بـ3 أيام قد حلقها»، (ص106).

وينتقل الروائي من سرد المتن الرسمي إلى سرد الهامش وعالم المهمشين في لقطات متتابعة منها لقطة الفتيات وهن يحملن جرار الماء، ويتوقف أمام منظر مدينة من مدن الطين هي مدينة الشاكرية في جانب الكرخ، التي وجدت مثيلاً لها في الكثير من مناطق بغداد آنذاك: «فالشاكرية في كرخها بين العباسية من شمالها الشرقي، وحتى الكاورية في جنوبها الشرقي، ومن أم العظام في جنوبها حتى محطة غربي بغداد لسكك الحديد، مدينة طين»، (ص115). لكن الشاكرية لم تكن مدينة الطين الوحيدة، فقد تكاثرت مدن الطين في شرق العاصمة وغربها، مثل خلف السدة المسماة بـ«العاصمة» في الرصافة، والوشاش في الكرخ. ويكشف الروائي عن ثمرة هذه المعاناة التي تمثلت في الجذور الأولى لحركة الاحتجاج السياسي متمثلة في شخصية «دوسر» ابن الشاكرية الذي فقد عينه بسبب النضال من أجل الصرائف. (ص122).

تتخذ الرواية من لعبة النرد فضاء سردياً تتمثل من خلاله سيرة مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد والمخاطر التي واجهتها حتى الحاضر.

وفي مظهر آخر للكوميديا السوداء يقدم لنا الروائي مشهداً لصاحب بغل (مجاري) فَقَدَ بغلَه وقيل له أن يبحث عنه في هذا الباب، إذ شوهد وهو يدخل هذه البناية، التي كانت مبنى لمجلس النواب (ص125). وعندما روى «دوسر» ابن الشاكرية هذه الحكاية نصحه أحدهم بأن يتجنب سرد هذه الحكاية لكيلا يقولوا عنه إنه من المعادين.

وفي الفصل الأخير «هامش سفر النرد» نكتشف أن المؤلف كان قد وضع عنواناً ثانوياً لمؤلفه هو «سفر بغداد»، وكان ينبغي أن يدرج ولا يحذف كما هو الحال. وبعد أن يستشهد بمقولة دالة للتوحيدي، يختتم الرواية بالقول، ملخصاً تاريخها، الذي يتوج الإنسان على قمة التاريخ والمكان: «فما حدث في بغداد حدث في غيرها من بلاد العرب والعجم، وفي دار السلام وفي دار الحرب، فهو يتصل بالإنسان أكثر من اتصاله بالمكان»، (ص127).

ومن هنا نكتشف أننا إزاء رواية من نوع خاص، قد تتجاوز التجنيس الرسمي لفن الرواية، كما أسلفت، لكنها تظل رواية فيها من الطرافة والجدة الشيء الكثير؛ لأنها تعتمد على التخييل والتاريخ معاً، وتتطلع إلى إجازتها مصنفاً معتمداً: «لإشاعتها بين الخاصة والعامة، ونسبتها إلينا، ونستغفر الله لك ولنا وللعامة». (ص128).

إنها حقاً تجربة كتابية جديدة وفريدة لم نشهد لها مثيلاً في التأليف الروائي، نجح فيها الروائي في بناء رواية تاريخية من مداد افتراضي تخييلي، وبطريقة ذكية ونادرة تستحق الإعجاب والثناء.