«الجمال المضاد»... تأملات نقدية في الفن والعمارة

سمير غريب يكشف جوانب من تاريخ الحركة التشكيلية العربية

من أعمال الفنانة السعودية سارة العبدلي
من أعمال الفنانة السعودية سارة العبدلي
TT

«الجمال المضاد»... تأملات نقدية في الفن والعمارة

من أعمال الفنانة السعودية سارة العبدلي
من أعمال الفنانة السعودية سارة العبدلي

يستهل الناقد التشكيلي سمير غريب كتابه «الجمال المضاد» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالإشارة إلى بعض المفاهيم التأسيسية التي يستند إليها في عمله، منها مرجعية الناقد في الحكم على الأشياء والتي تأتي من توافر عناصر مهمة، يرى أولها التمتع بالخيال الرحب، إذ لا يمكن أن يحاكم الناقد عملاً فنياً يقوم على الخيال دون أن يمتلك هو نفسه خيالاً مقابلاً، مؤكداً أنه إذا كان الفنان مبدعاً فالناقد أيضاً كذلك مع اختلاف الوسيلة، فضلاً عن أهمية تمتعه بذوق شخصي والكثير من الثقافة العامة والتمكن من اللغة التي يكتب بها على نحو يجعله يمتلك أسلوباً خاصاً به في النقد، لافتاً إلى أن هناك النقاد الطليعيين المنفتحين على الابتكارات الفنية المتمردة والثورية، مقابل الرجعيين الذين يدافعون عن نظام التفكير والقيم والفن المألوف اجتماعياً الذي يتوافق معهم.
يقع الكتاب في (431) صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن تأملات نقدية في الفن والعمارة عربياً وعالمياً، سواء عبر استعراض نماذج تطبيقية، ورصد لمحطات وجوانب مهمة من تاريخ التشكيل العربي والفن عموماً. ويتوقف المؤلف عند عام 1550 الذي شهد صدور كتاب جورجيو فاساري «حياة أبرز المهندسين المعماريين والرسامين والنحاتين الإيطاليين» حيث يعد الأول في تاريخ الفن والفنانين ويمكن تسميته التاريخ النقدي لعصر بأكمله لأن فاساري لا يوثق تطور فن عصر النهضة فحسب، بل يضع أيضاً معايير للقيمة الفنية ويطرح على أساسها تسلسلاً هرمياً للفنانين.
ويوضح أن النقد الفني نما بشكل كبير في القرن التاسع عشر عندما بدأ الفنانون في صنع أعمال ذات مستقبل غامض بدلاً من العمل مع الكنيسة أو الدولة التي طالب مسؤولوها في كثير من الأحيان الفنانين بالالتزام الآيديولوجي والأسلوبي فأصبح الفنانون مستقلين ومنتجين متحمسين لسوق لم تكن موجودة من قبل بالطبع. ويرصد غريب في هذا السياق أصداء دعوة الفنانين الانطباعيين مثل كوربيه ومانيه إلى نظريات جديدة جذرية في التصوير متقمصين دور الدعوة النقدية في وقت لم يكن فيه النقاد المعاصرون لهم يدعمون التطورات الطليعية في كثير من الأحيان، حيث كان للمصورين ما بعد الانطباعيين بول غوغان وفينسنت فان جوخ اللذين استفادا من التطورات التقنية وبخاصة اللونية لدى الانطباعيين حظ نقدي أفضل تمثل إلى حد كبير في شخص الناقد الفرنسي العظيم ألبير أوريه الذي كتب أول مقال على الإطلاق عن فان جوخ 1890 وقدم فيه رؤية إيجابية للغاية.

حكاية «آمي نمر»
ومن التنظير إلى التطبيق، يفرد المؤلف مساحة كبيرة لنموذج نسائي خاص لا يحظى بالأضواء في تاريخ الحركة التشكيلية العربية متمثلاً في الفنانة المصرية آمي نمر (1898 – 1962) التي سافرت إلى إنجلترا حيث درست في مدرسة «سلاد» للفنون الجميلة بلندن كما تعلمت الفن في باريس وروما، وتزوجت عام 1932 من والتر سمارت المستشار الشرقي الموصوف بالمثقف المستنير للسفارة البريطانية في القاهرة. كان سمارت متخصصاً في الدراسات الفارسية والعربية، وحصل على لقب «سير»، وهو أول من أتاح فرصة عمل للورانس داريل، مؤلف رواية «رباعية الإسكندرية» الشهيرة، في وزارة الإعلام البريطانية. كانت فيلا الزوجية الفاخرة التي أقامت فيها آمي في حي الزمالك مخصصة لكبار الموظفين البريطانيين في مصر، وكانت هي وزوجها يستضيفان فيه شخصيات من كل الشرق الأوسط وأوروبا. وعلى سبيل المثال، زار الشاعر والمتمصر جون موسكاتيللي عام 1937 بيت آمي في الزمالك ووصفه في حديث معها نشرته جريدة «الأسبوع المصري» باللغة الفرنسية، ومما جاء فيه: «استقبلتني في مرسمها الوردي اللون حيث بعض اللوحات معلقة على الحائط، لوحات أخرى مبعثرة، بيانو في ركن وفوقه بعض التحف. قالت لي إنها لا تلعب البيانو لكنها تحب أن تستمع إلى أصدقائها عندما يعزفون عليه وبخاصة عندما يعزف أحدهم عملاً لباخ. يواجه مكتبها نافذة يرى الواحد منها الشمس في سماء حي الزمالك».
ظهرت موهبتها في الرسم مبكراً فأرسلها والدها لتتعلمه في إنجلترا وكان عمرها خمسة عشر عاماً، بعد ذلك ترددت على مرسم والتر سيكرت، صديق الفنانين الفرنسيين ديجا ومونيه، وتعلمت منه التأثيرية. عندما عادت إلى مصر كان عليها أن ترسم بمفردها لخمس أو ست سنوات، وفي باريس اهتم بها الفنان والناقد الفرنسي أندريه لوت.
كان عمرها سبعة عشر عاما عندما أقامت معرضها الأول، ووافق منظمو «صالون الخريف» على مشاركتها بلوحتين هما «عاطفة» و«مشهد من مقهى». في عام 1928 عرضت لوحتها عن طبيعة صامتة في غاليري «وارين» في لندن في معرض مشترك مع الروائي الشهير د.ه.لورانس. وفي عام 1930 شاركت في معرض بعنوان «زهور وفواكه» في غاليري «فيرتهيم» في باريس، ثم في عام 1932 حظيت بشرف اختيار لوحتين من لوحات الوجوه التي رسمتها لتشارك بهما في معرض «مائة عام من التصوير الفرنسي للوجوه منذ آنجر»، كما شاركت في معرض صالون القاهرة. وكانت آمي نمر أول من اقترح منح الفنانين المصريين الشبان تفرغاً لدراسة الفن خارج مصر وبالتحديد في إيطاليا، الأمر الذي طبّقته الدولة بعد ذلك من خلال إقامة «الأكاديمية المصرية للفنون بروما» كما كانت أول فنانة تذهب إلى صحراء أسوان في صعيد مصر لترسم الروح الشرقية المتوهجة.
في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين تعرفت آمي على جورج حنين، مؤسس الحركة السريالية في مصر، وتعرفت معه على باقي أعضاء جماعة «الفن والحرية» المعبّرة عن هذه الحركة. اشتركت معهم في معارضهم التي أقاموها في الأربعينات في القاهرة تحت عنوان «الفن الحر». من هنا دخلت آمي عالم السريالية التي ظهرت في لوحاتها بطابعها الخاص حيث اتسمت بالتشاؤم مع الاهتمام بدراسة الضوء وبدت أشكالها أقل نحتية وألوانها باردة، كما كشفت موضوعاتها عن أحلام مصحوبة بشكوك تجاه الواقع فكانت تميل إلى تصوير شخوص تبدو مصابة بفقر الدم. ومن لوحاتها السريالية «دراسة تحت الماء» تصور فيها هيكلاً عظمياً تغمره الأسماك ببرودة وهدوء.

فنانات سعوديات
وتحت عنوان «تأملات عربية» يشير غريب إلى أنه فوجئ بحجم المعارض التي شاركت فيها فنانات سعوديات، والأمر لا يتوقف عند الكم فقط فقد فوجئ كذلك بحجم التميز في أعمال عدد كبير منهن مثل جوهرة آل سعود، ومنال الدويان، والشقيقتين رجاء وشادية عالم اللتين شاركتا في «بينالي فينسيا الدولي 2011» في أول وجود لاسم المملكة في هذا البينالي العريق. وهناك أيضاً هبة عابد التي شاركت في بينالي فينسيا أيضاً عام 2013 مع سارة العبدلي ونورا بوزو وغيرهن كثيرات ممن درسن الفنون ويعرضن في أوروبا والولايات المتحدة على نحو يغيّر صورة المرأة الخليجية التقليدية لدى الرأي العام الغربي.
ويبدي غريب اهتماماً خاصاً بتجربة جوهرة آل سعود، مشيراً إلى أنها درست نظرية الفيلم وحصلت على ماجستير في الفنون وهي من الفنانات التي تفصح أعمالهن بوضوح عن توجه نسوي، مشدداً على أن هذا التوجه لا علاقة له بقيمة العمل الفني، فالإبداع يقيّم في ذاته ولا علاقة له بجنس المبدع. ومن أعمال جوهرة المتميزة في ذاتها تلك الأعمال الطباعية بالأبيض والأسود الداكن التي تبدو تعبيراً عن صبر الأنثى وشغلها اليدوي في بناء نسيج قوي أو بناءٍ صرحيّ في حجم اللوحة.

مليكة ورسلان
وعلى الطرف الآخر من العالم العربي، وتحديداً في المغرب، يلفت المؤلف إلى أن هناك من تذكّرك بجوهرة السعودية وهي الفنانة مليكة صقلّي، فقد تعلمت الفن وتعرضه في أوروبا والولايات المتحدة كما تفصح أعمالها هي الأخرى عن نسويتها، يبرز ذلك على نحو خاص في سلسلة رسوماتها «بالأبيض والأسود» التي سمّتها «مشربية» واستوحت فيها تشكيل المشربية للضوء والظل وعلاقته بالملامح الأنثوية. وبالمكان كحامل لرؤية وتاريخ.
ومن الأجيال الأكثر حداثة في مسيرة الفن المصري المعاصر، يتوقف غريب عند تجربة الفنان المصري أشرف رسلان الذي يعيش وحيداً في مرسمه الصغير خارج أطراف مدينة القاهرة، لا شيء يصاحبه سوى الموسيقى. اختار الحياة في مكان ناءٍ يضم بعض الفنانين وقليلاً من البشر، يلتقط ملامحهم ويرسمهم بأسلوب مشرق يجنح إلى التشخيصية وإن لم يرسمهم يرسم طبيعة صامتة أو بيوتاً على وشك الكلام أو واحداً من البشر يتنفس في بيت صامت.
يشار إلى أن سمير غريب، أحد الباحثين الدؤوبين في الفن التشكيلي، ومن أبرز مؤلفاته «السيريالية في مصر»، و«في تأريخ الفنون الجميلة»، و«معارك العمران». شغل عدداً من المناصب المهمة منها: مدير الأكاديمية المصرية في روما، ورئيس كل من صندوق التنمية الثقافية، ودار الكتب والوثائق القومية، وجهاز التنسيق الحضاري.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.