حكاية الرجل الذي ظل يضحك حتى في مماته

«فم يملؤه التراب» للسلافي شيبانوفيتش بترجمة عربية

حكاية الرجل الذي ظل يضحك حتى في مماته
TT

حكاية الرجل الذي ظل يضحك حتى في مماته

حكاية الرجل الذي ظل يضحك حتى في مماته

تضعنا رواية «فم يملؤه التراب» (دار أثر/ 2021)، أمام تجربة روائية تنضاف لتراث الرواية العالمية المترجم إلى اللغة العربية، بالتحديد عن الأدب السلافي الذي خبر القارئ العربي بعض عوالمه تأسيساً من رواية «جسر على نهر درينا» لإيفو أندريتش (1892/ 1975). والواقع أن فرادة هذه التجربة التي أقدم على ترجمتها بكفاءة واقتدار الروائي أحمد الويزي، تتمثل في طبيعة الصوغ الروائي التجريبي. فالروائي برنيمر شيبانوفيتش (1937/ 2020)، اختار بناء الرواية معتمداً التداخل بين نصين: نص إطار يشكل نواة الرواية. ويتفرع عنه/منه نص مؤطر يستكمل البناء ويوسع دوائر المعنى. من ثم يتناوب على مستوى الحكي النصان وفق التمييز بين خطين: باهت ومضغوط، إذ وحتى في غياب التفريق، فإن وجهة النظر المعتمدة التي يحيل عليها الضمير (نحن)، في مقابل الغائب (هو)، تقود إلى التصور الشكلي للكتابة الروائية التي تعد اختياراً للإنجاز الروائي.
تنفتح الرواية على النص - الإطار وتنغلق عليه. وترتبط بشخصيتين: واحدة تحمل الاسم العلم «ياكوف» والثانية بدون اسم، وتعتمد ضمير المتكلم (نحن). وأما الحكاية فتتجسد في كونهما قطعا شوطاً من رحلتهما بالقطار، ليتحقق اجتياز البقية مشياً على الأقدام. وأمام منظر طبيعي نصبا خيمة بحثاً عن الاستقرار والراحة. لكنها تكسرت عند رؤية شخصية تأتي في نظرهما أفعالاً غريبة:
«كان ذلك الشخص الذي تراءى لنا، مثل نقطة سوداء غامقة. شبيهاً إلى حد ما بحشرة عملاقة كان. توقف في مكان غير بعيد عنا، فأدركنا من خلال حركة كتفيه، وقبل أن يتنسى له حتى النبس بأي سؤال، بأنه لم يتوقف تحديداً، إلا بنية مبيتة». (ص/ 19)
من ثم ستلوذ هذه الشخصية بالفرار لتتم ملاحقتها التي انضم إليها أحد الرعاة في البداية، ثم مجموعة من الأشخاص الذين يرغبون التعرف على الأسباب الداعية للهروب. وعلى امتداد الرواية سيبرز السؤال:
ماذا سيحدث؟ كيف سيتم القبض على هذه الشخصية اللغز والملغزة؟ ثم ما السبب الداعي إلى هروبها؟ وينتهي النص الإطار بالعثور على الشخصية ميتة والفم مملوء بالتراب دون معرفة حقيقة هروبها التي تستجلى انطلاقاً من النص المؤطر.
«بالفعل عثرنا عليه فوق تلك الصخرة. كان يضطجع فوق العشب، وهو ممدد على ظهره، وعار تماماً؟» (ص/72)
«كان فكه مليئاً بالتراب، وبما لست أدري أي عشب كريه الرائحة». (ص/73)
لا تحمل الشخصية في النص المؤطر اسماً محدداً. ويتم سرد حكايتها باعتماد ضمير الغائب (هو) كما سلف. فهي تعاني من مرض غير محدد نوعه في الرواية، إذ وبعد إجراء فحص لتاريخه ستكتشف الشخصية أن أيامها في الحياة باتت معدودة، وستختار الفرار بحثاً عن موت هادئ منعزل ما دامت تعيش منفردة بعد فقدان الوالدين.
«لقد أصاب الاختيار فعلاً، حين أذعن لرغبته الجامحة في الفرار، تحت جنح الليل، إلى أبعد نقطة ممكنة، هرباً من البشر، ومن كل ما بمقدوره الدفع به، ولو للحظة واحدة، إلى البحث عن مساعدة أو عزاء». (ص/17)وتستحضر الشخصية حكاية الجد الأعلى «يوكسيم» الذي لم يخضع لطقوس الموت، حيث أقدم على تكسير تابوته والتهام كمية اللحم المخصصة للمعزين، وكأنه بهذا السلوك يبعث من جديد ويحتمي بالسخرية ممن يترقبون موته. وبذلك فالشخصية - وهي تستحضر - تستمد قوة الصمود والمواجهة:
«ألن يجد هو في الحنق أيضاً، مثله مثل يوكسيم العجوز، الذي ينتسب إلى سلالته، الخلاص الذي لم يستطع إيجاده في الحب؟» (ص/56) وإذا كانت الشخصية أفلحت بالفعل في الفرار، فإن الموت لاحقها في ضوء كون الوجود الفعلي والحق لأي شخصية لا يمكن تحققه في غياب الحب والجمال.
إن الناظم الرئيس للحكايتين (الإطار والمؤطرة) فكرة الموت. إنه الحقيقة الثابتة التي مهما حاولنا الهروب منها تظل تلاحقنا. وهي - بالطبع - فكرة فلسفية تدرج الروائي في إيصال معناها معتمداً إيقاع التسريع والتبطيء.
فالتسريع يتحقق لحظة الفرار والملاحقة، والتبطيء يستشف لما تتوقف الشخصيات عن الجري.
* كاتب مغربي
ويبقى القول بأن هذه التحفة الأدبية التي اختار الروائي أحمد الويزي، ترجمتها، تجسيد دقيق لوعي أدبي وجمالي سام ورفيع.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.