أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

بعد المواقف المتحفظة في «مؤتمر ميونيخ للأمن»

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة
TT

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

في وقت كانت روسيا تُجري فيه مناورات عسكرية مع بيلاروسيا (روسيا البيضاء) تأهباً لحربها على أوكرانيا، وقبل أيام قليلة من شنها الحرب ودخول جنودها الأراضي الأوكرانية، وقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على منبر «مؤتمر الأمن» في مدينة ميونيخ بجنوب ألمانيا، ليتهم الغرب باللجوء إلى «سياسة المهادنة» مع موسكو. ومن ثم، دعا الرئيس الأوكراني الدول الغربية إلى التخلي عن هذه السياسة وتبني سياسة أخرى «تضمن الأمن والسلام».
كان وقع كلمات زيلينسكي في تلك اللحظات كبيراً. فهو - أو كاتب خطابه - كما كان واضحاً يشير إلى تاريخ ميونيخ مع «سياسة المهادنة»، أو ما يعرف أيضاً – وهو تعبير أدق – بـ«سياسة الاسترضاء». فالمدينة نفسها غدت بعد الحرب العالمية الثانية مرادفاً عند البعض لعبثية هذه السياسة التي يمكن تعريفها في السياسة الخارجية بأنها «خطوات استرضاء» يتخذها طرف في محاولة «ساذجة في تفاؤلها» لحثّ طرف عدواني على التراجع وتجنب وقوع حرب كبرى.
ذلك أنه من ميونيخ، وفي مؤتمر عقد في مكان غير فندق باييريشر هوف الشهير، الذي يستضيف «مؤتمر الأمن» سنوياً، خرج أشهر مثال لهذه السياسة التي اعتمدها رئيس الوزراء البريطاني عام 1938 نيفيل تشامبرلين مع الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر.
يومذاك، وافق تشامبرلين على أن يضم هتلر أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا، بعدما كان قد ضم النمسا من دون كلمة اعتراض من أحد. ولقد جاءت موافقة رئيس الوزراء البريطاني مقابل تعهد من الزعيم النازي بأن يوقف زحفه على باقي أوروبا. ولكن، كما أثبتت الأحداث، كانت تلك الخطوة التي خرج بعدها تشامبرلين معتقداً أنه انتصر، السبب في الحرب العالمية الثانية. إذ إنها شجّعت هتلر على التقدم أكثر، وقضم أراضٍ إضافية من أوروبا وضمها إلى ألمانيا. ولقد تطلب وقف هتلر جهد رئيس وزراء بريطاني آخر، هو ونستون تشرتشل، في بناء تحالف دولي يهدف إلى وقفه وإنهاء الحرب. ومن ثم، رغم أن «مؤتمر الأمن» الأخير في ميونيخ عقد بعد 84 سنة على لقاء تشامبرلين - هتلر في عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، فإن صدى المؤتمر الأول ظل يتردد داخل فندق باييريشر هوف الراقي في العام 2022.

لم يشهد «مؤتمر ميونيخ للأمن» طوال سنواته الماضية تجمعاً غربياً موحداً مثل الذي شهده هذا العام. إذ طغى على الحضور رؤساء حكومات ورؤساء ووزراء خارجية ودفاع من دول غربية في أوروبا بجانب الولايات المتحدة، مع غياب لافت لأي مسؤول روسي أو صيني. والواقع أن المنبر السنوي لم يعد يشبه ما كان عليه في السنوات السابقة، إذ تحوّل من مكان للحوار والتبادل الدبلوماسي، إلى مكان للحشد ضد روسيا الغائبة للمرة الأولى منذ فترة طويلة، وإرسال تحذيرات لها من استمرار تصعيدها ضد أوكرانيا.
لقد وقف الزعماء الغربيون مداورةً على منصة المؤتمر لتأكيد وقوفهم إلى جانب كييف أمام التصعيد الروسي الذي لم يكُن قد تحوّل إلى غزو عسكري بعد، وهو ما بدأ بعد أيام قليلة على اختتام أعمال المؤتمر.
من المستشار الألماني أولاف شولتز إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس وغيرهم، صدرت تحذيرات متتالية وتهديدات بعقوبات مؤلمة وعواقب وخيمة على موسكو إذا ما حركت جنودها أكثر... ودخلت أراضي أوكرانيا.

- كلام زيلينسكي الصريح
كان واضحاً في كلمات الزعماء الغربيين أن ذكرى «اتفاق ميونيخ» البائس عام 1938 تطاردهم. فبدوا حريصين على تحاشي تكرار أخطاء الماضي وتجنب الظهور وكأنهم يهادنون روسيا. غير أن الرئيس الأوكراني الذي وصل صباح اليوم الثاني من أيام المؤتمر، رغم التحذيرات الأميركية من مغادرته كييف، وغادر مساء اليوم نفسه، اتهمهم تحديداً بذلك.
لقد طالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي القادة المجتمعين بأن يباشروا فرض العقوبات على روسيا فوراً، وألا ينتظروا حتى تبدأ بغزو بلاده. كذلك اعتبر زيلينسكي تهديداتهم مجرد «إشارات فارغة» ما لم تقترن بأفعال. وقال مذكراً حضوره الغربي بآثار «سياسة المهادنة» بلهجة تحذيرية: «ما الذي ستؤدي إليه محاولات المهادنة؟ فيما تحول السؤال؛ لماذا نموت لأجل دانزيغ؟ إلى الحاجة للموت لأجل دانكرك وعشرات المدن في أوروبا والعالم، بتكلفة عشرات ملايين الأرواح...». في إشارة صريحة إلى تقاعس العالم في الدفاع عن بولندا عندما غزاها هتلر، وهو ما شجعه على التقدم أكثر والتسبب بتفجير الحرب العالمية الثانية.
وتابع الرئيس الأوكراني كلامه، فانتقد أيضاً رفض السماح لبلاده بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو». وقال إن بلاده تخلت عام 1994 عن ترسانتها النووية، التي كانت ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، مقابل ضمانات أمنية وقّعت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. ومن ثم تساءل: «ما الذي حصل لهذه الضمانات؟»، وتابع يقول إن «هندسة أمن العالم ضعيفة، وبحاجة إلى تحديث. القواعد التي اتفق عليها العالم قبل عقود لم تعد تعمل، ولا تفيد أمام التهديدات الجديدة... إنها جرعة دواء سعال، بينما المطلوب لقاح ضد فيروس (كوفيد 19)».

- التذكير بخطاب بوتين قبل 15 سنة
زيلينسكي لم يشر في خطابه فقط إلى ما حصل عام 1938 في ميونيخ، بل تطرّق أيضاً إلى نقطة «تاريخية» أخرى في عمر عاصمة بافاريا، حين اعتلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منبر «مؤتمر الأمن» قبل 15 سنة، وقرأ خطاباً أثار صدمة لدى الحاضرين، وفي حينه قال كثيرون آنذاك إنه أظهر الوجه الحقيقي للزعيم الروسي.
يومذاك، اتهم بوتين الولايات المتحدة بـ«الخبث» وبـ«السعي لاستحداث عالم أحادي القطب». والأهم من ذلك، أنه استنتج خلال خطابه بعد 30 دقيقة أن النظام الليبرالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لا يهم روسيا.
هذا الخطاب، تحديداً، هو الذي عاد الرئيس الأوكراني ليذكّر به الحضور رغم مرور 15 سنة. إذ قال: «من هنا قبل 15 سنة أعلنت روسيا نواياها بأنها ستتحدى الأمن العالمي. ماذا فعل العالم؟ هادن. ما النتيجة؟ على الأقل ضم القرم وعدوان ضد بلدي».
بعد خطابه، لم يبق زيلينسكي طويلاً. بل عقد لقاءات معدودة مع الزعماء الغربيين، ثم غادر عائداً إلى بلاده. لقد كان واضحاً أن حضوره كان مدروساً، هدفه تذكير دول الغرب بواجباتها والاستفادة من دروس التاريخ. فهو تغاضى عن تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن له قبل يوم بضرورة ألا يغادر العاصمة الأوكرانية كييف في وقت حساس. ثم إنه لم يقدّم الشكر للقادة الأوروبيين، ولا الغربيين لوقوفهم إلى جانب كييف «كلامياً»، بل اتهمهم بأنهم غير جادين، وبأنهم يدفعون بلاده «لتتسول» الحماية والدعم العسكري. وفي هذا الكلام، لم ينتقد زيلينسكي حلف «ناتو» الذي يرفض إعطاء أوكرانيا مهلة زمنية لضمها، ما يعني أنه لن يكون مجبراً على الدفاع عنها في حال شن هجوم عليها، بل انتقد أيضاً ألمانيا تحديداً، لرفضها إرسال أسلحة إلى كييف «بسبب تاريخها».

- انتقاد موقف ألمانيا
الواقع أن برلين كرّرت موقفها هذا، حتى عندما واجه عمدة كييف، الذي كان موجوداً وسط الحضور، وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيروبوك في إحدى الجلسات الحوارية. وعندها وقف العمدة والمصارع السابق فيتالي كليشكو، بقامته الضخمة، بين الحضور، وقال لبيربوك: «شكراً لإرسال 5 آلاف خوذة، ولكن هذا ليس كافياً. لا يمكننا أن ندافع عن بلدنا بها». فردّت بيربوك بتكرار الكلام عن دروس التاريخ التي لا تسمح لألمانيا بتسليح دول إبان النزاعات، قبل أن تضيف أن برلين «تبذل قصارى جهدها للتركيز على الدبلوماسية لحل التصعيد مع روسيا».
هذا، وكانت الحكومة الألمانية قد تعرضت لانتقادات شديدة بعد إرسالها خوذاً ومستشفيات عسكرية إلى أوكرانيا، خاصة أنها ثالث أكبر مصدّر للسلاح في العالم، في حين ترسل الولايات المتحدة وبريطانيا منذ أسابيع طائرات مليئة بالأسلحة لكييف. ثم إن رفض استمرار برلين إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، يأتي رغم أنها خرجت في الماضي عن الأطر التي كانت حددت فيها نفسها، وأرسلت أسلحة مثلاً لـ«البيشمركة» الأكراد في شمال العراق طوال السنوات الماضية التي كانت القوات الكردية تقاتل فيها «تنظيم داعش». وكانت تلك المرة الأولى التي ترسل فيها ألمانيا أسلحة إلى مناطق نزاعات.
لكن الدبلوماسية التي تحدثت عنها بيربوك كانت غائبة عن المؤتمر الأمني، رغم أن وزيرة الخارجية الألمانية عقدت اجتماعاً على هامشه مع فرنسا وأوكرانيا، ضمن «صيغة النورماندي». وكان الطرف الرابع والأهم في هذه المجموعة، التي أسست لمناقشة تطبيق «اتفاقية مينسك» الموقعة عام 2014 والتي تهدف للحوار بين كييف وموسكو، كان غائباً. غياب روسيا عن المؤتمر كان بإرادة الكرملين، الذي رفض الدعوات المتكرّرة لإرسال ممثلين عنه «لعرض وجهة نظره» من الأزمة، بحسب ما قال رئيس المؤتمر.
وبالفعل، لم تمضِ 24 ساعة على انتهاء «مؤتمر ميونيخ للأمن» ومغادرة الزعماء، كل إلى بلده، حتى بدأت روسيا التصعيد بشكل كبير، فأعلنت الاعتراف بـ«جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وتبعت الخطوة بإرسال جنودها كـ«قوات حفظ سلام» إلى الإقليمين، لتتبعها ببدء غزو أوكرانيا.

- نداء يقظة للأوروبيين
من دون شك، تحول «المؤتمر» هذا العام إلى نداء يقظة بالنسبة للأوروبيين. إذ عاد النقاش بقوة حول جيش أوروبي قادر على الانتشار بسرعة وحماية حدود القارة في حالات لا يمكن لـ«ناتو» أو للولايات المتحدة التدخل مباشرة، كما هو حاصل الآن في أوكرانيا. وهذا النقاش قديم يتجدد كل سنة، وعادة لا يتعدى أيام «المؤتمر» الثلاثة، غير أنه هذا العام قد تكون له أصداء أكثر واقعية وجدية في ضوء التهديد الروسي للقارة الأوروبية، وعجز «ناتو» عن مواجهة روسيا، لكون أوكرانيا ليست عضواً في الحلف. وهو ما يعني أن الحلف غير مجبر على الدفاع عنها. واللافت أنه رغم كل هذه التحذيرات الغربية خلال الأيام التي سبقت الغزو الروسي، والتوقعات القائلة بأن روسيا ستدخل فعلاً إلى أوكرانيا، فقد شكل بدء العملية العسكرية مفاجأة في أوروبا.
من ناحية أخرى، أبرز ما أظهره فعلاً «مؤتمر ميونيخ» هذه المرة، هو متانة العلاقة عبر الأطلسي بعد سنوات من الصلات المتوترة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. فالمؤتمر الذي عادة ما يكون منبراً لمناقشة العلاقات الأوروبية - الأميركية، وتشارك فيه سنوياً وفود أميركية كبيرة من الكونغرس، عاد هذا العام وأكد على متانة هذه العلاقة. وحرصت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس، ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، على تكرار تعبير «قوتنا في وحدتنا»، وهو تعبير أيضاً تكرر على لسان المسؤولين الأوروبيين الآخرين الذين تنفس كثيرون منهم الصعداء بعد رحيل ترمب الذي ترك آثاراً موجعة في سنوات سابقة من المؤتمر. وكانت لحظة امتناع الحاضرين عن التصفيق إبان مؤتمر العام 2018 عندما ذكر نائب الرئيس الأميركي - آنذاك - مايك بنس اسم دونالد ترمب، وقال إنه يأتي حاملاً معه تحياته الحارة، مؤشراً على مدى تدهور العلاقات بين الأوروبيين والأميركيين في عهد الرئيس السابق.
وحرصت هاريس هذا العام في كلمتها أمام المؤتمر على التأكيد أن الولايات المتحدة وأوروبا تقفان سوياً في مواجهة روسيا. وقالت تعليقاً على التصعيد العسكري الروسي الذي كان مجرد حشود عسكرية على الحدود مع أوكرانيا: «لقد حققنا وحدة لافتة مع حلفائنا (الأوروبيين)، وهذا واضح من خلال اعترافنا المشترك بالتهديدات، وردّنا الموحّد عليها وتصميمنا على حفظ الأمن والسلم العالميين». وأردفت: «نحن وحلفاؤنا أقرب معاً، وهدفنا ورؤيتنا المشتركان واضحان».
ورغم ذلك، فإن هذه الوحدة الغربية التي ظهرت في ميونيخ بوجه روسيا، عكست أيضاً واقعاً جديداً سيكون على الأوروبيين التعامل معه. إذ جاء في تقرير لـ«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أنه على الرغم من الوحدة الغربية في مؤتمر ميونيخ فإن «إدارة بايدن أوضحت أنه لا يمكن منح ضمانات عسكرية إلا للأطراف الأعضاء في (ناتو)، وأن أقصى ما يمكن تقديمه للدول خارج الحلف هو فرض عقوبات وإرسال معدات عسكرية والانخراط في الدبلوماسية». وأضاف «المجلس» - وهو مركز أبحاث مرموق يتخذ من برلين مقراً له - في تقريره أن «توسيع (ناتو) لأي دول، باستثناء فنلندا والسويد، ليس مطروحاً بتاتاً، وهذا قد يكون صحيحاً أيضاً بالنسبة لعضوية الاتحاد الأوروبي».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.