معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

توافق واسع بين المعارضة للمرة الأولى بهدف إسقاط النظام الرئاسي

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها
TT

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

تشهد تركيا أجواء تسخين مبكّرة حول الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقرّرة في يونيو (حزيران) 2023، وسط التراجع المستمر في شعبية الرئيس رجب طيب إردوغان و«تحالف الشعب» المؤلف من حزبه (العدالة والتنمية الحاكم) وحزب الحركة القومية اليميني. هذا التراجع تسجله استطلاعات الرأي المتعاقبة على مدى نحو سنتين على خلفية الوضع الاقتصادي المتدهور وحالة الضيق في الشارع بعد ارتفاع معدل التضخم إلى نحو 50 في المائة، بما في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء والكهرباء والغاز إثر تراجع غير مسبوق لليرة التركية في نهاية العام الماضي.
ولعل أبرز العوامل المستجدة التي افتقدتها المنافسة السياسية على مدى 20 سنة من حكم إردوغان وحزبه، هو ظهور اتجاه قوي لدى أحزاب المعارضة لتنسيق تحركها في مواجهته، والالتقاء على هدف واحد هو إلغاء النظام الرئاسي الذي بدأ تطبيقه عام 2018، والذي فتح الباب أمام صلاحيات شبه مطلقة لإردوغان. وستتمثل أول خطوة عملية واضحة في هذا الإطار بإطلاق 6 من أحزاب المعارضة بعد غد (الاثنين) وثيقة، تحقق التوافق عليها فيما بينها، خلال اجتماع عقده قادتها في أنقرة يوم 12 فبراير (شباط) الحالي. وتتضمن الوثيقة مشروع النظام البرلماني «المعزّز»، الذي تعتزم المعارضة تطبيقه حال فوزها في الانتخابات المقبلة.

استضافت العاصمة التركية أنقرة، يوم 12 فبراير الحالي، اجتماع رؤساء أحزاب المعارضة، وهم كمال كليتشدار أوغلو «حزب الشعب الجمهوري»، وميرال أكشينار الحزب «الجيد»، وعلي بابا جان «الديمقراطية والتقدم»، وأحمد داود أوغلو «المستقبل»، وتمل كارامولا أوغلو «السعادة»، وغلتكين أويصال «الديمقراطي». وتناول الاجتماع، وهو الأول لهم، مناقشة النظام البرلماني المقترح، بعد أشهر من اجتماع لجان متخصصة من الأحزاب الستة للاتفاق على ملامح النظام.
ولقد شهد الاجتماع، الذي دعا إلى عقده زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، توافقاً بين القادة الستة على ضرورة عودة تركيا إلى النظام البرلماني بعد تعزيزه، وذلك «بسبب ما تمخض عنه النظام الرئاسي»، الذي طبّق عام 2018، من مشكلات على صعيد السياسة الخارجية والاقتصاد «بسبب انفراد الرئيس رجب طيب إردوغان بالقرار وتهميش البرلمان ومؤسسات الدولة في صنع القرار».
القادة الستة أعلنوا، في بيان مشترك صدر عقب الاجتماع، تمسكهم ببناء نظام قوي ليبرالي ديمقراطي عادل، يفصل بين السلطات بتشريعات فعالة وتشاركية، وإدارة شفافة وحيادية وخاضعة للمساءلة، مع ضمان استقلال القضاء. وقال البيان: «بلادنا تشهد واحدة من أعمق الأزمات السياسية والاقتصادية في تاريخ الجمهورية. إذ تتزايد المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يوماً بعد يوم وتظهر آثارها بشدة. أما السبب الأهم لهذه الأزمة فهو بلا شك الإدارة التعسفية والجائرة تحت مسمى نظام الحكم الرئاسي».
وتابع البيان أن «المسؤولية المشتركة لنا جميعاً، بصفتنا 6 أحزاب سياسية، هي التغلب على هذه الأزمة بالتضامن والوحدة، والعمل على حل مشكلات البلاد العميقة على أساس التعددية من خلال توسيع مجال السياسة الديمقراطية».
ولفت البيان إلى أن الأحزاب الستة أجرت دراسة مكثفة حول النظام البرلماني المعزّز، الهادف إلى تعزيز دولة القانون والديمقراطية وتقوية الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، مؤكداً أن «الأحزاب تبنى على التشاور والمصالحة وليس الاستقطاب». وأشار إلى أنه اتُّفِق على طرح النظام البرلماني الجديد، الذي أجمع عليه قادة الأحزاب، أمام الشعب ومشاركته مع ممثلي مختلف شرائح الأمة في الاجتماع الثاني، الذي سيعقد في 28 فبراير الحالي.

- هدف مشترك
وتابع البيان أن قادة الأحزاب الستة أجروا خلال الاجتماع تقييماً للتطورات الاقتصادية والاجتماعية الحالية في البلاد، وتبادلوا وجهات النظر حول المجالات التي يمكن العمل المشترك فيها والسياسات الواجب تنفيذها بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو 2023. وأكدوا أن هدفهم «ضمان أن يتنفس الشعب الصعداء، ورفع مستوى الرفاهية على الفور... عبر الشفافية والمساواة ومكافحة الفساد بشكل فعال، وإعلاء مبدأ الجدارة في الإدارة العامة وخدمة الشعب من خلال قانون الأخلاق السياسية».
ومن ثم، أكد البيان على أنه «لا توجد مشكلة في تركيا لا يمكن حلها عبر التشاور والتوافق... وأن الأمر المهم هو بناء تركيا الديمقراطية بضمان الحقوق والحريات الأساسية في إطار معايير مجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي؛ حيث يرى الجميع أنفسهم مواطنين متساوين وأحراراً؛ ويمكنهم التعبير بحرية عن أفكارهم والعيش كما يعتقدون».

- جدل التحالفات
من ناحية أخرى، بينما كان اجتماع قادة الأحزاب الستة منعقداً، سرت شائعات في كواليس أنقرة بأن «تحالف الأمة»، الذي يضم حزبي «الشعب الجمهوري» و«الجيد»، سيتوسع وسيحمل اسم «تحالف الأمة الكبرى»، لكن كليتشدار أوغلو، قال: «لقد اجتمعنا في شكل 6 أحزاب على مائدة مستديرة، يعملون معاً على النظام البرلماني المعزز... لذلك أعتقد أنه من السابق لأوانه القول إن تحالف الأمة نما أو تقلص... المهم أننا شرعنا في إخراج تركيا من الظروف التي تعيشها اليوم».
للعلم، سبق أن صدرت تلميحات عن المعارضة التركية إلى احتمالات توسيع تحالفها المعروف باسم «تحالف الأمة» ليضم الأحزاب التي تتفق معاً في المبادئ، وأهمها «الديمقراطية والتقدم» برئاسة باباجان و«المستقبل» برئاسة داود أوغلو. وذكر كليتشدار أوغلو أن أحزاب المعارضة الجديدة المنشقة عن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم برئاسة رجل طيب إردوغان، لديها خطاب سياسي مشترك مع «تحالف الأمة».
وبدوره، قال علي باباجان، نائب رئيس الوزراء الأسبق: «لدينا لقاءات متكررة مع أحزاب سياسية مختلفة على مستوى الرؤساء، وهناك أيضاً مباحثات تجري عبر كثير من القنوات، واجتماعات تعقد دورياً». وأردف باباجان أنه على الأحزاب التي تطالب بنظام برلماني «التحدث عن عملية الانتقال التي تعتبر مهمة وحاسمة، فهي بحاجة إلى التخطيط بشكل جيد للغاية، لأنه ليس من الواضح كيف سيتشكل البرلمان بعد الانتخابات». وتابع باباجان أن التحالف الانتخابي موضوع منفصل، والدراسات الموضوعية موضوع آخر، موضحاً: «أرى النظام البرلماني كأحد المجالات التي تحتاج إلى العمل على أساس موضوعي... النظام البرلماني يعني التعديل الدستوري. لكن في الوقت الراهن، ليس سهلاً على أي حزب الحصول على 360 - 400 نائب في البرلمان أو بعد الانتخابات... مع المعادلة السياسية الحالية، يبدو أنه لن يكون لأي حزب سلطة تغيير الدستور بمفرده. وإذا كان الأمر يتعلق بالتعديل الدستوري، فيجب أن يحصل ذلك بالبحث عن توافق سياسي واجتماعي. وفي النهاية، عندما يتحقق ذلك يُعرض على البرلمان، فيحصل على 360 صوتاً ويذهب للاستفتاء أو يذهب مباشرة إلى البرلمان بغالبية 400 صوت».

- مشروع الدستور
إردوغان كان قد أعلن أنه سيطرح مشروع دستور جديد، وصفه بأنه سيكون «نهاية لحقبة الوصاية العسكرية» خلال الأشهر الأولى من العام الحالي. لكن المشروع لا يحظى بتوافق من جانب المعارضة، التي تتمسك بإلغاء النظام الرئاسي، وترى في المشروع محاولة من جانب إردوغان للبقاء وحزبه في السلطة لفترة أطول عبر تغيير القوانين.
وفي هذه الأثناء، ثار جدل حول أحقية إردوغان في خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعدما أعلن دولت بهشلي رئيس حزب «الحركة القومية» وحليف إردوغان في «تحالف الشعب» أن الأخير سيكون مرشح التحالف للرئاسة. إذ ينص الدستور على أنه لا يحق للرئيس الترشح لأكثر من دورتين رئاسيتين، مدة كل منهما 5 سنوات.
يتولى إردوغان الرئاسة منذ 2014، وكانت مدته الأولى التي لم تكتمل في ظل النظام البرلماني. ولقد أجري تعديل على الدستور للانتقال إلى النظام الرئاسي، أقرّ عبر استفتاء شعبي في أبريل (نيسان) 2017. وتضمن نصاً على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً في يوم واحد. من ثم قدّم موعد الانتخابات لتجري في 24 يونيو 2018. وهي الانتخابات التي بدأ بعدها تطبيق النظام الرئاسي.
حزب «العدالة والتنمية» لا يرى مبرراً لإثارة الجدل حول حق إردوغان بخوض الانتخابات المقبلة استناداً إلى أن التعديل الدستوري ألغى ما قبله، وعليه يحق للرئيس الترشح لفترة ثانية في 2023. بينما بدأ بهشلي يروّج لفكرة منح حق الترشح لـ3 فترات رئاسية في ظل النظام الرئاسي، إيذاناً بإدراج مادة تنص على ذلك في مشروع الدستور الجديد. ومن جانبه، يعتبر «العدالة والتنمية»، بدعم من حزب بهشلي، أن النظام الرئاسي يسمح بإدارة أكثر سلاسة للحكومة ويضع البرلمان كثقل يعادل السلطات التنفيذية الممنوحة للرئيس. غير أن المعارضة ومنتقدي ذلك النظام يؤكدون أنه يشدد من قبضة إردوغان على البلاد ويكرس حكم «الرجل الواحد»، الذي أدى إلى أزمات سياسية واقتصادية جرّت البلاد إلى كوارث منذ تطبيقه.
وفي هذا السياق، أظهرت سلسلة من استطلاعات الرأي خلال الفترة الأخيرة قلّة رضا غالبية الشعب التركي عن النظام الرئاسي وعن طريقة إدارة حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان للبلاد. كذلك، أكدت تضاؤل فرص «تحالف الشعب» في الفوز بالانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو 2023.

- ضغط الوضع الاقتصادي
> أصبح الوضع الاقتصادي المتدهور في تركيا من أكثر العوامل الضاغطة على الرئيس رجب طيب إردوغان وحكومته، وتسبب في تراجع التأييد لتحالفه الانتخابي «تحالف الشعب». إذ هبطت شعبيته إلى مستوى متدنٍ لا يزيد في جل الاستطلاعات عن 34 في المائة للتحالف الذي يضم حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» معاً، في حين تفوق نسبة تأييد «تحالف الأمة» المعارض 40 في المائة، مع مراعاة أن ثمة رقماً صعباً آخر يتمثل في حزب «الشعوب الديمقراطية» المؤيد للأكراد.
من ناحية ثانية، غدا مألوفاً خروج الأتراك في مظاهرات احتجاجية على غلاء الأسعار وارتفاع معدل الفقر، منددة بالسياسات الاقتصادية للرئيس رجب طيب إردوغان. إذ تتهمها بالتسبب في انهيار عملة البلاد (الليرة التركية)، وتطالب باستقالته وتحسين الأوضاع المعيشية، مع التأكيد على أن الشعب سيحاسبه وحكومته.
وفي المقابل، تصعّد المعارضة مطالباتها بالتوجه إلى انتخابات مبكرة في أسرع وقت، وتحذّر من حدوث فوضى في البلاد إذا استمر الصمت على انهيار الاقتصاد. بينما إردوغان وحليفه بهشلي يرفضان البحث بالانتخابات المبكرة.
في هذه الأثناء، توقع علي باباجان، نائب رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب «الديمقراطية والتقدم» المعارض، انتشار الفقر بشكل أكبر بسبب الأزمة الناجمة عن انخفاض قيمة الليرة وزيادة التضخم. وحمّل باباجان - الذي نجح في إحداث قفزة في الاقتصاد التركي منذ عام 2002، عندما كان مع «العدالة والتنمية» في الحكم، حتى تركه الحكومة عام 2013 - حكومة «العدالة والتنمية» المسؤولية عن الوضع الاقتصادي الحالي في تركيا. وأوضح أن الناس «سيتفهمون عواقب الأزمة على حياتهم في الأشهر القليلة المقبلة؛ حيث سيتفشى الفقر وتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء». وشدد على وجوب إجراء انتخابات مبكرة على الفور للخروج من الأزمة الاقتصادية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن باباجان أطلق حزبه العام الماضي بعد استقالته عام 2019 من «العدالة والتنمية».
محاولات الإنقاذ

> في ظل هذه الأوضاع، بدأ إردوغان تحركات على الصعيد الاقتصادي لإنقاذ الليرة التركية، لكن هذه التحركات لم تسفر عن تحقيق تقدم كبير، خاصة على صعيد التضخم وارتفاع الأسعار. وأيضاً، يتحرك إردوغان على صعيد محاولة كسر عزلة تركيا بسبب السياسة الخارجية، التي ترى المعارضة أنها «حشرت تركيا في الزاوية» وجعلتها محاطة بالأعداء، في خطوة تستهدف بدرجة كبيرة إنعاش الاقتصاد التركية.
وبعد محاولات لتحسين العلاقات مع كل من مصر والمملكة العربية السعودية، حققت العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة قفزة توّجت بزيارات على أرفع مستوى بين البلدين وتوقيع اتفاقيات للاستثمار ومبادلة العملة. كذلك قطعت أنقرة شوطاً كبيراً على صعيد تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتنتظر زيارة من رئيسها إسحاق هرتسوغ في مارس (آذار) المقبل، سيسعى إردوغان خلالها إلى التركيز بشدة على ملف غاز شرق البحر المتوسط ونقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر بلاده.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.