مشكلة الاندماج والتعايش الصعب في أوروبا

«رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» تنظم مؤتمرها الثاني

وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
TT

مشكلة الاندماج والتعايش الصعب في أوروبا

وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)

رغم كل الظروف الوبائية الصعبة فإن «رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» نجحت في تنظيم مؤتمرها الثاني تحت عنوان: «الإسلام والهويات: ما بين العبادات والثقافات». كان ذلك يومي 16 - 17 فبراير (شباط) في القاعة الكبرى باليونيسكو في باريس. وقد شارك في هذا المؤتمر الكبير عشرات الباحثين والباحثات من عرب وأجانب. من المعلوم أن هذه الرابطة يرأسها حاليا البروفسور الجزائري الدكتور صادق بلوصيف، بالإضافة إلى المؤسس الأكبر والأول ميشيل دو روزين، وكذلك المفوضة العامة للرابطة إيفا جانادان. وعلى مدار يومين متتاليين تتالت المداخلات الخاصة بموضوعات شتى من بينها «مأزق الإسلام خارج كل ثقافة». المقصود الإسلام الراديكالي الأصولي بالطبع وليس الإسلام في المطلق. فالإسلام كان دائما محبا للثقافة والفلسفة وبخاصة إبان عصره الذهبي في بغداد وقرطبة على وجه الخصوص. إسلام ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن الطفيل وابن عربي وسواهم كان من أعلى طراز. وقل الأمر ذاته عن إسلام أحمد لطفي السيد وطه حسين ونجيب محفوظ وجابر عصفور وسواهم من الأعلام في العصر الحديث. فهو من أرقى ما يكون. وهو يختلف كثيرا عن الإسلام الإخواني المتزمت المنغلق على ذاته. المسلمون هم الذين علموا الآخرين الحضارة والفلسفة والعلم أيام زمان. وبالتالي فهناك إسلام وإسلام، وينبغي أن نعرف عم نتحدث بالضبط. الإسلام بحر واسع الأرجاء. الإسلام هو أحد الأديان الكبرى للبشرية. الإسلام هو دين العقل والفطرة السليمة إذا ما فهمناه على حقيقته. وبالتالي فلا ينبغي تعميم الأحكام السلبية المسبقة على الإسلام ككل. هذا خطأ جسيم. وحده التيار المتزمت السائد حاليا يكره الثقافات ويكتفي بالعبادات. وهذا ما دعاه الباحث الفرنسي أولفييه روا بمصطلح ناجح وموفق جدا: «الجهل المقدس». موضوع طويل عريض.
تعرض المؤتمر أيضا لمسائل أخرى وبخاصة مشكلة الاندماج والتعايش الصعب أحيانا بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الأوروبية الحديثة وبخاصة في فرنسا. ولكن ليته تحدث أيضا عن مشكلة التعايش الصعب فيما بينهم داخل بلدانهم الخاصة بالذات. فهم أيضا ما عادوا يطيقون بعضهم بعضا بسبب اشتعال المذاهب والطوائف. ولكن هذا يتطلب مؤتمرا كبيرا خاصا على حدة. من الواضح أن الدينامو المحرك لهذا المؤتمر وللرابطة ككل هو المؤرخة القديرة إيفا جانادان المختصة في الدراسات الإسلامية. ومعلوم أنها اعتنقت الإسلام واهتدت بهديه وضيائه عام 2009، وهي بالمناسبة مؤسسة لتلك الجمعية الباريسية المهمة التي تدعى «جمعية صوت الإسلام المستنير». وهي حركة تناضل من أجل إسلام تقدمي، مشرق، روحاني. وحتما سيجيء والمستقبل له. كما أن الباحثة إيفا جانادان متأثرة بالإسلام الصوفي الروحاني الكبير. يكفي أن نذكر هنا أسماء السهروردي وجلال الدين الرومي ومحيي الدين ابن عربي الخ. هنا أيضا يوجد كنز الكنوز... لا أستطيع للأسف الشديد أن أستعرض كل المداخلات في هذه العجالة المحدودة بطبيعتها، ولذلك سأتوقف عند بعضها فقط مهملا بشكل ظالم بعضها الآخر غصبا عني. كان الكاتب اللبناني الشهير أمين معلوف قد طرح مشكلة الهوية بشكل مضيء في كتابه اللافت: «الهويات القاتلة». ونلاحظ أن شبح أمين معلوف كان يرفرف على أعمال هذا المؤتمر حتى وهو غائب. لقد ضرب المثل التالي: المسلم التركي الذي يعيش في ألمانيا ما هو؟ هذا الشخص لا يعتبر ألمانيا من قبل الشعب الألماني. وما عاد يعتبر تركيا تماما من قبل الشعب التركي. وبالتالي فهو ضائع بين بين. إنه بلا هوية واضحة. وقل الأمر ذاته عن الجاليات المغاربية أو العربية في فرنسا وبلجيكا وعموم أوروبا. ولكن إذا ما فهمنا الهوية بشكل واسع، إذا ما خرجنا من الانغلاقات الهوياتية الضيقة فإننا نستطيع القول بأن الهوية متعددة أو تعددية وليست أحادية. فنحن جميعا مركبون من عدة هويات لا من هوية واحدة على عكس ما نظن. أنا مثلاً تضطرب في داخلي كل العصور: مما قبل التاريخ إلى ما بعد الحداثة. من قرية المكسحة التعيسة إلى جبلة مسافة. ومن جبلة إلى اللاذقية مسافة. ومن اللاذقية إلى دمشق العاصمة مسافة. ومن دمشق إلى باريس مسافة وأي مسافة! قحصات تتلوها قحصات. كيف أتيح لشخص همجي متوحش أن يشم رائحة الحضارة؟ كيف أتيح لشخص بدائي متخلف أن يرتفع إلى مستوى الثقافة والفلسفة والفذلكة؟ ولا يزال هذا الشخص حيا يرزق حتى الساعة. ولا أحد يعرف لماذا؟ كأنك في جفن الردى وهو نائم. أخيرا اسمحوا لي أن أقدم نفسي: ثقافتي عربية إسلامية في الأساس بل وحتى النخاع. ولكن انضافت إليها فيما بعد الثقافة الفرنسية وبخاصة التنويرية على يد ديكارت، وفولتير، وجان جاك روسو، وفيكتور هيغو، وبول ريكور، وبيير بورديو، وعشرات غيرهم. لولاهم لما كنت شيئا. وبالتالي فأنا مشكل من شخصين لا شخص واحد أو قل من تراثين أساسيين: التراث العربي والتراث الفرنسي. أنا مشكل من لغتين اثنتين: العربية والفرنسية. أنا باختصار شديد شخص يقرأ بالفرنسية ويكتب بالعربية. نقطة على السطر. وهكذا أصبحت هويتي مزدوجة. وهذا لا يسبب لي أي مشكلة، على العكس أشعر بأني أغنى شخص في العالم! وبالتالي فلا ينبغي أن نكون انغلاقيين ومتشنجين فيما يخص مسألة الهوية الثقافية.
نذكر من بين المدعوين إلى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الفيلسوف عبد النور بيدار. وهو أكبر ممثل لإسلام الأنوار في فرنسا بعد محمد أركون وعبد الوهاب المؤدب. ومعلوم أنه ناقش أطروحة دكتوراه في الفلسفة تحت إشراف الفيلسوف السنغالي المشهور سليمان بشير ديان أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد صدرت الأطروحة لاحقا في كتاب كبير بعنوان: «الإسلام الروحاني لمحمد إقبال» (2017).
ونذكر أيضا الباحث حكيم القروي الذي يحتل مكانة مرموقة داخل شخصيات الإسلام في فرنسا. وهو صاحب عدة مؤلفات تتركز على هموم الجاليات المغتربة. وقد اتخذت مداخلته عنوانا لافتا: «الأصولية، الاندماج، الأحياء الفقيرة». وحسنا فعل إذ ربط بين تنامي الأصولية وتنامي الفقر والبطالة والتهميش. فمن الواضح أن الأصولية الجهادية ناتجة جزئيا ولكن ليس كليا عن ذلك. وبالتالي فلكي ينجح الاندماج ولكي تتراجع الأصولية ينبغي تنمية هذه الأحياء الفقيرة وإعطاؤها جرعة الأمل الضرورية لكي تندمج في المجتمع.
من أهم المشاركين في هذه الندوة الباحثة الجزائرية رزيقة عدناني المختصة بالفلسفة والدراسات الإسلامية. وهي عضوة في المجلس التوجيهي «لمؤسسة الإسلام في فرنسا». كما أنها المؤسسة بل والرئيسة «للأيام الدولية للفلسفة في الجزائر». وهي ترى أن المشكلة الأساسية تكمن في اندحار الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر وانتصار الفكر الغيبي على الفكر العقلاني الحر بعد هزيمة المعتزلة والفلاسفة. كما وتقول بأنه ليس كل الأفكار التقليدية السلفية صالحة لعصرنا. وبالتالي فينبغي علينا غربلة الموروث الديني فما توافق فيه مع قيم الحداثة التنويرية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والتعبير نأخذ به وما لم يتوافق نتخلى عنه. فنحن نعيش في القرن الحادي والعشرين لا في العصور الوسطى. ولسنا ملزمين باتباع كل ما هب ودب في التراث المنقول. وتدعونا الباحثة الجزائرية المعروفة إلى تبني الأفكار المتسامحة الموجودة بكثرة في قرآننا وتراثنا والتخلي عن الأفكار المتعصبة المكفرة للآخر والموجودة أيضا في بعض نصوصنا التراثية. ولكن ماذا يحصل حاليا على أيدي الحركات المتطرفة؟ يحصل العكس تماما. فكل ما هو إنساني متسامح ينسخونه ويبطلونه وكل ما هو متعصب وتكفيري يتشبثون به. وعلى هذا النحو أوقعونا في صدام مع العالم بأسره. هنا تكمن مشكلة العالم العربي والإسلامي كله حاليا... بقي أن نقول بأن المفكرة الجزائرية نشرت عدة كتب من أهمها: «تعطيل العقل في الفكر الإسلامي». هذا وقد ناقشت الباحثة الجزائرية في مداخلتها مسألة الآخر وقالت ما معناه: من الضروري جدا أن يطرح المسلمون مشكلة الآخر أو العلاقة الصعبة مع الآخر. وكذلك ينبغي أن يطرحوا بكل جرأة مسألة العنف، ومسألة الاندماج في المجتمعات الغربية. وكلها أشياء مترابطة مع بعضها البعض. والسؤال المطروح هنا هو التالي: كيف طرحت هذه المسألة في الفكر الإسلامي أو من قبل الفكر الإسلامي؟ ثم: كيف نبني أفضل علاقة مع الآخر المختلف عنا عقيدة ودينا وتراثا؟


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.