مشكلة الاندماج والتعايش الصعب في أوروبا

«رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» تنظم مؤتمرها الثاني

وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
TT

مشكلة الاندماج والتعايش الصعب في أوروبا

وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)
وزير الداخلية الفرنسي يخاطب منتدى الإسلام الفرنسي مطلع الشهر (أ.ب)

رغم كل الظروف الوبائية الصعبة فإن «رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» نجحت في تنظيم مؤتمرها الثاني تحت عنوان: «الإسلام والهويات: ما بين العبادات والثقافات». كان ذلك يومي 16 - 17 فبراير (شباط) في القاعة الكبرى باليونيسكو في باريس. وقد شارك في هذا المؤتمر الكبير عشرات الباحثين والباحثات من عرب وأجانب. من المعلوم أن هذه الرابطة يرأسها حاليا البروفسور الجزائري الدكتور صادق بلوصيف، بالإضافة إلى المؤسس الأكبر والأول ميشيل دو روزين، وكذلك المفوضة العامة للرابطة إيفا جانادان. وعلى مدار يومين متتاليين تتالت المداخلات الخاصة بموضوعات شتى من بينها «مأزق الإسلام خارج كل ثقافة». المقصود الإسلام الراديكالي الأصولي بالطبع وليس الإسلام في المطلق. فالإسلام كان دائما محبا للثقافة والفلسفة وبخاصة إبان عصره الذهبي في بغداد وقرطبة على وجه الخصوص. إسلام ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن الطفيل وابن عربي وسواهم كان من أعلى طراز. وقل الأمر ذاته عن إسلام أحمد لطفي السيد وطه حسين ونجيب محفوظ وجابر عصفور وسواهم من الأعلام في العصر الحديث. فهو من أرقى ما يكون. وهو يختلف كثيرا عن الإسلام الإخواني المتزمت المنغلق على ذاته. المسلمون هم الذين علموا الآخرين الحضارة والفلسفة والعلم أيام زمان. وبالتالي فهناك إسلام وإسلام، وينبغي أن نعرف عم نتحدث بالضبط. الإسلام بحر واسع الأرجاء. الإسلام هو أحد الأديان الكبرى للبشرية. الإسلام هو دين العقل والفطرة السليمة إذا ما فهمناه على حقيقته. وبالتالي فلا ينبغي تعميم الأحكام السلبية المسبقة على الإسلام ككل. هذا خطأ جسيم. وحده التيار المتزمت السائد حاليا يكره الثقافات ويكتفي بالعبادات. وهذا ما دعاه الباحث الفرنسي أولفييه روا بمصطلح ناجح وموفق جدا: «الجهل المقدس». موضوع طويل عريض.
تعرض المؤتمر أيضا لمسائل أخرى وبخاصة مشكلة الاندماج والتعايش الصعب أحيانا بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الأوروبية الحديثة وبخاصة في فرنسا. ولكن ليته تحدث أيضا عن مشكلة التعايش الصعب فيما بينهم داخل بلدانهم الخاصة بالذات. فهم أيضا ما عادوا يطيقون بعضهم بعضا بسبب اشتعال المذاهب والطوائف. ولكن هذا يتطلب مؤتمرا كبيرا خاصا على حدة. من الواضح أن الدينامو المحرك لهذا المؤتمر وللرابطة ككل هو المؤرخة القديرة إيفا جانادان المختصة في الدراسات الإسلامية. ومعلوم أنها اعتنقت الإسلام واهتدت بهديه وضيائه عام 2009، وهي بالمناسبة مؤسسة لتلك الجمعية الباريسية المهمة التي تدعى «جمعية صوت الإسلام المستنير». وهي حركة تناضل من أجل إسلام تقدمي، مشرق، روحاني. وحتما سيجيء والمستقبل له. كما أن الباحثة إيفا جانادان متأثرة بالإسلام الصوفي الروحاني الكبير. يكفي أن نذكر هنا أسماء السهروردي وجلال الدين الرومي ومحيي الدين ابن عربي الخ. هنا أيضا يوجد كنز الكنوز... لا أستطيع للأسف الشديد أن أستعرض كل المداخلات في هذه العجالة المحدودة بطبيعتها، ولذلك سأتوقف عند بعضها فقط مهملا بشكل ظالم بعضها الآخر غصبا عني. كان الكاتب اللبناني الشهير أمين معلوف قد طرح مشكلة الهوية بشكل مضيء في كتابه اللافت: «الهويات القاتلة». ونلاحظ أن شبح أمين معلوف كان يرفرف على أعمال هذا المؤتمر حتى وهو غائب. لقد ضرب المثل التالي: المسلم التركي الذي يعيش في ألمانيا ما هو؟ هذا الشخص لا يعتبر ألمانيا من قبل الشعب الألماني. وما عاد يعتبر تركيا تماما من قبل الشعب التركي. وبالتالي فهو ضائع بين بين. إنه بلا هوية واضحة. وقل الأمر ذاته عن الجاليات المغاربية أو العربية في فرنسا وبلجيكا وعموم أوروبا. ولكن إذا ما فهمنا الهوية بشكل واسع، إذا ما خرجنا من الانغلاقات الهوياتية الضيقة فإننا نستطيع القول بأن الهوية متعددة أو تعددية وليست أحادية. فنحن جميعا مركبون من عدة هويات لا من هوية واحدة على عكس ما نظن. أنا مثلاً تضطرب في داخلي كل العصور: مما قبل التاريخ إلى ما بعد الحداثة. من قرية المكسحة التعيسة إلى جبلة مسافة. ومن جبلة إلى اللاذقية مسافة. ومن اللاذقية إلى دمشق العاصمة مسافة. ومن دمشق إلى باريس مسافة وأي مسافة! قحصات تتلوها قحصات. كيف أتيح لشخص همجي متوحش أن يشم رائحة الحضارة؟ كيف أتيح لشخص بدائي متخلف أن يرتفع إلى مستوى الثقافة والفلسفة والفذلكة؟ ولا يزال هذا الشخص حيا يرزق حتى الساعة. ولا أحد يعرف لماذا؟ كأنك في جفن الردى وهو نائم. أخيرا اسمحوا لي أن أقدم نفسي: ثقافتي عربية إسلامية في الأساس بل وحتى النخاع. ولكن انضافت إليها فيما بعد الثقافة الفرنسية وبخاصة التنويرية على يد ديكارت، وفولتير، وجان جاك روسو، وفيكتور هيغو، وبول ريكور، وبيير بورديو، وعشرات غيرهم. لولاهم لما كنت شيئا. وبالتالي فأنا مشكل من شخصين لا شخص واحد أو قل من تراثين أساسيين: التراث العربي والتراث الفرنسي. أنا مشكل من لغتين اثنتين: العربية والفرنسية. أنا باختصار شديد شخص يقرأ بالفرنسية ويكتب بالعربية. نقطة على السطر. وهكذا أصبحت هويتي مزدوجة. وهذا لا يسبب لي أي مشكلة، على العكس أشعر بأني أغنى شخص في العالم! وبالتالي فلا ينبغي أن نكون انغلاقيين ومتشنجين فيما يخص مسألة الهوية الثقافية.
نذكر من بين المدعوين إلى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الفيلسوف عبد النور بيدار. وهو أكبر ممثل لإسلام الأنوار في فرنسا بعد محمد أركون وعبد الوهاب المؤدب. ومعلوم أنه ناقش أطروحة دكتوراه في الفلسفة تحت إشراف الفيلسوف السنغالي المشهور سليمان بشير ديان أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد صدرت الأطروحة لاحقا في كتاب كبير بعنوان: «الإسلام الروحاني لمحمد إقبال» (2017).
ونذكر أيضا الباحث حكيم القروي الذي يحتل مكانة مرموقة داخل شخصيات الإسلام في فرنسا. وهو صاحب عدة مؤلفات تتركز على هموم الجاليات المغتربة. وقد اتخذت مداخلته عنوانا لافتا: «الأصولية، الاندماج، الأحياء الفقيرة». وحسنا فعل إذ ربط بين تنامي الأصولية وتنامي الفقر والبطالة والتهميش. فمن الواضح أن الأصولية الجهادية ناتجة جزئيا ولكن ليس كليا عن ذلك. وبالتالي فلكي ينجح الاندماج ولكي تتراجع الأصولية ينبغي تنمية هذه الأحياء الفقيرة وإعطاؤها جرعة الأمل الضرورية لكي تندمج في المجتمع.
من أهم المشاركين في هذه الندوة الباحثة الجزائرية رزيقة عدناني المختصة بالفلسفة والدراسات الإسلامية. وهي عضوة في المجلس التوجيهي «لمؤسسة الإسلام في فرنسا». كما أنها المؤسسة بل والرئيسة «للأيام الدولية للفلسفة في الجزائر». وهي ترى أن المشكلة الأساسية تكمن في اندحار الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر وانتصار الفكر الغيبي على الفكر العقلاني الحر بعد هزيمة المعتزلة والفلاسفة. كما وتقول بأنه ليس كل الأفكار التقليدية السلفية صالحة لعصرنا. وبالتالي فينبغي علينا غربلة الموروث الديني فما توافق فيه مع قيم الحداثة التنويرية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والتعبير نأخذ به وما لم يتوافق نتخلى عنه. فنحن نعيش في القرن الحادي والعشرين لا في العصور الوسطى. ولسنا ملزمين باتباع كل ما هب ودب في التراث المنقول. وتدعونا الباحثة الجزائرية المعروفة إلى تبني الأفكار المتسامحة الموجودة بكثرة في قرآننا وتراثنا والتخلي عن الأفكار المتعصبة المكفرة للآخر والموجودة أيضا في بعض نصوصنا التراثية. ولكن ماذا يحصل حاليا على أيدي الحركات المتطرفة؟ يحصل العكس تماما. فكل ما هو إنساني متسامح ينسخونه ويبطلونه وكل ما هو متعصب وتكفيري يتشبثون به. وعلى هذا النحو أوقعونا في صدام مع العالم بأسره. هنا تكمن مشكلة العالم العربي والإسلامي كله حاليا... بقي أن نقول بأن المفكرة الجزائرية نشرت عدة كتب من أهمها: «تعطيل العقل في الفكر الإسلامي». هذا وقد ناقشت الباحثة الجزائرية في مداخلتها مسألة الآخر وقالت ما معناه: من الضروري جدا أن يطرح المسلمون مشكلة الآخر أو العلاقة الصعبة مع الآخر. وكذلك ينبغي أن يطرحوا بكل جرأة مسألة العنف، ومسألة الاندماج في المجتمعات الغربية. وكلها أشياء مترابطة مع بعضها البعض. والسؤال المطروح هنا هو التالي: كيف طرحت هذه المسألة في الفكر الإسلامي أو من قبل الفكر الإسلامي؟ ثم: كيف نبني أفضل علاقة مع الآخر المختلف عنا عقيدة ودينا وتراثا؟


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم