فاروق يوسف: نعيش وسط غابة من الرسامين لكن أثرهم محدود

«رسامون من العالم العربي» في جزئه الأول... قصة المؤسسين

من أعمال الفنان العراقي جواد سليم
من أعمال الفنان العراقي جواد سليم
TT

فاروق يوسف: نعيش وسط غابة من الرسامين لكن أثرهم محدود

من أعمال الفنان العراقي جواد سليم
من أعمال الفنان العراقي جواد سليم

قليلاً ما تصدر في العالم العربي كتب رصينة في الفن التشكيلي بمقدورها أن تكون وسيطاً ممتعاً، عميقاً ومبسطاً، بين الفنانين وعامة الناس. من هنا تأتي أهمية الكتاب الجديد للناقد التشكيلي العراقي فاروق يوسف «رسامون من العالم العربي» الذي صدر الجزء الأول منه حاملاً عنواناً فرعياً «الفاتحون»، على أن يصدر الجزء الثاني «المغامرون» قريباً. ويتمنى المؤلف أن يتمكن من وضع الجزء الثالث، مخصصاً إياه للتشكيليين الشباب. بهذا المعنى عكف المؤلف على وضع موسوعة لمن يريد التعرف على الحركة التشكيلية العربية منذ نشوئها في القرن التاسع عشر، من خلال تقديم الأسماء الأكثر تأثيراً. هو لا يدعي أنه أحصى كل الفنانين... «إنهم أكثر مما نتصور. العالم العربي غابة من الرسامين. وإن كان أثرهم في الواقع لا يزال محدوداً؛ لأسباب عديدة».
الجزء الأول «الفاتحون» الذي أبصر النور بعناية «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة» في البحرين، يتكون من مقدمة شيقة تحمل عنوان «ما لا نتذكره لا يحدث»، ثم يستعرض الكاتب مسارات 86 فناناً عربياً من المؤسسين، وجميعهم ولدوا قبل عام 1935، بادئاً بالفنانين داود وجورج قرم من لبنان، ومنتهياً بإلياس الزيات أحد مؤسسي كلية الفنون الجميلة بدمشق. اللطيف في الصفحات التي خصصت لكل فنان، أنها كتبت بأسلوب رشيق، لا إسهاب فيه، فيها معلومات وافية عن حياة كل منهم، مع تتبع مساره الفني، وتحري المؤثرات على عمله، وكذلك تطور أسلوبه الجمالي، وإعطاء فكرة واضحة عما تميز به كل منهم، ومدى تأثيره في فناني عصره أو من أتوا بعده. وهو ما يفسح في المجال أمام القارئ أن يشكل فكرة عن المحطات الرئيسية في تاريخ الفن التشكيلي العربي.

من هم المؤسسون؟

نحو 600 صفحة من الورق الصقيل، مزدانة بصور تبرز أهم أعمال كل فنان، إلى جانب مساره الإبداعي. وهو ما جعل الكاتب يطلق على مشروعه الموسوعي هذا صفة «متحف خيالي». لم ينشغل الكاتب بهاجس ألح طويلاً على مؤرخي الفن، وهو: من الذي بدأ الرسم أولاً؟ أو من يكون المؤسس الأول؟ «قررت أن أتصفح أوراق تجارب الفنانين الأوائل، واحداً بعد آخر، كما لو أني أتصفح كتاباً وضعته الحياة بين يدي. أنا هنا أعيد رواية أحداث، كان لها أكبر الأثر في تطوير معرفتنا بالرسم، ومن ثم الارتقاء بذائقتنا الجمالية».
يشرح فاروق يوسف لـ«الشرق الأوسط» أنه قضى 5 سنوات منكباً على البحث كي يصدر هذا الكتاب... «في النهاية، المشقة (الأكبر) كانت في جمع المعلومات المشتتة، وغربلة الفنانين الذين عليّ أن أختارهم، وسط كم هائل من الأسماء. هناك أسماء معروفة لكنها لم تكن مؤثرة. وبالتالي فإن أول رسام عراقي، على سبيل المثال واسمه عبد القادر سالم، ليس موجوداً في الكتاب؛ لأن أسلوبه كان مدرسياً».
يشرح يوسف أن «اللوحة التي تعلق على حائط هي فن غربي. نحن في تراثنا الرسم قديم وموجود، لكنه لم يكن يوضع في إطار ويعلق. كان موجوداً على الخزف والورق والقماش والزجاج وفي الكتب، وحين أتحدث عن الفاتحين أو المؤسسين، فهم أولئك الذين كانوا أول من رسموا لوحات توضع على جدار بالمعنى الغربي». وهنا يلفت يوسف إلى أن اللبنانيين كانوا سباقين إلى الريادة، متقدمين على المنطقة العربية كلها، لأسباب دينية، ولوجود الرسم في الكنائس. الرسام داود قرم ذهب لدراسة الرسم في روما سنة 1870، مما مهد الطريق لابنه جورج لدراسة الرسم في باريس من بعده. داود قرم بدأ الرسم في الكنائس والأديرة قبل أن ينتقل إلى الرسوم الشخصية، وهو ما أكسبه شهرة عالمية في زمانه، وقد أصبح على صلة بالملوك والأمراء والساسة الذين رسمهم، في أوروبا ومصر والآستانة. وعلى خطاه سار ابنه جورج منتقلاً من الرسم الكنسي إلى رسم المناظر الطبيعية والأشخاص. وتكر سبحة الفنانين، فنمر على حبيب سرور الذي يصح أن يطلق عليه لقب «المعلم»، فعلى يديه تتلمذ مصطفى فروخ وصليبا الدويهي. وهو الذي كان أول من اكتشف موهبة جبران خليل جبران الفنية.

فنان وقصة ومفاجأة
الكتاب يقوم بمسح لفنانين من مختلف الدول العربية، فنجد محمود سعيد، ومحمد راسم، وراغب عياد، وجواد سليم، والهادي الخياشي وولده نور، ونصير شورى، والهادي التركي، وحاتم المكي، والشعيبية طلال، والجيلالي الغرباوي، وباية محيي الدين، وفاتح المدرس، وأحمد شبرين، وإيتيل عدنان، وشفيق عبود، وعارف الريس، وإسماعيل شموط، وشاكر حسن آل سعيد، وأحمد الشرقاوي، وأمين الباشا، وعلي بن سالم.
رسامون مشاهير، وآخرون أقل شهرة، لكنهم جميعهم استحقوا وجودهم في هذا المرجع، ولا بد من أن يجد القارئ في تتبع سيرهم المتلاحقة ما يجعله يفهم صلة الرحم الثقافي بين فنان وآخر، وربما فهم الشقة التي أبعدت بعضهم. هناك الفنانة العراقية مديحة عمر، التي ماتت عام 2006 عن 98 عاماً. امرأة لم يعرف عنها الكثير، رغم أنها من أهم رائدات الفن التشكيلي الحديث في العراق، فقد قضت جل حياتها في الولايات المتحدة الأميركية، إلا إن المعرضين اللذين أقامتهما في بغداد يشهدان على مرورها المؤثر في الثقافة العراقية. وميزة هذه العراقية المغتربة أنها شغفت بالخطوط العربية منذ طفولتها. وقد أسهمت مديحة عمر منذ الأربعينات في البحث عن الحرف العربي عبر الفن التشكيلي متوخية الكشف عن طاقاته الإبداعية.
إلى جانب المسار الإبداعي، نجح الكاتب في إدخالنا إلى حياة هؤلاء الفنانين، التي غالباً ما تتسم بالمفاجآت والتشويق، بسلاسة وعذوبة؛ إذ سيحلو لك أن تقرأ حكاية الرسامة فخر النساء زيد؛ تركية الأصل التي تزوجت من الأمير زيد بن علي شقيق ملك العراق فيصل الأول، وبيعت لوحتها «انشطار الذرة وحياة النبات» عام 2013 مقابل 2.74 مليون دولار.

ملحقان للتيناوي
والمجموعات الفنية

للكتاب ملحقان: الأول خصص لأبي صبحي التيناوي، ولد عام 1888 ومارس الرسم على الورق والزجاج. نشأ أمياً، ثم صار رساماً. رسم وباع ما كان يخطه في المقاهي الشعبية في دمشق، وسيلة لكسب الرزق، إلى أن لحظ البعض في الستينات في رسومه أصالة وتمايزاً، وطبعت رسومه وبيعت بسبب إقبال اللبنانيين والأجانب عليها، لاقتنائها. ويعلق فاروق يوسف: «هو رسام لا يمكن إنكار اتصال أعماله بفن عربي، ممتد إلى مقامات الحريري التي زينها يحيى بن محمود الواسطي برسومه في القرن الثالث عشر الميلادي». لكن الكتاب لم يدرج التيناوي مع جملة الفنانين المؤسسين، باعتباره لا ينتمي إلى مدرسة الفن الحديث، ولم يأت بجديد، لكنه رغم ذلك أثر في عدد من الرسامين العرب والسوريين.
أما الملحق الثاني فمخصص للجماعات الفنية التي نشأت في تلك الفترة المبكرة، وكان لها حضورها... نجد «جماعة الفن والحرية» المصرية التي قامت بتأثير من بيان «برايتون - تروتسكي» الذي صدر عام 1938 في المكسيك ودعا إلى إنشاء اتحاد أممي للفن الثوري الحر. وكانت هذه الجماعة بعيدة؛ لا بل منفصلة عن التجارب التي استلهمت التاريخ المصري وحياة الفلاحين، ويمكن القول إنها سارت عكسها. هناك أيضاً «جماعة بغداد للفن الحديث» ودعت إلى استلهام جماليات فن يحيى بن محمود الواسطي الذي عاش في العراق في القرن الثالث عشر، ومن بين أعضائها جواد سليم وجبرا إبراهيم جبرا. و«جماعة مدرسة تونس» التي قدمت أعمالاً صورت الحياة المحلية بأسلوب استشراقي عديم الخيال.
ويشرح لنا يوسف أن «فترة التأسيس في الرسم العربي كانت أكثر أصالة من اليوم. كان لكل من هؤلاء الفاتحين الذين تحدثت عنهم في كتابي، عالمه الخاص. وهي مرحلة عظيمة ترك فنانون كبار بصمات بنى عليها من جاءوا بعدهم». وفي رأيه أن «بروز فكرة القومية، وأحزابها التي شهدت ذروتها في الستينات والسبعينات، أثرت على المزاج الفني. لهذا نرى أن اللوحات فقدت شيئاً من بريقها». يعطي مثلاً على ذلك الفن المصري بعد جمال عبد الناصر، ويقول: «لو قارنا ما قبل بما أتى بعد ذلك، فسنجد أن اللوحات في مصر، أصبحت تتشابه في مفرداتها، وطغت عليها الألوان الترابية. لقد نما اهتمام بالتاريخ الفرعوني وحصل تأثر واضح».

إصداران إضافيان منتظران
يستعد المؤلف لإصدار المجلد الثاني من هذا العمل الكبير، عن الرسامين العرب، دون الأخذ بالاعتبار انتماءاتهم القطرية، بل ينظر إليهم جميعهم باعتبارهم ينتمون إلى ثقافة واحدة رغم بعض التمايزات. وسيخصص الجزء الثاني للرسامين الذين ولدوا قبل ستينات القرن الماضي وبعد 1935، «وهي فترة صعبة؛ لأنها شهدت انفتاحاً كبيراً على العالم. سنرى خلال هذه المرحلة تأثير ظهور الفن التجريدي في أميركا، في أربعينات القرن الماضي، حيث حدث نوع من الفوضى في أحوال الفن في العالم، نبت أشخاص لا يجيدون الرسم أصلاً وتمكنوا من بيع لوحاتهم بمبالغ باهظة».
ويبدو أن إنجاز المجلد الثالث سيكون أصعب من الاثنين السابقين له، بحسب المؤلف؛ «وذلك لأننا لا نزال نقطف ثمار العشوائية التي انتشرت في الفن. نحن نعاني من الكثرة المفرطة في عدد الفنانين والأعمال. هناك فنانون شباب لا يعرفون كيف يرسمون شجرة، أو شخصاً، ومع ذلك معترف بهم، وربما لهم رواج. هذا ليس دفاعاً مني عن التشخيص في الرسم، ليس هذا ما أقصده، وإنما يفترض من الفنان أن يجيد الحرفة. وهؤلاء الذين أتحدث عنهم أصبحوا أغلبية، وبالتالي هم قادرون على فرض وجودهم والدفاع عن أنفسهم».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.