أدوات مطورة لشمّ الروائح وتوصيفها

«نَيْزَلْ رَيْنجر» يرصد خصائصها

جهاز «نَيْزَلْ رَيْنجر» لقياس الروائح
جهاز «نَيْزَلْ رَيْنجر» لقياس الروائح
TT

أدوات مطورة لشمّ الروائح وتوصيفها

جهاز «نَيْزَلْ رَيْنجر» لقياس الروائح
جهاز «نَيْزَلْ رَيْنجر» لقياس الروائح

يرى تشاك ماك جينلي، المهندس الكيميائي الذي ابتكر أداة محمولة لقياس الروائح، في مساعدة النّاس في فهم ما يشمّونه... جانباً علمياً مهماً.
ترجّل جينلي من سيارته ونظر إلى مداخن مصانع معالجة اللحوم الظاهرة من فوق الأشجار العالية، فأخذ نفساً عميقاً. في البداية، لم يشمّ شيئاً باستثناء الرائحة الجميلة والخفيفة المنبعثة من الأشجار المجاورة.
ولكنّ الرياح نشطت فجأة، فاشتمّ ماك جينلي رائحة «بشعة للغاية».
عندها، عمد أحد زملائه إلى حشر أداة «نَيْزَلْ رَيْنجر Nasal Ranger» في أنفه، وهي عبارة عن جهاز صغير لقياس الروائح بمقاس 14 بوصة، بتصميم يتقاطع بين مسدّس الرادار وبين البوق، ويُعدّ أحد أهمّ اختراعات المهندس.

«أدوات» الشم
لتوصيف الرائحة المقرفة، استعمل الفريق أداة أخرى من تطوير ماك جينلي أيضاً، وهي عبارة عن عجلة للرائحة على شكل رسمٍ بياني أشبه بعجلة تدرّجات الألوان التي يستخدمها الفنّانون، عمل المهندس على تطويرها لعقود. فقال أحد الزملاء إنّ الرائحة «حامضة»، بينما قال آخر إنّها أشبه «بالعفن المخلوط ببعض الوقود».
من مختبره غير التقليدي في إحدى ضواحي ولاية مينيسوتا (الذي يبدو أشبه بكوخٍ للتزلج)، أسّس المهندس وابنه ميداناً كبيراً في مجال قياس وفهم الروائح. إذ إنهما جهّزا العلماء في جميع أنحاء العالم بأدوات اخترعها ماك جينلي الأب، وقدّما المشورة للحكومات لوضع القوانين التنظيمية الخاصة بالروائح، وساهما في تمكين المجتمعات الصغيرة القاطنة بالقرب من أماكن تنبعث منها الروائح من استخدام المصطلحات الصحيحة في الشكاوى، ومن قياس الروائح التي تشتمها أنوفهم.
تكاد تكون حاسّة الشمّ الأكثر مراوغة وقوّة من بين الحواس البشرية، لأنها قد تستيقظ في أي وقت، ككبسولة زمنية تعيدنا إلى ماضٍ نسيناه، وقد تترك أثراً طويل الأمد لتحرّك مشاعر لا يمكن تحديدها أو وصفها.
تولّد حاسة الشمّ إنذارات قيّمة، إذ تستطيع نفحة صغيرة أن تعلمكم ما إذا كان الحليب غير صالح للشرب، وما إذا كان جوربكم نظيفاً أم متسخاً. تحوّلت حاسة الشم أيضاً إلى أداة تشخيصيّة، إذ إنّ خسارة القدرة على الشمّ قد تعني أنكم مصابون بفيروس «كوفيد - 19». من جهته، يرى ماك جينلي أنّ «الأنف هو إنذار مبكّر على أنّ أمراً ما لا يسير على ما يرام».
يصف النّاس عادةً ما يرونه ويسمعونه والأشياء التي يلمسونها بثقة كبيرة، ولكنّهم يرتبكون غالباً عندما يتعلّق الأمر بالروائح، ما يدفعهم إلى الاستعانة بالاستعارة دائماً لوصف ما يشمّونه... أي إنّ «الرائحة» تشبه دوماً شيئاً آخر كالورود، أو الكلب المبلل، أو حتّى منزل الجدة.

إحساسات الأنف
تَنتُج الرائحة ببساطة عن تفاعل المواد الكيميائية في الهواء. والأنف البشري هو حتّى اليوم الأفضل في رصدها. توجد روائح بارزة أكثر من الأخرى ككبريتيد الهيدروجين (رائحته كالبيض الفاسد)، التي يمكن شمّها ولو كانت بتركيزات منخفضة جداً لا تتعدّى جزءاً واحداً في المليار.
يشرح د. كوزييل من جامعة ولاية «آيوا»، الأمر على الشكل التالي: «إذا حاولتم تحديد مسافة الطريق بين نيويورك ولوس أنجليس، يمكن القول إنّ الجزء الواحد في المليار يعادل بضع بوصات فقط من هذه الطريق».
ولكنّ هذه الحقيقة تسلّط الضوء على صعوبة تنظيم الروائح قانونياً خصوصاً أن كبريتيد الهيدروجين لا يشكّل خطراً على الصحّة بهذه التركيزات الطفيفة، إلّا أنّه قد يكون «مسبباً جدياً للاضطراب» لدى الناس، على حدّ وصف سوزان شيفمان، الطبيبة النفسية التي تدرس حاستي الشم والتذوّق منذ 50 عاماً.
من جهتها، ترى باميلا دالتون، عالمة النفس التي تدرس مجالات التقاط الروائح في مركز «مونيل كيميكال سنسز» في فيلادلفيا، أنّ «قياس الانبعاثات شيء وقياس الرائحة شيءٌ آخر، لأن الأخيرة عبارة عن إحساس يمكن أن يختلف بشكلٍ كبير بين الناس، وهذا الأمر يقيّد تنظيم الروائح»، لافتةً إلى أنّ جميع أنواع المصانع يمكن أن تُصدر انبعاثات، وحتّى تلك التي تصنع البسكويت.
يزداد يوماً بعد يوم عدد الأطباء الذين يدعمون نظرية تسبب الروائح بمشكلات صحية جسدية ونفسية. فقد أظهر أحد الأبحاث أنّ النّاس الذين يعيشون بالقرب من مواقع سيئة الرائحة قد يعانون من عوارض كألم الرأس وحرقة العينين والغثيان، بالإضافة إلى تحديات نفسية كالاكتئاب والقلق العصبي.
يعود قرار عدم تنظيم الروائح على المستوى الفيدرالي إلى السبعينات. ففي سلسلة من استطلاعات الرأي، وجدت الوكالات الفيدرالية أنّ نصف المشاركين يرون في الروائح مشكلة جدية، ولكنّ وكالة حماية البيئة الأميركية قرّرت أخيراً ترك الأمر للحكومات المحلية لوضع قوانين متعلّقة بمضار الروائح كما فعلت مع مضار الضجيج.
أمّا اليوم، فتطبّق عشر ولايات تقريباً قوانين تنظيمية للروائح، وبادر الكثير من الحكومات المحلية إلى إقرار مراسيم خاصة للروائح، إلّا أنّ النظام العام لا يزال ناقصاً ويتسبب بالكثير من الخلافات التي تتطلّب حلاً في المحاكم.

قياس الرائحة
اقترن قياس الروائح لقرون بالكيمياء. ففي خطاب ألقاه في حفلٍ للتخرّج عام 1914، شرح المخترع الشهير ألكسندر غراهام بيل، أهمية القياس في تقدّم العلوم، مضيفاً أنّ الصوت والضوء قابلان للقياس، ولكنّ الرائحة ليست كذلك. وقال: «إذا كنتم تطمحون لتطوير علمٍ جديد، أعملوا على قياس الرائحة».
تعمل أجهزة قياس الروائح التي طُوّرت منذ مائة عامٍ تقريباً، على مبدأ سحب الهواء من فجوة صغيرة ومن ثمّ تخفيف تركيزه حتّى يصبح الإنسان غير قادر على شمّه، ليتمكّن العلماء من تحديد قوة الرائحة بناءً على درجة التخفيف. لاحقاً، طورت حكومة الولايات المتحدة جهاز قياس محمول للرائحة على شكل علبة صغير شفّافة مصنوعة من الأكريليك وتضمّ فجواتٍ مختلفة الأحجام ولها هدفٌ واحد: الحصول على قراءة مناسبة لقياس الرائحة من خلال تغطية الفجوات بالأصابع ومن ثمّ رفع كلّ واحد منهم على حدة. ولكنّ استخدامها كان معقّداً.
راودت ماك جينلي فكرة تطوير جهازه الخاص خلال إجازة في هاواي، عندما رأى بركان «هالياكالا» ووجد أنّ الشكل المخروطي يصلح كأداة لقياس الشم. وهكذا طوّر «نَيْزَلْ رَيْنجر» الذي يعد أكثر بساطة وسهولة للاستخدام من علبة الأكريليك ذات الفجوات والأصابع، لأنّ كلّ ما يتطلّبه هو تعديل العجلة باستمرار حتّى يصبح مستخدمها عاجزاً عن شمّ الرائحة العابقة. وحديثاً، وصفت د. دالتون من مركز «مونيل» أداة «نَيْزَلْ رَيْنجر» بالقفزة النوعية مقارنةً بأجهزة قياس الروائح القديمة. ويسعى العلماء اليوم بالتعاون مع شركات ناشئة لتطوير أنوف إلكترونية قادرة على قياس الروائح وتحديدها كالأنوف الحقيقية، ولكنّهم لم يتوصلوا إلى التقنية المطلوبة بعد.
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

تكنولوجيا تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

نصح تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة «أبل»، مطوري التطبيقات في المنطقة باحتضان العملية بدلاً من التركيز على النتائج.

مساعد الزياني (دبي)
تكنولوجيا خوارزمية «تيك توك» تُحدث ثورة في تجربة المستخدم مقدمة محتوى مخصصاً بدقة عالية بفضل الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

خوارزمية «تيك توك» سر نجاح التطبيق وتحدياته المستقبلية

بينما تواجه «تيك توك» (TikTok) معركة قانونية مع الحكومة الأميركية، يظل العنصر الأبرز الذي ساهم في نجاح التطبيق عالمياً هو خوارزميته العبقرية. هذه الخوارزمية…

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص تم تحسين هذه النماذج لمحاكاة سيناريوهات المناخ مثل توقع مسارات الأعاصير مما يسهم في تعزيز الاستعداد للكوارث (شاترستوك)

خاص «آي بي إم» و«ناسا» تسخّران نماذج الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات المناخية

«الشرق الأوسط» تزور مختبرات أبحاث «IBM» في زيوريخ وتطلع على أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي لفهم ديناميكيات المناخ والتنبؤ به.

نسيم رمضان (زيوريخ)
خاص يمثل تحول الترميز الطبي في السعودية خطوة حاسمة نحو تحسين كفاءة النظام الصحي ودقته (شاترستوك)

خاص ما دور «الترميز الطبي» في تحقيق «رؤية 2030» لنظام صحي مستدام؟

من معالجة اللغة الطبيعية إلى التطبيب عن بُعد، يشكل «الترميز الطبي» عامل تغيير مهماً نحو قطاع طبي متطور ومستدام في السعودية.

نسيم رمضان (لندن)
خاص من خلال الاستثمارات الاستراتيجية والشراكات وتطوير البنية التحتية ترسم السعودية مساراً نحو أن تصبح قائداً عالمياً في التكنولوجيا (شاترستوك)

خاص كيف يحقق «الاستقلال في الذكاء الاصطناعي» رؤية السعودية للمستقبل؟

يُعد «استقلال الذكاء الاصطناعي» ركيزة أساسية في استراتيجية المملكة مستفيدة من قوتها الاقتصادية والمبادرات المستقبلية لتوطين إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي.

نسيم رمضان (لندن)

لأول مرة: الذكاء الاصطناعي يصمم توربين رياح لتوليد الطاقة بين المباني

لأول مرة: الذكاء الاصطناعي يصمم توربين رياح لتوليد الطاقة بين المباني
TT

لأول مرة: الذكاء الاصطناعي يصمم توربين رياح لتوليد الطاقة بين المباني

لأول مرة: الذكاء الاصطناعي يصمم توربين رياح لتوليد الطاقة بين المباني

صمم نظام ذكاء اصطناعي جديد توربين رياح لأول مرة في التاريخ، وفقاً لمطوره.

نظام ذكاء هندسي ثوري

وأعلنت شركة «EvoPhase» البريطانية أن الذكاء الاصطناعي الخاص بها تخلى عن جميع القواعد الراسخة في هندسة مثل هذه الأجهزة. وبناءً على اختباراتها، فإن اختراعها أكثر كفاءة بسبع مرات من التصميمات الحالية.

تتكون «شفرة برمنغهام» The Birmingham Blade -كما تسمي الشركة التوربين- من ست أذرع موازية للأرض متصلة بمحور عمودي مركزي. وتحتوي كل ذراع على شفرة رأسية، وسطح به موجتان تغيران زاوية هجومهما عبر ارتفاعها وطولها.

لعمل مع سرعات رياح منخفضة

يتم تحسين توربينات الرياح التقليدية لسرعات رياح تبلغ نحو 33 قدماً في الثانية. في المقابل، تم تصميم «الشفرة» لسرعات الرياح المتوسطة المنخفضة النموذجية للمناطق الحضرية مثل برمنغهام، والتي تبلغ نحو 12 قدماً في الثانية. هذا يزيد قليلاً عن ثمانية أميال (13كلم تقريباً) في الساعة.

وتم تحسين التصميم للعمل بين المباني الشاهقة التي تنتج أنماط اضطراب تؤثر على فاعلية تصميمات التوربينات الحضرية الأخرى. وإذا ثبت أن هذا صحيح، فقد يفتح التصميم الباب أمام إنتاج كهرباء غير محدود في المباني المكتبية والسكنية بتكلفة تكاد تكون معدومة.

يقول ليونارد نيكوسان، كبير مسؤولي التكنولوجيا في الشركة، في بيان صحافي: «كان استخدام الذكاء الاصطناعي ضرورياً للتحرر من التحيزات طويلة الأمد التي أثرت على تصميمات التوربينات خلال القرن الماضي. سمح لنا الذكاء الاصطناعي باستكشاف إمكانيات التصميم خارج نطاق التجارب البشرية التقليدية».

وفقاً لنيكوسان، تمكن المصممون من «توليد واختبار وتحسين أكثر من 2000 تصميم لتوربينات الرياح في غضون أسابيع قليلة، ما أدى إلى تسريع عملية التطوير لدينا بشكل كبير وتحقيق ما كان يستغرق سنوات وملايين الجنيهات من خلال الطرق التقليدية».

سحر «التصميم التطوري»

«التصميم التطوري الموجه بالذكاء الاصطناعي» هو منهجية تقوم على نفس فكرة الانتقاء الطبيعي. تبدأ العملية بتوليد آلاف المتغيرات التصميمية التي يتم تقييمها وفقاً لوظيفة «البقاء للأفضل»، والتي تحدد مدى نجاح كل متغير في تلبية أهداف المشروع. ويختار الذكاء الاصطناعي أفضل البدائل لاستخدامها أساساً لتكرارات جديدة، وإعادة الجمع بين الميزات وتنويعها لتطوير إصدارات محسنة.

تتكرر هذه الخطوات حتى يصل الذكاء الاصطناعي إلى حل يحقق تحسين جميع العلامات المهمة مثل الكفاءة الديناميكية الهوائية، والاستقرار الهيكلي، والوزن، أو الاكتناز.

تقول الشركة إن عمليتها تتجنب التحيزات البشرية الموجودة في الهندسة التقليدية. بطبيعتها، تكون الهندسة التقليدية محدودة بالأفكار والمعرفة السابقة.

من ناحية أخرى، يستكشف الذكاء الاصطناعي مجموعة واسعة من الاحتمالات دون القيود في العقل البشري. عندما تجمع بين جيل الذكاء الاصطناعي والتكرار التطوري، يمكن أن يؤدي هذا إلى نتائج مبتكرة تتحدى غالباً الفطرة السليمة ولكنها لا تزال تعمل.

إن نهج التصميم التطوري هذا ليس جديداً تماماً، إذ استخدمت صناعة الطيران والفضاء برامج بهذه القدرات لسنوات. ومثلاً استخدمت شركة «إيرباص»، بالتعاون مع شركة «أوتوديسك»، عملية مماثلة لتصميم حاجز مقصورة خفيف الوزن للغاية لطائراتها من طراز A320وظهرت النتيجة مستوحاة من هياكل العظام الطبيعية، ما أدى إلى انخفاض الوزن بنسبة 45 في المائة مقارنة بالهياكل المماثلة المصممة بالطرق التقليدية.

كما طبقت شركة «جنرال إلكتريك» الخوارزميات التطورية في إعادة تصميم حامل محرك نفاث جديد، مما أدى إلى انخفاض وزن القطعة بنسبة 80 في المائة. وتستخدم وكالة «ناسا» أيضاً هذه التقنية منذ سنوات، ففي عام 2006 استخدمت الوكالة خوارزمية تطورية لتصميم «هوائي متطور».

نجاح توربين «برمنغهام بليد»

لقد طبق فريق المصممين بقيادة الدكتور كيت ويندوز - يول من جامعة برمنغهام هذه العملية التطورية لحل مشكلة تكافح العديد من تصميمات التوربينات لمعالجتها: كيفية العمل بكفاءة في البيئات الحضرية، حيث تكون الرياح أبطأ وأكثر اضطراباً بسبب المباني.

ويقول نيكوسان: «كنا بحاجة إلى توربين يمكنه التقاط سرعات الرياح المنخفضة نسبياً في برمنغهام مع إدارة الاضطرابات الناجمة عن المباني المحيطة. وكان لا بد أن يكون التصميم أيضاً مضغوطاً وخفيف الوزن ليناسب التركيبات على الأسطح».

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»