موسكو أمام خيارَي الحرب المحدودة أو التنازلات المتبادلة

سيناريو «الغزو الشامل» مستبعد... والأزمة مرشحة لتكون طويلة الأمد

صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
TT

موسكو أمام خيارَي الحرب المحدودة أو التنازلات المتبادلة

صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)

أيام كانت مثقلة بتوقعات ساخنة. قد تكون هذه الحصيلة الأساسية لأسبوع حَبَس العالم فيه أنفاسه، وهو يترقب اندلاع المعركة الحاسمة في أوكرانيا. إذ سيطرت حال التأجيج التي وجّهتها وسائل إعلام ومراكز قرار غربية على الموقف. وبات العالم يحسب الساعات والدقائق في انتظار «ساعة الصفر» بعدما حدد موعد الحرب، ورسم خرائطها. بل حدد ملامح نتائجها الأولى على الأقل.
اجتياح في 15 أو 16 فبراير (شباط) كان سيسفر عن سقوط العاصمة الأوكرانية كييف بأيدي الروس في غضون 48 ساعة، مع وقوع عشرات الألوف من الضحايا من الجانبين.
مشهد قاتم عزّزته الحشود العسكرية الروسية والغربية على طرفي الحدود. ولكن مرّ يوم 15 فبراير من دون أن يحدث شيء. ثم مرّ يوم 16 الذي حدّدته توقّعات موازية للحدث الكبير، ولم يحدث شيء أيضاً. وبدلاً من مشاهدة تقدم الحشود العسكرية واختراق الحدود، وتفجر نهر الدماء المتدفقة للضحايا، راقب العالم بحذر وريبة مشهد الدبابات الروسية وهي تغادر بهدوء «أرض المعركة» عائدة إلى أماكن تمركزها الدائمة بعد انتهاء التدريبات العسكرية التي أعلنت عنها موسكو في وقت سابق.
سخرت موسكو كثيراً من «خبراء» التحليل السياسي في الغرب والشرق، لدرجة أن الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا دعت وسائل الإعلام إلى وضع «أجندة جديدة» للغزو الروسي المحتمل «كي نتمكن من تحديد مواعيد إجازاتنا السنوية المقبلة». كذلك سخر الكرملين من ذلك على طريقته الخاصة، فقال الناطق باسمه ديمتري بيسكوف: «نمنا ليلة 16 فبراير بهدوء، وصحونا في اليوم التالي لممارسة أعمالنا الكثيرة، لم نغيّر جدول أعمالنا، وإذا كانت لديهم تواريخ أخرى تدفعنا للقلق فليبلغونا بها».
تخفي عبارات السخرية هذه نوعاً من الشماتة بقدرة الغرب، ووسائل الإعلام المتأثرة بدعاياته، على وضع تصوّرات مقنعة لمنطق تسلسل الأحداث المنتظر.
هنا يبرز السؤال الأول؛ هل أعدت موسكو فعلاً لغزو شامل للأراضي الأوكرانية؟
أظهر حجم الحشود العسكرية والمعدات والآليات التي دفعت بها موسكو إلى الحدود الغربية لروسيا، أن الكرملين تأهب فعلاً لمواجهة تطوّر حاسم، أو على الأقل، أراد توجيه رسالة حازمة بأن كل الخيارات مفتوحة أمامه. غير أن السيناريوهات التي وضعتها الإدارة الأميركية، ولقيت رواجاً واسعاً في عدد من العواصم الغربية، بدت أقرب إلى أن تكون خيالية وبعيدة عن التنفيذ على أرض الواقع.
لقد تناقل العالم «خرائط المعركة» المنتظرة، التي برز فيها توغل محتمل للقوات الروسية من أراضي بيلاروسيا شمالاً، وهي أقرب نقطة إلى العاصمة الأوكرانية كييف، يتزامن مع اختراق سريع لجبهة الشرق عبر أراضي إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين عن أوكرانيا، فضلاً عن توجيه ضربات مكثّفة ومركّزة من البحر إلى مواقع البُنى التحتية العسكرية الأوكرانية.

مغامرة عسكرية خطرة
هذا السيناريو يشكل «مغامرة عسكرية» عواقبها وخيمة، كما قال الجنرال السابق ليونيد إيفاشوف، الذي حذّر في رسالة مفتوحة وجّهها مع «جمعية ضباط عموم روسيا» التي تضم جنرالات سابقين مرموقين من السير على هذه الطريق. ولكن بصرف النظر عن تحذير الخبير العسكري البارز، ولعله أمر له أهمية خاصة لأنه يظهر المزاج العام لدى طبقة «الحرس القديم» من العسكريين الروس، فإن احتمالات تطبيق هذه الخطة تبدو ضعيفة للغاية، لأنه سيعني فتح الجبهة التي تدخل فيها روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا على مساحة واسعة للصراع، ما سيجبر بلدان أوروبية على التدخل المباشر. وهذا، فضلاً عن أن هذا يعني، بالمعنى العسكري، أن تواجه موسكو «حرب عصابات» على مساحات شاسعة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يجوز مقارنة قدرات أوكرانيا بقدرات جورجيا – المتواضعة نسبياً – عندما تعرضت الأخيرة لغزو روسي سريع عام 2008.
باختصار، في حساب التكلفة بالنسبة لروسيا لن تكون الحرب في أوكرانيا سهلة وخاطفة. وإضافة إلى تكبد خسائر كبيرة نظراً لتطور الجيش الأوكراني خلال السنوات الأخيرة، وتزويده بترسانة نوعية من الأسلحة – وبخاصة، خلال الأشهر القليلة الماضية – فإن الخيار العسكري سيهدم آخر الجسور بين الشعبين الروسي والأوكراني. ثم إنه سيجبر روسيا على خوض «حرب استنزاف»، وخاصة، في مناطق غرب أوكرانيا المعروفة تاريخياً بنفورها من سيطرة الإمبراطورية الروسية، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي. بل فوق كل هذا، ستدخل روسيا في مواجهة مع عقوبات سياسية واقتصادية غربية، يلوّح الغرب بأنها ستكون «كرة ثلج متدحرجة» ستدفع موسكو ثمناً باهظاً لها، كما ستدفع الحرب إلى تعزيز «ناتو» (حلف شمال الأطلسي) قواعده وقواته في شرق أوروبا.
ومن جانب آخر، على الصعيد الداخلي الروسي، ليس مضموناً للكرملين منع أي ردود شعبية رافضة للحرب، قد تأخذ خطاً متصاعداً إذا طال زمن العمليات الحربية وبدأت العقوبات الغربية تلقي بثقلها على الاقتصاد الروسي.

ماذا تريد واشنطن؟
لكن، لماذا روّجت واشنطن لهذا السيناريو رغم النفي الروسي المتكرّر له؟
يقول خبراء في موسكو إن الإدارة الأميركية «سعت إلى حشر الرئيس فلاديمير بوتين في زاوية». بمعنى أنه إذا أقدم بوتين على أي توغل فسيواجه ردّ فعل حازماً وقوياً، وسيكون - بالتالي - مضطراً لخوض مغامرة يصعب التكهن بنتائجها. أما في حال تراجع الرئيس الروسي، فسيظهر وكأنه قدّم تنازلات تحت الضغط الأميركي المتواصل، ما يؤسس لتحسين شروط واشنطن التفاوضية حول القضايا المختلفة الموضوعة على طاولة الأزمة.
فلاديمير بوتين لم يختر حتى الآن هذا الطريق، ويبدو أنه لن يغامر أصلاً باقتحامه. والسيناريو الثاني الذي تضعه بعض الأوساط الروسية بين الخيارات الأفضل للكرملين هو تنفيذ عملية عسكرية صغيرة ومحدودة في جنوب شرقي أوكرانيا، لكن هذا مرتبط بوصول كل المفاوضات الجارية مع الغرب إلى طريق مسدودة.
بدا من الزيارات النشطة التي قام بها مسؤولون غربيون إلى موسكو خلال الأسبوع الأخير، أن مسار الحوار لم يُغلَق بعد، على الرغم من فشل الأطراف في تقريب وجهات النظر في أي من الملفات المطروحة. إذ لم ينجح المستشار الألماني أولاف شولتس، ومن قبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الحصول على تعهد واضح من بوتين بأنه لن يقوم بعمل عسكري في أوكرانيا. وهذا وضع مفهوم للغاية، إذ إنه بمجرد تقديم بوتين هذا التعهد المُلزِم ستكون الأزمة الساخنة وصلت إلى نهايتها، وهذا أمر لا يرضي الكرملين طالما لم يحصل مقابله على الضمانات التي يريدها حول الأمن الاستراتيجي في أوروبا، ومسألة تمدد «ناتو» شرقاً.
لذا عمد بوتين إلى مواصلة البناء على سياسة الغموض المقلق. وكما كان متوقعاً، لم يعلن الطرفان الروسي والألماني عن تحقيق نتائج ملموسة في ختام جولة المباحثات التي أجراها بوتين وشولتس. لكن الطرفين تعمدا توجيه رسائل إيجابية لجهة الاستعداد لمواصلة الحوار حول الملفات الخلافية، مع أن بوتين تعمد إبقاء الأبواب مفتوحة أمام كل الاحتمالات، في حال وصلت المفاوضات مع الغرب إلى طريق مسدودة. وكان لافتاً أن الرئيس الروسي قال رداً على سؤال الصحافيين الغربيين حول آفاق التحركات الروسية إن بلاده «ستتصرف وفقاً للخطة الموضوعة». وأردف: «بالنسبة إلى الطريقة التي ستتصرف بها روسيا، فهي ستعمل وفقاً للخطة، ممّ تتألف الخطة؟... من الوضع الحقيقي على الأرض. مَن يستطيع أن يجيب كيف سيتطور الوضع على الأرض؟ لا أحد حتى الآن. الأمر لا يعتمد علينا نحن فقط».

النقطة الحاسمة
هكذا وضع الرئيس الروسي الإصبع مباشرة على النقطة الحاسمة؛ طالما لم نحصل على طلباتنا فكل السيناريوهات على الطاولة، ولسنا اللاعب الوحيد المطلوب منه تقديم تنازلات. وزاد بوتين: «نحن مستعدون لعمل مشترك، وأيضاً لمتابعة مسار المفاوضات. ولكن يجب النظر في جميع القضايا، كرُزمة متكاملة من دون فصلها عن المقترحات الروسية الرئيسة، التي يعد تنفيذها أمراً ضرورياً. إنه أولوية مطلقة بالنسبة إلينا». ثم أوضح قائلاً إن بين هذه المواضيع الإحجام عن توسّع «ناتو»، وإزاحة البنية التحتية العسكرية للكتلة الأطلسية إلى مواقعها عام 1997، والامتناع عن نشر أنظمة الضربات القتالية قرب الحدود الروسية.
عموماً، يطرح فشل الجهود الدبلوماسية الكثيفة خلال الأسبوعين الأخيرين أسئلة متزايدة فيما إذا وصلت الأزمة الأوكرانية إلى «نقطة اللاعودة» بانتظار الغزو الوشيك. ورغم الاختلاف الواسع في الآراء والتقديرات، يبدو أن الجميع متفقون على أن نتيجة الصراع المحتدم ستنبثق عنها قواعد جديدة للعلاقة بين روسيا والغرب. وهذه القواعد سترسم إلى حدّ كبير مسار العلاقات الروسية - الأوكرانية مستقبلاً، مع تأثير ما سبق على ميزان القوى العالمي ومخاض ولادة خرائط جيوسياسية جديدة.
وفي ظل شكوك الغرب إزاء النيات الروسية، بدا أن موسكو سجلت نقطة في صالحها، بإثارة الغموض حول حقيقة موقفها، والهدف النهائي من حشودها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، والسيناريوهات التي قد تُقدم على تنفيذها. أيضاً بدت موسكو حريصة على تجنب وضع أي سقوف زمنية مقيدة لها، أو التلويح مباشرة باستخدام القوة، بل على العكس من ذلك اتهمت موسكو الولايات المتحدة ودول «ناتو» بمحاولة صبّ الزيت على نار الأزمة بين روسيا وأوكرانيا. ولطالما نفى المسؤولون الروس وجود نية لغزو أوكرانيا، كما لم يتردد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في محاولة تصوير روسيا على أنها هي مَن تتعرض للتهديد، وعبّر عن ذلك في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيرته البريطانية ليز تراس في الأسبوع الماضي بالقول: «نحن لا نرغب في تهديد أحد. انظروا إلى التصريحات. ليس فيها أي تهديد على الإطلاق، إنما هم يهددوننا».
من ناحية ثانية، إذا كان من شأن تكتيك الغموض الذي تتبعه موسكو فتح الباب واسعاً أمامها للمناورة، فإن الموقف الذي وضعت فيه نفسها، بتلويحها باستخدام القوة عبر الحشود العسكرية، يضعها في موقف المغامرة. إذ إن تراجعها خطوة إلى الوراء من دون تحقيق مكاسب وازنة سيرتد عليها خسائر جيوسياسية. والأمر ذاته ينطبق على واشنطن و«ناتو» والاتحاد الأوروبي، بما يتعدى نطاق وحيثيات الأزمة الأوكرانية والتداعيات المباشرة التي قد تنتج عنها.
وفي حال حسمت موسكو قرارها - سواء بالغزو أو بالتراجع عنه - فالورقة الأوكرانية بالنسبة لموسكو وواشنطن و«ناتو» والاتحاد الأوروبي، على حد سواء، تعدّ ورقة مهمة في إطار صراع جيوسياسي، تريد روسيا من خلاله تثبيت موقعها كدولة كبرى في عالم متعدد الأقطاب. وبالتالي، فرض منظومة أمنية جديدة في أوروبا، تكون طرفاً مقرراً، وتأخذ بعين الاعتبار مصالحها التي تطالب بها، وألا تستند أي مباحثات حول أمن القارة الأوروبية على ورقة أوروبية جماعية.
من الواضح الآن أن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يقبلوا بالشروط التي وضعتها موسكو كسلّة واحدة، لكن يبقى الباب موارباً أمام مخرج غير مهين لروسيا، بإبداء مرونة إزاء مطلب موسكو بتحاشي ضم أوكرانيا لعضوية «ناتو»، وتجنب الإعلان عن خطط من قبل الحلف للتوسع شرقاً، إنما دون التزامات قاطعة على المدى البعيد. ويمكن تمرير ذلك عبر تجميد البتّ بقبول عضوية أوكرانيا، أو دول أخرى كانت في عداد الاتحاد السوفياتي، لفترة زمنية طويلة، أو أن تتبنى أوكرانيا خيار الحياد مع ضمانات أمنية واضحة بالدفاع عنها في حال حصل اعتداء روسي.
وكأسهل طريقة لخفض التصعيد، تطالب موسكو كلاً من واشنطن والاتحاد الأوروبي بممارسة ضغوط أكبر على كييف لتنفيذ «اتفاقيات مينسك» لحل الصراع مع انفصاليّي شرق أوكرانيا. ولكن التصريحات الأوكرانية الأخيرة عن أن الاتفاقيات وقّعت تحت ضغط التهديد العسكري الروسي تعني أنه سيصعب إقناع أي حكومة أوكرانية بتنفيذ هذه الاتفاقيات وفقاً لتسلسلها وملحقاتها التوضيحية.
وهكذا، بين تحفظات كييف على بعض بنود الاتفاقية والتحذير من أن فرضها بحذافيرها سيؤدي إلى انهيار أوكرانيا كدولة، وبين تمسك موسكو بتنفيذها بلا تعديل أو تسويف، يتوقف الأمر كثيراً على إمكانية شق «طريق ثالث» يخفف من مخاوف كييف، فيبقي «الوضع الخاص» للمنطقتين الانفصاليين لوغانسك ودونيتسك... ولكن تحت سقف «وحدة تراب أوكرانيا». وطبعاً هذا الأمر يتطلب وقتاً، ولعله لن يتحقق، بينما تقرع طبول الحرب.

                                      راجمة صواريخ خلال مناورات روسية - بيلاروسية يوم الخميس (أ.ف.ب / وزارة الدفاع الروسية)

السيناريوهات المحتملة لتطور الأزمة
>مع انتشار القوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية من الجنوب والشرق وشبه جزيرة القرم، ومن الشمال في بيلاروسيا، والانتشار البحري في بحر أزوف، فإن روسيا قادرة - في حال وجود إرادة سياسية – على شن الحرب. وبينما يبدو السحب الجزئي للقوات من بعض المناطق «بادرة حسن نية» تجاه الغرب، فإنه لا يغير عملياً من الواقع الميداني وقدرة موسكو على تنفيذ هجوم فعال.
ومع استبعاد السيناريو الأول المتمثل في الغزو الشامل، للأسباب التي ذكرت سابقاً، ومنها أن موسكو لن تكون قادرة على تحمل تكاليفه طويلة الأمد. هناك السيناريو الثاني. وهو يتمثل في إطلاق عمليات عسكرية واسعة انطلاقاً من المحافظات الجنوبية الروسية المحاذية لشرق أوكرانيا، وكذلك من شبه جزيرة القرم، وعمليات بحرية من بحر آزوف والسيطرة على جميع المناطق الجنوبية الشرقية، ووصل القرم مع حوض الدونباس وتحويل بحر آزوف إلى بحر روسي مغلق بالكامل. بذا تمنع روسيا عملياً مرور السفن البحرية التابعة لـ«ناتو» عبر مضيق كيرتش، كما تسيطر على أهم ميناء لتصدير المواد الخام والمواد الزراعية، وتسيطر على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. هذا الاحتمال أقل كلفة نظراً لوجود أقلية روسية وازنة في هذه المنطقة المرتبطة تاريخياً واجتماعياً بروسيا، ولن يواجه الجيش الروسي مواجهة قوية من السكان المحليين.
السيناريو الثالث ينحصر في احتمال اكتفاء روسيا بشن حرب محدودة على إقليم الدونباس. ومع أن هذا الاحتمال يبقى أكبر من احتمال الاجتياح الشامل، فإنه يحمل بدوره محاذير خطرة قد تقود إلى حرب واسعة ومدمرة، تنجم عنها خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين والقوات المسلحة الأوكرانية والروسية. ثم إنه لن يحول دون العقوبات السياسية والاقتصادية الغربية.
وأما السيناريو الرابع فيقوم على دفع المقاتلين الانفصاليين في منطقتي لوغانسك ودونيتسك لشن حرب بالوكالة ضد الجيش الأوكراني، بدعم لوجستي من روسيا، مترافقاً مع شن حرب «سيبرانية» ضد البنية التحتية الحيوية، والهيئات والمؤسسات الحكومية، والقطاعات المصرفية والتجارية والخاصة. وهنا، رغم أن هذا السيناريو سيكون أقل تكلفة لموسكو، ويمكِّنها من أن تدفع عن نفسها تهمة التدخل المباشر، باعتبار أن ما يجري «صراع داخلي» أوكراني، فإن ميزان القوى الراهن يميل لمصلحة الجيش الأوكراني بمواجهة الانفصاليين. كذلك، قد تجد روسيا نفسها متورطة مجدداً في حرب مباشرة مع أوكرانيا.
مقابل السيناريوات العسكرية المطروحة، ثمة فرصة لتجنّب الحرب عبر سيناريو خامس يتضمن تراجع روسيا عن التلويح باستخدام الخيار العسكري، وتبريد الأزمة تدريجياً والبدء بسحب قواتها المحتشدة على الحدود مع أوكرانيا. ويمكن لموسكو الإقدام على هذه الخطوة بالإعلان عن انتهاء المناورات، علماً بأن المسؤولين الروس دأبوا في تصريحاتهم على نفي وجود أي نية لدى روسيا بشن حرب على أوكرانيا. هذا السيناريو سيكون مرجّحاً في حال مالت تقديرات الكرملين إلى أن الكلفة ستكون باهظة جداً، وأيضاً من خلال توفير الغرب مخرجاً مشرفاً للرئيس بوتين... أي بتقديم تنازلات قد لا تكون مرضية تماماً لموسكو، لكنها تعد كافية لفتح حوار جدي حول المطالب الأمنية المطروحة. هنا يستطيع الكرملين اعتباره إنجازاً مهماً قد يطوي مؤقتاً هذه الصفحة من المواجهة المفتوحة بين روسيا والغرب، مع أنه لا يضع آليات مباشرة لتطويق الأزمة نهائياً، بل يحوّلها إلى أزمة طويلة الأمد تستنزف طاقات الطرفين لسنوات مقبلة.



تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»