ذكريات: جولة مع الجابري بسيارتي في شوارع الرياض

كان ثمرتها خوض تجربته الفكرية في دراسة القرآن الكريم بأجزائها الأربعة

محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
TT

ذكريات: جولة مع الجابري بسيارتي في شوارع الرياض

محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
محمد رضا نصر الله والدكتور محمد عابد الجابري في صورة التقطت عام 2009 في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

ما زلت أتذكر ذلك المساء في جنادرية 1987 حين علمت لتوي عن وجود المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري في فندق قصر الرياض، فطفقت أبحث عنه، وسط عدد من أبرز مفكري العرب وأدبائهم وشعرائهم، وهم يتناولون طعام العشاء في مطعم الفندق.
توقعته ذا وجه (متفلسف) متجهم! كما بدا - بعد ذلك - المتفلسف المصري د. عبد الرحمن بدوي، وأنا أحاوره في فندق جورج سانك بباريس في صيف 1993.
حين وقفت أمام الجابري وهو وحده يتعشى، حييته معرفاً باسمي، فحياني بأحسن تحية، طالباً بدماثة خلقه ورقة طبعه أن نلتقي، بعد أن ينتهي من تناول طعامه. كان كتابه «تكوين العقل العربي» الصادر سنة 1984 قد ترك في نفوسنا وقعاً ساحراً، بغزارة معلوماته، وبيان لغته الآسرة، ومنهجه التحليلي الجديد، الذي استبان بعد ذلك بمعالجته «الأبستمولوجية» في كتابه «بنية العقل العربي» الصادر سنة 1986 مما جعله نجم مسامرات النقاش المختلفة في أماسي بيوت الأصدقاء في الرياض.
في العام الذي تلا لقاءاتنا المتعددة هذه، أدرت ندوة شارك فيها الدكاترة الأعلام، شوقي ضيف وحسن ظاظا (مصر) وعبد الله الطيب (السودان) وعبد الرحمن الطيب الأنصاري (السعودية)... أما الندوة الإشكالية المتلاطمة! فكانت بعنوان «هل العقل العربي في أزمة؟» التي استفزت مشاركة د. محمد عابد الجابري، المد الصحوي الطاغي - وقتذاك - رغم مشاركة الأكاديمي السوداني الإخواني د. جعفر شيخ إدريس أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إلى جانب د. حمد المرزوقي أستاذ علم النفس بجامعة أم القرى، وكان مدعواً إليها المفكر المصري د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت، الذي أبدى لي موافقته للمشاركة في الندوة، إلا أن أحداً أعاق طريقه إلى الرياض!
وقد بلغ من استثارة وجود الجابري على المنصة، أن حاول أحد أساتذة الإعلام «الإسلامي» بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من السعوديين، اختراق «بروتوكول» الندوة بانتزاع «ميكروفون» المداخلة قسراً! قبل فتح باب النقاش أمام جمهور القاعة، لتنتهي الندوة بتهديدي إذا ما استمرت فعاليتها، والاعتداء بالضرب على أحد أستاذة علم السياسة بجامعة الملك سعود! رغم التزامه الصمت طوال وقت الندوة. كان الجابري بتفكيكه سلطة النص المحافظ، ونقده هيمنة التراث الفكري على العقل العربي طوال قرون، سبباً في إخضاع التراث العربي الإسلامي إلى جهازه المفاهيمي، وهو يدعو للتحرر العقلي بـ«تدوين (خطاب) عربي جديد» في التداول الفكري (يجب) التدوين القديم بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين، متوسلاً في ذلك مناهج المفكرين الفرنسيين... لالاند العقلاني المجدد بمعجمه الفلسفي الموسوعي، والتوسير الذي درس القطيعة المعرفية بين ديالكتيك هيغل ومادية ماركس التاريخية، وهو ما انعكس لدى د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق في كتابه «مشروع رؤية للفكر العربي في العصر الوسيط» الصادر سنة 1971 وما تبعه من أجزاء عديدة، ثم عمق أطروحته حسين مروة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» سنة 1978 برؤية تحليلية تكاد لا تغادر الخطاب الماركسي، بتحليل التراث وفق مقولة الصراع الطبقي، وكان قد سبقهما د. زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة بكتابيه «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا العربي» متأثراً بالفلسفة الوضعية أثناء دراسته البريطانية، وهو يبحث عن الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي، رغم أنه قدم قبل ذلك دراسة لافتة عن «جابر بن حيان» سنة 1961م.
غير أن الجابري سجل مرافعته ضد جملة هذه المشروعات في كتابه «نحن والتراث» سنة 1980 وقد أصدر د. صادق جلال العظم أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق سنة 1969 كتابه «نقد الفكر الديني» على وقع هزيمة 67 المدوية، التي بعثت سؤال الهوية لدى المفكرين العرب، فلم ير الجابري في جملة مشروعاتهم سوى قراءات سلفية، استوى فيها اليميني والليبرالي والماركسي حيث لم تنتج إلا آيديولوجيا من هنا تكمن «لا تاريخيتها» وهي تستعيد سؤال شكيب أرسلان (المُتَردِّم) دون إجابة منذ سنة 1938 في كتابه «لماذا تقدم الغرب وتخلف غيرهم؟».
كان جواب الجابري في الربع الأخير من القرن العشرين، هو نقد الإنتاج النظري، فهو وحده ما سوف يحقق على (يديه) القراءة العلمية الواعية بـ«أحداث» القطيعة الأبستمولوجية التامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث، حيث ما يزال التراث يعشعش بعناكبه في عقول مجتمعاته، كما كان الظلام الكنسي يعشعش بعناكبه في عقول المجتمعات الأوروبية، فانبرى إيمانويل كانت يكتسحه بمشروعه العقلاني التنويري!
كان الجابري قد مهد لكتابه في «نقد العقل العربي» بكتابه «الخطاب العربي المعاصر» سنة 1983 وفق القطيعة المعرفية لدى باشلار، التي أثراها محمد وقيدي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس في دراسته اللافتة عن «فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار» سنة 1980 متجاوزاً فلسفة العلوم إلى خطاب أبستمولوجي، معارضاً الفلسفات التقليدية (بدأ الجابري تجربته التأليفية وهو أستاذ جامعي بكتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم» بجزئيه سنة 1976 مستفيداً في تحليل النظام المعرفي في مشروعه بما ورد في كتابه «الكلمات والأشياء» لميشيل فوكو في تحليل الأنظمة المعرفية، كاشفاً عن (اللا مفكر فيه) من (لا وعي) فرويد في تحليله النفسي ماسكاً بمفاتيح مشروعه في تحليل العقل العربي في «البيان والعرفان والبرهان» من أحمد أمين في دراسة التاريخ الثقافي العربي الإسلامي، التي بدأها سنة 1938 في «فجر الإسلام» ثم «ضحى الإسلام» فـ«ظهر الإسلام» لتنتهي بـ«يوم الإسلام» دون أن يذكر الجابري في هذا كله إحالاته المرجعية!!! وهو ما تطارحته وإياه في مقابلتي التلفازية السجالية معه في برنامجي «ستون دقيقة» في أحد أيام شهر فبراير (شباط) 2009 وسبقْتُ ذلك بمقال في جريدة الرياض سنة 1995 حثثت فيه جورج طرابيشي على مواصلة نقده لمشروع الجابري، وقد تحول إعجاب الأول بفكر الثاني الذي (يثير ويغير) إلى نقد متواصل، تقول هنرييت عبودي زوجة طرابيشي في كتابها عنه الصادر سنة 2020 إن زوجها حينما (غادر بيروت سنة 1984 أخذ معه كتاب «نقد العقل العربي» وقد واظب على قراءته طوال الرحلة بالطائرة قائلاً: إنه عمل عظيم رائع وهائل وحينما علم بمقدم الجابري إلى باريس دعاه إلى العشاء ولكن هذا الإعجاب لم يدم طويلاً، إذ بدأ جورج يكتشف أخطاء وتفسيرات مغلوطة في كتابه) فانتهى بالرد على الجابري بكتابه ذي الأربعة أجزاء في «نقد نقد العقل العربي».
حينما تطارحت والجابري إشكالات طرابيشي على مشروعه، وجدته يغمغم ولا يبين، متسائلاً: «لماذا تحول الإعجاب المفرط إلى النقد المتواصل؟» فكان جوابه في مقابلتي التلفازية: (عقدت ندوة في دمشق حول كتابي «نقد العقل العربي» بإطراء الحاضرين بما فيهم طرابيشي، وحين أعلنت أنني أؤلف كتاب «بنية العقل العربي» أراد طرابيشي أن يستبق بحسن نية ولا أظن شيئاً غير هذا متنبئاً - أي طرابيشي - بما سأقوله في الكتاب القادم بناءً على ما ورد في كتاب «تكوين العقل العربي» فقلت له: كيف تسمح لنفسك أن تتوقع ما سأقوله فيه فأنت - يقصد طرابيشي - ما فهمت هذا ولا فهمت ذاك... انفعلت ولم أقصد شيئاً آخر فهذه من طبيعتي وأكثر الطلبة يعرفون في هذا أثناء مناقشتي أطروحات الدكتوراه عندما أكون في لجنة المناقشة عادة ما أنفعل وربما يعلو صوتي لا أقصد بهذا أحداً لكن هي هكذا طبيعتي)!!!
كان جواب الجابري مهلهلاً، ويفتقر إلى المنطق، بل إنه بهذا كان يناقض ما دعا إليه في أحد كتبه المبكرة، بضرورة اختراق اللغة والمنطق بـ«الحدس»، فهو وحده الذي يجعل الذات القارئة (جورج طرابيشي) تعانق الذات المقروءة (الجابري) إذ تعيش في إشكالاتها باستشراف ما ستقول.
يقول طرابيشي في كتابه «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة» سنة 1993:
(ما الذي يسكت عنه نص الجابري المطول في عصر التدوين، إنه مرة أخرى يسكت عن المصدر الذي أخذ منه الفكرة والتسمية - يقصد أخذ الجابري مفاتيح كتابه «بنية العقل العربي» في تحليل الأنظمة المعرفية وتسميتها «البيان والعرفان والبرهان» من موسوعة أحمد أمين مؤكداً - طرابيشي - أنه لا يجوز أن يعاد تجليد المجلد أو يعاد نسخه مرتين، لا سيما والدراسات المتراكمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد أبطلت أسطورة عصر التدوين من أساسها).
استلهم الجابري فكرة «الكتلة التاريخية» من المفكر الإيطالي العضوي غرامشي، ذاكراً ذلك حين دعا في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 1982 من مجلة المستقبل العربي، مقارباً حال الأمة العربية في تمزقها، بما كانت عليه إيطاليا في بداية القرن العشرين من تفاوت بين شمالها وجنوبها، وأن الكتلة التاريخية العربية هي البديل الاستراتيجي لحالة الإقصاء والتهميش، غير أن هدا التهميش هو ما يهمن على فكر الجابري، وهو يختزل التراث العربي في ثلاثيته (البيان ونموذجه الجاحظ، والعرفان ونموذجه جابر بن حيان وابن سينا، والبرهان ونموذجه ابن رشد)، فإذا بثنائية الظاهر والباطن الكامنة في «تهرمس» مذهب جابر بن حيان، حسب مقولة ماسينيون المهتم بالفكر الباطني - والصوفي الحلاجي خاصة - خالطاً بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية والمتصوفة بضربة يد واحدة! وقد استقاها منه هنري كوربان في أحد كتبه الأولى «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، فإذا بالعقل المشرقي المتجسد في ابن سينا رائد علم الطب التاريخي عالمياً، هو المسؤول - في نظر الجابري - عن انحطاط العقل العربي! وأن جابر بن حيان رائد علم الكيمياء التاريخي عالمياً، هو - في نظره - من أسس للتصوف ودمر الحضارة العربية ببذره الغنوصية في تربة العالم العربي!
أنا هنا لا أريد الاستفاضة فيما كتبه علماء أوروبيون، منهم من كان متحاملاً على جابر بن حيان، فهذا هو الكيميائي البريطاني (هولبارد) سنة 1923 يؤكد على استحقاق جابر لقب مؤسس علم الكيمياء، معادلاً أرسطو في علم المنطق، أما ما قاله مؤرخو العلوم عن مكانة ابن سينا وكتابه «القانون في الطب» المتداول في الجامعات العالمية فهو ثابت ومعروف.
لكن لماذا اهتمام الجابري المفاجئ بابن رشد رائد علم الفقه المقارن، ومترجم التراث الأرسطي والأفلاطوني هل هو إعادة تمركز ذاتي حول مغرب متفوق ببرهانه، على عقل مشرقي بياني وعرفاني؟!
أم هي محاولة تماهي بدور ابن رشد، بحيث يتبدى الجابري في عصرنا العربي ابن رشد آخر؟! رغم أن من اهتم بـ«المتن الرشدي» وتخصص فيه منقباً وباحثاً هو جمال الدين العلوي، الذي جمع شتات النصوص الرشدية من المكتبات الأوروبية.
أحسب أن للمصدر الفرنسي دوماً دور التنبيه لذهن الجابري... هذه المرة بما كتبه مؤرخ الأفكار أرنست رينان عن «ابن رشد والرشدية» سنة 1852 مثبتاً مكانة فيلسوف قرطبة العربي المسلم في الأكاديميات الأوروبية، وقد استوى مؤسساً لعصر التنوير في بداية نهضة مجتمعاتها، مؤثراً على الفلسفة اللاتينية والعبرية (عبر تلميذه موسى بن ميمون) بوصفه الشارخ الأكبر لأرسطو.
هذا.. وتبقى مشكلة عدم ذكر الإحالات إلى مصادرها، في مشروع الجابري قائمة عند كثير من زملائه وباحثيه، ومنهم د. فهمي جدعان أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي في الجامعة الأردنية، وقد كتبت مقالاً بعنوان «هل سرق الجابري فهمي جدعان» هو ما حثثت فيه جورج طرابيشي على استكمال كتاباته النقدية في أعمال الجابري، وكان قد ضمّن نتائج بحث جدعان عن «المحنة» في مسألة خلق القرآن عند المعتزلة، التي عارضها الإمام أحمد بن حنبل في كاتبه «مثقفون في الحضارة العربية»، دون ذكر الإحالة! فقد أجابني حين سألته بنفس الغمغمة! «إن المسألة انتهت وأن علاقتنا الشخصية والعائلية» أصبحت على ما يرام!!! وهو نفس ما استمعته من د. عبد الله العروي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس حين قابلته تلفزيونياً في فيلته بالدار البيضاء صيف 1993. متهماً الجابري الأخذ من عدته المنهجية في التحليل، مستنداً إلى كتابيه المبكرين «العرب والفكر التاريخي» و«الآيديولوجيا العربية المعاصرة» الصادرين في منتصف السبعينات.. أن هذا الخلل المنهجي الفاضح، هو ما أكد عليه كذلك د. عبد الإله بلقزيز في كتيب صدر له مؤخراً من مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي» مؤاخذاً الجابري على أخذه الحر المتصرف في الدلالات الأصلية للمفاهيم (المستعارة) من مفكرين غربيين، والإحجام عن التصريح بمصادره.
بعد غزو صدام حسين دولة الكويت 1990 ما كان أحد يتوقع، أن يقف ناقد العقل العربي، في صف الشعبوية السياسية، التي ركب موجتها - إذ ذاك - كثير من اليساريين والإسلاميين، ومن بينهم محمد عابد الجابري، الذي ربط مناصرته المعارضة الكويتية في استرجاع وطنها المسروق، بوقوفها موقف صدام حسين ضد القيادة الكويتية! وهي في المنفى تعمل على استعادة الكويت.
عبر هذه المغالطة المنطقية، طفق المفكر القومي ينشر فصول كتابه «نقد العقل العربي» في صفحات جريدة حزبه «الاتحاد الاشتراكي» متمحورة حول ثلاثية جديدة «العقيدة والقبيلة والغنيمة»، منتقداً العقل البدوي! القائم على الاستحواذ، متأثراً بأطروحة المفكر العراقي د. علي الوردي في الدكتوراه حول ابن خلدون التي نالها من جامعة تكساس الأميركية سنة 1950 وقد استقى من مقدمته المركوزة حول صراع البداوة والحضارة، أطروحة الصراع بين الصحراء والنهر، موحياً للجابري بأطروحته عن «فكر ابن خلدون العصبية والدولة» سادّاً قصور الوردي في دراسته عن ابن خلدون.
أتذكر أن الجابري راسلني والكويت محتلة، بأن أعمل على نشر فصول كتابه «نقد العقل السياسي العربي» (البدوي) في جريدة الرياض! متزامناً مع نشرها في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بوصفه منظر حزب الجريدة السياسي.
بعدها تأبى علي إجراء حوار تلفازي معه في برنامجي «هذا هو» بقناة MBC أثناء زيارتي المغرب في صيف 1993 إلا أنه لم يتحرر من عرفه «البدوي» وهو المولود في فجيج، بالإصرار على تلبية دعوته لتناول طعام الغداء، مرفوقاً بزوجتي وبنتي وابناي، في فيلته بالحي الفرنسي في الدار البيضاء، امتناناً منه لاستضافتي إياه في بيتي بالرياض.
ولم يفتأ متواصلاً مع المملكة، التي فتحت له صحيفتها «الشرق الأوسط» ومجلتها «المجلة» باباً واسعاً نشر فيهما الكثير من مقالاته بعد انتهاء حرب الخليج الثانية.
بل أن مركز البحوث الإسلامية التابع لمؤسسة الملك فيصل الخيرية، دعاه لإلقاء محاضرة عن العولمة، وقد لبيت الدعوة لحضورها، لا للاستماع للمحاضرة فحسب، وإنما لتجديد أواصر صداقة تقادم عهدها بعدما قارب الجابري على الانتهاء أشار بيده علي بالبقاء دون مغادرة القاعة، فأخذته في جولة إلى شوارع الرياض، متحاوراً معه حول قضايا الساعة، فتحدث معي حول المستجدات في مجتمعه السياسي المغربي، وكذلك عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكانت في أوجها، وقد بدا النظام الإقليمي العربي متعثر الخطوات، إثر تداعيات حرب الخليج الثانية، مثقلاً باستحقاقات مجتمعاته المستفيقة على وقع العولمة المدوي.
كان الجابري قد انتهى من رباعيته في نقد العقل العربي، أدعه يكمل الحديث كما جاء في مقدمة كتابه «مدخل إلى فهم القرآن الكريم» صفحة 14 الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2006 من مركز دراسات الوحدة العربية:
(انتهيت من العقل الأخلاقي العربي 2001 وأنا في شبه نشوة مثل تلك التي تنتاب المتجول في غابة عند بلوغه مخرجاً من مخارجها! غير أني أخذت أفرك عيني على ضوء الفضاء - الفراغ المحيط بالقاعة إذا ببعض الأصدقاء يمطرونني بأسئلة من نوع وماذا بعد؟ بعضهم أجاب بنفسه فاقترح كتاباً في «الجمال في الفكر العربي» باعتبار اتصال الموضوع بالأخلاق، فكلاهما بحث في القيم وبعضهم اقترح كتاباً في «الفكر العلمي عند العرب» بعد أن تناولت الفكر النحوي والفقهي والبلاغي والسياسي والأخلاقي في الأجزاء السابقة.
وفي نفس الفترة التي اقترحت علي هذه الموضوعات أو قبلها بقليل، اقترح علي صديق من السعودية، ونحن على سيارته متجهين إلى عزيمة عشاء في منزل صديق مشترك بالرياض فاقترح قائلاً: «لماذا لا يكون الكتاب القادم عن القرآن».
كان هذا ثمرة حوار جولتي مع أستاذنا الجابري بسيارتي في شوارع الرياض مساء يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2000 وقد أفصح عما ذكره مرة في مقابلتي التلفازية معه، وأخرى في محاضرته المسائية بمعرض الرياض الدولي للكتاب في أحد أماسي فبراير 2009 بأنني من كان وراء خوض تجربته الفكرية، بل قل الروحية في دراسة القرآن الكريم بأجزائه الأربعة، التي استثارت جدلاً واسعاً داخل المغرب وخارجه، يكاد لا يتوقف إلى اليوم حول الإشكالات التي وقع فيها!



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.