سلمى حايك تطلق فيلمها «النبي» بعد زيارة للاجئين السوريين في لبنان

قالت إنها لطالما حلمت بزيارة بلد جدها ولكن ليس «بيدين فارغتين»

سلمى حايك خلال زيارتها مخيم اللاجئين السوريين في لبنان (صورة وزعتها يونيسف)  -  سلمى حايك مع والدها في بلدة بشري أمام تمثال لجبران خليل جبران ({الشرق الأوسط})
سلمى حايك خلال زيارتها مخيم اللاجئين السوريين في لبنان (صورة وزعتها يونيسف) - سلمى حايك مع والدها في بلدة بشري أمام تمثال لجبران خليل جبران ({الشرق الأوسط})
TT

سلمى حايك تطلق فيلمها «النبي» بعد زيارة للاجئين السوريين في لبنان

سلمى حايك خلال زيارتها مخيم اللاجئين السوريين في لبنان (صورة وزعتها يونيسف)  -  سلمى حايك مع والدها في بلدة بشري أمام تمثال لجبران خليل جبران ({الشرق الأوسط})
سلمى حايك خلال زيارتها مخيم اللاجئين السوريين في لبنان (صورة وزعتها يونيسف) - سلمى حايك مع والدها في بلدة بشري أمام تمثال لجبران خليل جبران ({الشرق الأوسط})

«شكرا we are adventurers»، بهذه الكلمات ختمت النجمة العالمية اللبنانية الأصل سلمى حايك، المؤتمر الصحافي الذي عقدته في بيروت والذي حضره حشد من أهل الإعلام والصحافة المحلية والأجنبية.. فمنذ التاسعة من صباح أمس تجمّع الإعلاميون في باحة المركز التجاري «1866» الواقع في شارع بليس في منطقة الحمرا، تلبية لدعوة شركة «لاكشيري ليميتيد إديشن» المنظمة لزيارة الممثلة سلمى حايك إلى لبنان.
جاء ذلك من أجل الالتقاء بها بعد مشاهدتهم العرض الأول لفيلمها السينمائي «النبي»، الذي خصصت زيارتها الأولى إلى لبنان بلد جدها الذي هاجر منه إلى المكسيك.
وإثر انتهاء عرض الفيلم، تجمهر محبو الممثلة المكسيكية على مدخل المركز التجاري المذكور ينتظرون إطلالتها، وقد أحاط بهم حشد من المصورين الصحافيين الذين ثبتوا كاميراتهم وجهزوها من أجل الحصول على لقطات مصورة لها وهي تسير على السجادة الحمراء.
وما إن وصلت سلمى حايك للمكان حتى انطلقت الزغاريد من قبل المعجبين بها، فوقفت أمام عدسات الكاميرات ليتسنى للمصورين التقاط الصور الخاصة لها. وبدت الممثلة المكسيكية أنيقة وهي ترتدي ثوبا مطبوعة عليه الورود بالأبيض والأسود (من تصميم إيلي صعب)، وقد أحاط بها كل من مؤلّف موسيقى فيلم «النبي» غبريال يارد ومخرجه روجرز الليرز.
وفي اللحظات الأولى للمؤتمر ساد جوّ من الهرج والمرج بين الصحافيين الذين كانوا يتزاحمون على الجلوس في المقاعد الأمامية، ليتسنى لهم طرح الأسئلة عليها. واغتنم البعض هذه الفوضى ليصرخ بصوت عال: «ولكوم تو ليبانون» مشيرا بذلك إلى شهرة لبنان بالفوضى التي تعمّه. وكان فريق الفيلم المؤلف من محمد فتح الله (الموزّع الرسمي للفيلم في لبنان)، وجان رياشي (أحد مموليه) وغبريال يارد (واضع موسيقاه) وروجرز الليرز (مخرجه)، إضافة إلى د. طارق شدياق (رئيس لجنة متحف جبران)، قد تمركزوا على مقاعدهم عندما دخلت سلمى حايك وألقت التحية على الجميع مفتتحة بذلك المؤتمر الصحافي. وردّا على أول سؤال طرح عليها حول زيارتها الأولى للبنان قالت: «لا أحد يمكنه أن يتصوّر الشعور الجميل الذي انتابني أمام مشاهدتي جمال لبنان، ولقد استمتعت في زيارتي لمتحف جبران خليل جبران في بلدة بشرّي الشمالية ومشاهدة الوادي الذي يطلّ عليه. فجمال لبنان هو بمثابة قصيدة شعر سأتلوها على زوجي وابنتي عند عودتي»، وتابعت: «لم أر شيئا مماثلا له في حياتي، ولقد تأثّرت كثيرا بذلك».
وتحدثت النجمة السينمائية العالمية عن القوة التي شعرت بها عند رؤيتها تمثال الأديب اللبناني العالمي أيضا جبران خليل جبران صاحب كتاب «النبي»، مشيرة إلى أنها كانت تصبو إلى رؤية جمال لبنان وبلدة هذا الفيلسوف العربي الذي استطاع أن يجمع في كتابه جميع الأديان، والذي خوّله أن يبيع منه 9 ملايين نسخة حول العالم أجمع.
وعن إمكانية دبلجة فيلم «النبي» إلى العربية قالت: «لا أعتقد أنه في إمكاننا ذلك؛ إذ ليس في استطاعتي أن أتكلّم العربية، ولكننا نبحث في إيجاد حلّ لذلك». وهنا قاطعها الموزّع الرسمي للفيلم في لبنان محمد فتح الله بالقول: «لن نقوم بأي خطوة لا تحمل المستوى المطلوب وتنسجم مع ميزانيته الضخمة، ولكننا بصدد درس الموضوع والتخطيط له».
ولفتت سلمى حايك إلى أن الفيلم شامل المواضيع، وأنه تناول أوضاع الفقراء والأطفال وساند النساء، وقالت: «كما تعلمون، فإن صوتي وضع على شخصية كاميلا في الفيلم، وهذا الاسم يعود لوالدة الفيلسوف اللبناني التي عانت الأمرين من أجل تربية أولادها وتأمين مستقبلهم، فكانت تبيع الثياب في سلة كبيرة تحملها على كتفها من أجل ذلك»، وأضافت: «برأيي أن المرأة العربية عامة مذهلة بعزيمتها وبالتضحيات التي تبذلها من أجل أولادها وأولاد الآخرين، وهذا ما لمسته في زيارتي لمخيّم اللاجئين السوريين في البقاع؛ حيث أعجبت بأداء الأمهات اللبنانيات والسوريات، وكيفية تعاونهن معا من أجل تأمين الأجواء المناسبة للأطفال هناك».
وعن كيفية ولادة فكرة الفيلم، شرحت سلمى حايك أن الأمر يعود إلى لجنة متحف جبران خليل جبران في البداية، وأنها وافقت في دعمها لها، لأنها تعتبر نفسها لبنانية، وأنها فخورة بذلك. وقالت: «الفيلم رسالة مباشرة إلى الجيل الجديد، علّنا نجد بينه من يملك رؤية مستقبلية تشبه تلك الموجودة في كتاب (النبي)». وأضافت: «يجب أن نستخدم خيالنا وأفكارنا الجديدة لنساهم في تغيير العالم أجمع، ونتمنى أن يوحي الفيلم لأحدهم بذلك».
وتطرّق أحد أهم الممولين للفيلم، جان رياشي، إلى كيفية تأمين رأسمال لتصوير وتنفيذ الفيلم، وأنه كان مجرد ذكر اسم سلمى حايك أمام أحدهم يجعله لا يتردد في الموافقة على تمويله. وهنا صرخت سلمى حايك وهي ترفع بيدها: «نحن مغامرو الشرق الأوسط».
وأكدت الممثلة العالمية اللبنانية الأصل أنها لطالما حلمت بزيارة وطنها الأم لبنان، وأنها لم تكن تنوي ذلك ويداها فارغتان، وعندما تم تنفيذ الفيلم رأت أن الوقت لذلك أصبح مواتيا، فأعلنت عن إطلاق الفيلم من أرض جذورها في الوقت نفسه الذي يتم إطلاقه في صالات السينما في دول الغرب. وقالت: «لقد تلقيت تربية لبنانية وعرفت تراثنا مثل أي لبنانية أخرى، وعندما كان يحاول أحدهم أن ينتقدني وأنا أتناول الطعام اللبناني، كنت لا أتردد في أن اصرخ في وجهه، قائلة له: (أنا تناولت الكبّة قبل الـ(tacos) - طبق مشهور في المكسيك - فصحيح أنني لا أجيد العربية، ولكني وبكل فخر تربيت على الطريقة اللبنانية قلبا وقالبا».
وعما إذا كانت نيتها منذ البداية التعريف بلبنان من خلال فيلسوفه جبران خليل جبران، أجابت بحماس: «لا أحد أكبر من لبنان، ولكن بهذه الطريقة تكلّمنا عن خصائص لبنان وجماله، وهل هناك من طريقة أفضل للتحدّث عن رجالاته؟!».
وكان لمخرج الفيلم روجرز الليرز تعليق على مشاركته في فيلم «النبي» وقال: «لقد انتظرت أربعين عاما من أجل القيام بفيلم مماثل، وهو الذي كان بمثابة حلم بالنسبة لي، فهو عمل جميل ورائع، وأعدّه من أجمل التجارب التي قمت بها في عالم الإخراج السينمائي».
أما الموسيقي اللبناني العالمي غبريال يارد، فاعتبر أن موسيقى الفيلم تنبع من ذكرياته في لبنان، وأنه حاول قدر الإمكان تجسيدها في مقاطع موسيقية تناسب فيلما مثل «النبي» يقدّم بطريقة الصور المتحركة. وقال: «كنت متحمسا جدّا للقيام بهذه التجربة الموسيقية، التي أردت أن أعيد من خلالها معظم مراحل حياتي في لبنان، فبحثت في ذاكرتي، وعدت من خلالها إلى جذوري الأصيلة».
يذكر أن الموسيقى الخاصة بالفيلم تتضمن مقاطع من نوتات شرقية ممزوجة بالغربية، كما أن بينها ما استوحاه الموسيقي اللبناني من أغنية الأطفال المشهورة «يللا تنام» التي غنّتها أيضا فيروز.
وأكدت لجنة جبران خليل جبران الممثلة في المؤتمر بالدكتور طارق شدياق، أن جميع حقوق الملكية لكتاب «النبي» تعود إليها، وأن شرطها الوحيد في هذا الصدد كان هو أن يتم نقل كلام «النبي» كما هو دون أي تعديلات.. «وهكذا صار».
يذكر أن روجرز الليرز، وهو مخرج الفيلم الشهير «ذا ليون كينغ»، قد قام بمعالجة وإخراج النص الأساسي في الفيلم، فيما تعاون تسعة آخرون على تصوير وإخراج فصول منه؛ مثل الإماراتي محمد حريب، وآخرون من بلاد الغرب أمثال جيتان بريزي وبول بيناريو وجون كراتز وتوم مور.. وغيرهم. وقد جسدت سلمى حايك بصوتها شخصية كاميلا، فيما وضع الممثل ليام نيسون صوته على شخصية «المصطفى»، «النبي»، فيما جسدّ الممثل جون كراسينسكي بصوته أيضا دور «حليم» أحد أبطال الفيلم.
واجتمعت آراء أهل الصحافة على المستوى الرفيع الذي يسود تنفيذ فيلم «النبي» وإخراجه الذي يتمثّل بالألوان الجميلة واللقطات التصويرية من زوايا عدة، إضافة إلى الموسيقى التصويرية التي تساهم في إبراز لوحات تعبيرية تتخلله. وكانت سلمى حايك قد توجهت إثر انتهاء المؤتمر الصحافي إلى مركز علاج سرطان الأطفال «سان جود» ترافقها نورا وليد جنبلاط. وختمت زيارتها إلى لبنان بحفلة عشاء أقيمت في جامعة «ESA» تخللها مزاد علني يعود ريعه للمركز المذكور، وغادرت لبنان صباح اليوم.
يذكر أن سلمى حايك قد أمضت ثلاثة أيام في ربوع لبنان زارت خلالها مخيم اللاجئين السوريين في البقاع، حيث رافقها المصوّر أليسيو رومانزي الذي لم يوفّر فرصة التقاط صورٍ للنجمة في هذا المكان. وكانت حايك قد تناولت طعام الغداء معهم ووقفت على متطلباتهم، وبدت متأثّرة جدا عندما صرّحت بالقول: «أنا متأثّرة جدا بقضية اللاجئين السوريين، وأريد مدّ يد العون لهم».
تأتي هذه الزيارة ضمن حملة حايك مع الـ«UNICEF» لجمع التبرّعات للاجئين السوريين والنازحين ضمن إطار «نداء قرع الأجراس من أجل التغيير». وقال بيان صادر عن اليونسيف، أمس الاثنين، إن حايك زارت الأحد، مخيمات اللاجئين السوريين في البقاع، شرقي لبنان، من أجل «لفت الانتباه إلى الاحتياجات الإنسانية العاجلة للأطفال والأسر التي تغيرت حياتها تغييرًا جذريًا بسبب النزاع الوحشي في سوريا على مدى السنوات الأربع الماضية».
وقدرت المنظمة الأممية «وجود 14 مليون طفل تأثروا ويتعرضون لخطر أن يصبحوا جيلاً ضائعًا، منهم 2.6 مليون لم يعودوا يرتادون المدرسة، وما يقارب مليونين يعيشون لاجئين في الدول المجاورة».
وقالت حايك في البيان نفسه إنه «من خلال التبرع لنداء قرع الأجراس من أجل أطفال سوريا لجمع التبرعات، فأنتم تدعمون جهود اليونيسف الرامية إلى تمكين الأطفال من الوصول إلى فرص التعلم وخدمات الدعم لمساعدتهم على مواجهة العنف الذي تعرضوا له».
وأضافت: «لقد ألهمتني شجاعة الأطفال اللاجئين السوريين وعائلاتهم الذين التقيتهم في لبنان، بشدة، فهم لا يزالون مصممين على بناء حياة ومستقبل أفضل رغم الصعاب والأذى الذي لحق بهم أو شهدوه».
وأشارت إلى أنها تأثرت بـ«الكرم الذي أظهره كثير من اللبنانيين تجاه أولئك الذين يلتمسون اللجوء في بلادهم»، مناشدة «كل من هو ممتن للسلام والاستقرار في حياته أن يشفق على كل هؤلاء الذين فقدوا السلام والاستقرار وأن يهموا بتقديم العون». كما زارت سلمى حايك، في اليوم الثاني لها في لبنان، بلدة بشرّي الشمالية؛ حيث عرّجت على متحف جبران خليل جبران. وبالإمكان التبرع للحملة التي تدعمها سلمى حايك من خلال موقع على الإنترنت، وصفحة على «فيسبوك».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)