تحار أيُّ صفة تطلقها على إسكندر رياشي، بعد أن تقرأ كتابه «نسوان من لبنان». «دون جوان»، «بلاي بوي»، «ماجن»، «ظريف» أم «متهتك». فالرجل كان صحافياً معروفاً، وله قلم جريء، يصل أحياناً حدّ الوقاحة. وُلد في الخنشارة، المتنية، عام 1890. وفي عمر العشرين من عمره سافر إلى أميركا وأسّس جريدة «الوطن الجديد» في نيويورك. بعد ثلاث سنوات عاد رياشي إلى لبنان، وراسل جريدة «الطان الفرنسية»، من بعدها أسس جريدة «البردوني» في زحلة، وأوقفها ليتولى أول أيام الانتداب وظيفة مستشار في المندوبية العامة لحاكم زحلة الفرنسي. أسس سنة 1922 جريدة «الصحافي التائه» بعد أن استقال من وظيفته. وأصبح إسكندر رياشي نقيباً للصحافة اللبنانية سنة 1947 حيث مارس أعمال النقابة دورتين متتاليتين حتى عام 1950.
لكنّ كُتُب إسكندر رياشي اختفت من التداول أو أشبه منذ سنوات طويلة، إذ لم تعد طباعة غالبيتها. وقد شغف المغدور به لقمان سليم، في سنواته الأخيرة كباحث بـ«الصحافي التائه» وأعجب بجرأته، وعكف على قراءة ما توفر من أعماله، بعد عملية بحث مضنية، وبدأ العمل على كتاب «نسوان من لبنان» راغباً في إعادته إلى الحياة، أفضل مما كان. ومن حسن الحظ أن لقمان كان قبل اغتياله، كان قد أنجز مقدمة طويلة للكتاب عنوانها «عن لبنان وشفعائه الشياطين» جمع فيها نتاج بحثه عن رياشي، ورؤيته لمساره وكتاباته.
وبمناسبة مرور سنة على اغتيال لقمان سليم أصدرت «دار الجديد»، «نسوان من لبنان» بالاعتماد على نسخة «دار الأندلس» للنشر عام 1966 مع تشكيل كامل، مرفقة بمقدمة لقمان سليم وهوامش وافية.
يصف رياشي مؤلفه هذا بأنه «كتاب عظات سياسية واجتماعية متحلية بحكايات ومغامرات غرام صاخبة، يأتي فيها الكثير من تاريخ لبنان الحديث». وهذا صحيح، فهو حكايات، مكتوبة بأسلوب سلسل، مشوق، حيوي، لمغامرات رجل أحب الحياة، والنساء، والمجازفة حد توريط نفسه. لكنه في كتاباته الغرامية هذه، وهذا من ميزاته، يحرص على رسم الخلفية الاجتماعية، وأحياناً السياسية للمرحلة التي يكتب عنها، مما يجعلك تقرأ بمعيته، ما قد لا تجده في كتب التاريخ التي غالباً ما تعتمد على الروايات الرسمية أو ما يشبهها. والقصص التي ينطوي عليها الكتاب تدور بين نهاية المرحلة العثمانية، مروراً بالحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي على لبنان.
في القصة الأولى من الكتاب «صانعة المستشار» يتحدث رياشي عن فساد «المستشارين وكبار الموظفين الفرنسيين في بلادنا الذين كانوا في فرنسا أهل نزاهة ونظافة» ويضيف: «لا شك أن أكثر الفرنسيين الذين باعوا واشتروا وتاجروا وارتشوا عندنا، نحن الذين علّمناهم هذه الطرق، ونحن الذين جعلناهم يخرجون عن نزاهتهم». ويتحدث عن رشى الانتخابات وتدفق خيرات الفساد، وهو أحد هؤلاء الفاسدين، راوياً طريقة ولوجه طرقاً ملتوية للإفادة المادية، وبناء علاقات نسائية.
ويذكر رياشي أن خادمة المستشار الفرنسي التي كان على علاقة حميمة بها، أخذ يتقاسم معها الأموال، وهي توحي للمستشار بدعم مَن يدفع بسبب قربها منه، وهؤلاء يصبحون نواباً. «وهنا يجب على العارفين أن يتذكروا أن تلك الخادمة أصبحت معروفة في ذلك الحين بصانعة النواب».
في قصته «آخر أميرات بني غسان» معلومات مهمة عن علاقة الدولة العثمانية بالدروز واليمن، حيث يقول: «كان للدولة العثمانية شيطانان: جبل الدروز واليمن... كانت حتى اليوم الذي انفصلت فيه البلدان العربية عنها، ترجع دوماً مكسورة من جبل الدروز واليمن. وكانت تحاربهما كي تُخضعهما، تقريباً كل عشر سنين مرة». وفي الكتاب بعض التفاصيل عن هذه الحروب ومن كان يشارك فيها.
في أكثر من قصة يتحدث رياشي عن الحرب العالمية الأولى، والمجاعة التي عاشها لبنان، وما رافقها من ممارسات اجتماعية، وانحدار أخلاقي. يروي أن «ثلث أهالي جبل لبنان ماتوا جوعاً في تلك الحرب، الثلث الثاني لم يمت جوعاً لأنه هاجر للبقاع بعدد ضعيف، وهاجر لدمشق وحوران بعدد أكبر حيث سهول القمح ومراعي المواشي، والأراضي الفياضة بمياهها ومزروعاتها، وأما الثلث الثالث فقد استطاع أن يعيش بوسائله الخاصة، ومتاجراته واستثماراته وتجويعه للغير، وأغنياء أمواله السياسية. وكان من الثلثين الأولين فئة معروفة قليلة العدد ولكن كثيرة الوقاحة، عاشت متحدية الجوع والشقاء». ويشرح أنه «في ذلك الوقت، لم يكن هناك فرق كبير بين النبالة والقذارة». ولا يستثني رياشي نفسه من الدناءات والقذارات، بل لعله يذكر هذا ليبرر لنفسه مسالكه الوعرة: «نحن لم نَجُع، لكننا لم نشبع. لم نجع لأننا عرفنا بوسائلنا الخاصة الطريقة لأن نبقى في هذا العالم، فامتهن الواحد منّا كل المهن التي كانت الأقدار تؤديه إليها، دون أي فارق إن كانت تلك المهن شريفة أو غير شريفة، حقة أو مجرَّمة».
هذا غيض من فيض ملامح تلك الفترة العصيبة التي سبقت الاستقلال، عايشها رياشي ويكتشفها القارئ في الكتاب. وهي وإن بدت مذكورة على هامش القصص فإنها في غاية الأهمية. أما مغامراته مع النساء، فهي صلب الكتاب وأساسه، وعلّة وجوده. فهو لا يتوقف عن طلب الوصال، أينما حلّ وارتحل: في الحروب والمجاعات، على متن باخرة، أو مروراً بمدينة، في المغترب أو على أرض الوطن.
وأنت إذ تقرأ مغامراته النسائية، ومدى ثقته بنفسه، وهو يشرح أنه الرجل الذي لا يُردّ، وأن النساء حتى أكثرهن تمنعاً لا يلبثن أن يقعن في شباكه، تسأل نفسك إن كان كل ما تقرأه صحيحاً، أم أن الكثير منه نسج من بنات أفكار رياشي ومخيلته الولعة بالمبالغة. وهو على أي حال وكأنه يتوقع من قارئه مثل هذه الأسئلة يجيب: «هذا الكتاب وقائع حقيقية، قام بها كاتب يريد أن يأخذ من الدنيا مباهجها، تاركاً الزهد، والتكفير والخوف من جهنم ومخاوف الدهر».
لكن بصرف النظر عن صحة إيقاعه بعشرات النساء، كما يورد في قصصه، لا بد أن تسجل بأنك أمام كاتب يعترف هو نفسه بأنه مدّعٍ: «كنت في أوائل الصبا، طويل القامة، حَسن الهندام، أسمر اللون، كثيف الشعر، كثير التأنق والادّعاء، أعتبر وأؤمن باهتمام الحسان بي... كنت من أولئك المعشاقين الذين لا تستطيع امرأة أن تمر بهم دون اكتراث». وهو يتحدث في الكتاب أكثر من مرة عن كذبه الذي أوقعه في مطبات صعبة: «لقد كنت أريد لنفسي، منذ بدأت أميّز الأشياء والأمور، ودخلت الرابعة عشرة، كنت أكبر عقلاً وتفكيراً من عمري بكثير - أريد أن أعيش في فردوس دائم للغرام ومغامراته، وللروايات ومدهشاتها، وللخيالات البعيدة الملونة البراقة وتأثيراتها». هذه المجازفات لم تتسبب له فقط في مشكلات بل وصل الأمر إلى حد اتهامه بجريمة قتل، حين حامت حوله الشبهات، وكان أول من استُدعي إلى التحقيق في قصة «القتيل في الحديقة»، بعد مقتل عامل في أحد بيوت الذوات التي كان يرتادها، بسبب شبهات بأنه على صلة بصاحبة البيت.
في كل قصة في الكتاب، يوقع إسكندر بامرأة، وفي أغلبها يوقع بهن جملة، لهذا ربما غاب ذكر إسكندر رياشي عن المكتبات، مع أن طبعات قديمة من بعض كتبه متوفرة. وقد يكون غُيّب عن الذكر، لأنه يكشف، ويكتب عمّا لا يحب أن يقرأه أو يعرفه كثيرون. ولا شك أن لقبه «الصحافي التائه» ظلمه أيضاً، فهو أكثر من ذلك. لقد كان صحافياً وأديباً ومترجماً، وله علاقاته السياسية، لا بل كان حاضراً لا ينقطع عن موائد السياسيين والنافذين في زمنه. يشير لقمان سليم في مقدمته إلى عدم استساغة مجايلي الرياشي لصراحته في القَصّ، علاوة على نفورهم من أسلوبه في الكشف. ونجد الجواب دائماً عن رياشي نفسه، وهذه المرة في كتابه «الأيام اللبنانية»: «قد يلومنا بعض قرائنا، كما أخذوا يفعلون منذ بدأنا في نشر مذكراتنا زاعمين أننا ندأب في كتاباتنا دوماً لتوسيخ واستصغار مواطنينا، ولكن ما دامت الحقيقة هكذا، و ما دام هؤلاء موسخين وصغاراً، فليس مطلوباً منّا أن نقول عنهم إنهم نظفاء وكبار».
وصفه أحدهم بأنه «فولتير الشرق»، وقال عنه أنسي الحاج «إنه لا يتمسخر، بل يضع حاله على الورق. إباحته لذاته هي المصدر، والسخرية فرع من المصدر. طرافته أنه يتعرى أمامك بالكامل، ويتحداك أن تجاريه. لم يجاره أحد من أهل الصحافة ولا من أهل الأدب».
لإسكندر رياشي إضافةً إلى «نسوان من لبنان» عدة مؤلفات أهمها: «قبل وبعد»، و«رؤساء لبنان كما عرفتهم»، و«الأيام اللبنانية»، و«نعيش مع الآلهة» (بالفرنسية)، و«أهل الغرام»، و«مجانين ومجنونات الحب» وغيرها. وكان قد تزوج من ماري قهوجي عام 1920 وأنجب سبعة أولاد، وتوفي عام 1961 ودفن في مسقط رأسه في الخنشارة.
الجريء إسكندر رياشي يعود مع «نسوان من لبنان»
الكاتب الذي باح بكل موبقاته فعوقب بالنسيان
الجريء إسكندر رياشي يعود مع «نسوان من لبنان»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة