الجريء إسكندر رياشي يعود مع «نسوان من لبنان»

الكاتب الذي باح بكل موبقاته فعوقب بالنسيان

رسم لرياشي منشور في كتابه
رسم لرياشي منشور في كتابه
TT

الجريء إسكندر رياشي يعود مع «نسوان من لبنان»

رسم لرياشي منشور في كتابه
رسم لرياشي منشور في كتابه

تحار أيُّ صفة تطلقها على إسكندر رياشي، بعد أن تقرأ كتابه «نسوان من لبنان». «دون جوان»، «بلاي بوي»، «ماجن»، «ظريف» أم «متهتك». فالرجل كان صحافياً معروفاً، وله قلم جريء، يصل أحياناً حدّ الوقاحة. وُلد في الخنشارة، المتنية، عام 1890. وفي عمر العشرين من عمره سافر إلى أميركا وأسّس جريدة «الوطن الجديد» في نيويورك. بعد ثلاث سنوات عاد رياشي إلى لبنان، وراسل جريدة «الطان الفرنسية»، من بعدها أسس جريدة «البردوني» في زحلة، وأوقفها ليتولى أول أيام الانتداب وظيفة مستشار في المندوبية العامة لحاكم زحلة الفرنسي. أسس سنة 1922 جريدة «الصحافي التائه» بعد أن استقال من وظيفته. وأصبح إسكندر رياشي نقيباً للصحافة اللبنانية سنة 1947 حيث مارس أعمال النقابة دورتين متتاليتين حتى عام 1950.
لكنّ كُتُب إسكندر رياشي اختفت من التداول أو أشبه منذ سنوات طويلة، إذ لم تعد طباعة غالبيتها. وقد شغف المغدور به لقمان سليم، في سنواته الأخيرة كباحث بـ«الصحافي التائه» وأعجب بجرأته، وعكف على قراءة ما توفر من أعماله، بعد عملية بحث مضنية، وبدأ العمل على كتاب «نسوان من لبنان» راغباً في إعادته إلى الحياة، أفضل مما كان. ومن حسن الحظ أن لقمان كان قبل اغتياله، كان قد أنجز مقدمة طويلة للكتاب عنوانها «عن لبنان وشفعائه الشياطين» جمع فيها نتاج بحثه عن رياشي، ورؤيته لمساره وكتاباته.
وبمناسبة مرور سنة على اغتيال لقمان سليم أصدرت «دار الجديد»، «نسوان من لبنان» بالاعتماد على نسخة «دار الأندلس» للنشر عام 1966 مع تشكيل كامل، مرفقة بمقدمة لقمان سليم وهوامش وافية.
يصف رياشي مؤلفه هذا بأنه «كتاب عظات سياسية واجتماعية متحلية بحكايات ومغامرات غرام صاخبة، يأتي فيها الكثير من تاريخ لبنان الحديث». وهذا صحيح، فهو حكايات، مكتوبة بأسلوب سلسل، مشوق، حيوي، لمغامرات رجل أحب الحياة، والنساء، والمجازفة حد توريط نفسه. لكنه في كتاباته الغرامية هذه، وهذا من ميزاته، يحرص على رسم الخلفية الاجتماعية، وأحياناً السياسية للمرحلة التي يكتب عنها، مما يجعلك تقرأ بمعيته، ما قد لا تجده في كتب التاريخ التي غالباً ما تعتمد على الروايات الرسمية أو ما يشبهها. والقصص التي ينطوي عليها الكتاب تدور بين نهاية المرحلة العثمانية، مروراً بالحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي على لبنان.
في القصة الأولى من الكتاب «صانعة المستشار» يتحدث رياشي عن فساد «المستشارين وكبار الموظفين الفرنسيين في بلادنا الذين كانوا في فرنسا أهل نزاهة ونظافة» ويضيف: «لا شك أن أكثر الفرنسيين الذين باعوا واشتروا وتاجروا وارتشوا عندنا، نحن الذين علّمناهم هذه الطرق، ونحن الذين جعلناهم يخرجون عن نزاهتهم». ويتحدث عن رشى الانتخابات وتدفق خيرات الفساد، وهو أحد هؤلاء الفاسدين، راوياً طريقة ولوجه طرقاً ملتوية للإفادة المادية، وبناء علاقات نسائية.
ويذكر رياشي أن خادمة المستشار الفرنسي التي كان على علاقة حميمة بها، أخذ يتقاسم معها الأموال، وهي توحي للمستشار بدعم مَن يدفع بسبب قربها منه، وهؤلاء يصبحون نواباً. «وهنا يجب على العارفين أن يتذكروا أن تلك الخادمة أصبحت معروفة في ذلك الحين بصانعة النواب».
في قصته «آخر أميرات بني غسان» معلومات مهمة عن علاقة الدولة العثمانية بالدروز واليمن، حيث يقول: «كان للدولة العثمانية شيطانان: جبل الدروز واليمن... كانت حتى اليوم الذي انفصلت فيه البلدان العربية عنها، ترجع دوماً مكسورة من جبل الدروز واليمن. وكانت تحاربهما كي تُخضعهما، تقريباً كل عشر سنين مرة». وفي الكتاب بعض التفاصيل عن هذه الحروب ومن كان يشارك فيها.
في أكثر من قصة يتحدث رياشي عن الحرب العالمية الأولى، والمجاعة التي عاشها لبنان، وما رافقها من ممارسات اجتماعية، وانحدار أخلاقي. يروي أن «ثلث أهالي جبل لبنان ماتوا جوعاً في تلك الحرب، الثلث الثاني لم يمت جوعاً لأنه هاجر للبقاع بعدد ضعيف، وهاجر لدمشق وحوران بعدد أكبر حيث سهول القمح ومراعي المواشي، والأراضي الفياضة بمياهها ومزروعاتها، وأما الثلث الثالث فقد استطاع أن يعيش بوسائله الخاصة، ومتاجراته واستثماراته وتجويعه للغير، وأغنياء أمواله السياسية. وكان من الثلثين الأولين فئة معروفة قليلة العدد ولكن كثيرة الوقاحة، عاشت متحدية الجوع والشقاء». ويشرح أنه «في ذلك الوقت، لم يكن هناك فرق كبير بين النبالة والقذارة». ولا يستثني رياشي نفسه من الدناءات والقذارات، بل لعله يذكر هذا ليبرر لنفسه مسالكه الوعرة: «نحن لم نَجُع، لكننا لم نشبع. لم نجع لأننا عرفنا بوسائلنا الخاصة الطريقة لأن نبقى في هذا العالم، فامتهن الواحد منّا كل المهن التي كانت الأقدار تؤديه إليها، دون أي فارق إن كانت تلك المهن شريفة أو غير شريفة، حقة أو مجرَّمة».
هذا غيض من فيض ملامح تلك الفترة العصيبة التي سبقت الاستقلال، عايشها رياشي ويكتشفها القارئ في الكتاب. وهي وإن بدت مذكورة على هامش القصص فإنها في غاية الأهمية. أما مغامراته مع النساء، فهي صلب الكتاب وأساسه، وعلّة وجوده. فهو لا يتوقف عن طلب الوصال، أينما حلّ وارتحل: في الحروب والمجاعات، على متن باخرة، أو مروراً بمدينة، في المغترب أو على أرض الوطن.
وأنت إذ تقرأ مغامراته النسائية، ومدى ثقته بنفسه، وهو يشرح أنه الرجل الذي لا يُردّ، وأن النساء حتى أكثرهن تمنعاً لا يلبثن أن يقعن في شباكه، تسأل نفسك إن كان كل ما تقرأه صحيحاً، أم أن الكثير منه نسج من بنات أفكار رياشي ومخيلته الولعة بالمبالغة. وهو على أي حال وكأنه يتوقع من قارئه مثل هذه الأسئلة يجيب: «هذا الكتاب وقائع حقيقية، قام بها كاتب يريد أن يأخذ من الدنيا مباهجها، تاركاً الزهد، والتكفير والخوف من جهنم ومخاوف الدهر».
لكن بصرف النظر عن صحة إيقاعه بعشرات النساء، كما يورد في قصصه، لا بد أن تسجل بأنك أمام كاتب يعترف هو نفسه بأنه مدّعٍ: «كنت في أوائل الصبا، طويل القامة، حَسن الهندام، أسمر اللون، كثيف الشعر، كثير التأنق والادّعاء، أعتبر وأؤمن باهتمام الحسان بي... كنت من أولئك المعشاقين الذين لا تستطيع امرأة أن تمر بهم دون اكتراث». وهو يتحدث في الكتاب أكثر من مرة عن كذبه الذي أوقعه في مطبات صعبة: «لقد كنت أريد لنفسي، منذ بدأت أميّز الأشياء والأمور، ودخلت الرابعة عشرة، كنت أكبر عقلاً وتفكيراً من عمري بكثير - أريد أن أعيش في فردوس دائم للغرام ومغامراته، وللروايات ومدهشاتها، وللخيالات البعيدة الملونة البراقة وتأثيراتها». هذه المجازفات لم تتسبب له فقط في مشكلات بل وصل الأمر إلى حد اتهامه بجريمة قتل، حين حامت حوله الشبهات، وكان أول من استُدعي إلى التحقيق في قصة «القتيل في الحديقة»، بعد مقتل عامل في أحد بيوت الذوات التي كان يرتادها، بسبب شبهات بأنه على صلة بصاحبة البيت.
في كل قصة في الكتاب، يوقع إسكندر بامرأة، وفي أغلبها يوقع بهن جملة، لهذا ربما غاب ذكر إسكندر رياشي عن المكتبات، مع أن طبعات قديمة من بعض كتبه متوفرة. وقد يكون غُيّب عن الذكر، لأنه يكشف، ويكتب عمّا لا يحب أن يقرأه أو يعرفه كثيرون. ولا شك أن لقبه «الصحافي التائه» ظلمه أيضاً، فهو أكثر من ذلك. لقد كان صحافياً وأديباً ومترجماً، وله علاقاته السياسية، لا بل كان حاضراً لا ينقطع عن موائد السياسيين والنافذين في زمنه. يشير لقمان سليم في مقدمته إلى عدم استساغة مجايلي الرياشي لصراحته في القَصّ، علاوة على نفورهم من أسلوبه في الكشف. ونجد الجواب دائماً عن رياشي نفسه، وهذه المرة في كتابه «الأيام اللبنانية»: «قد يلومنا بعض قرائنا، كما أخذوا يفعلون منذ بدأنا في نشر مذكراتنا زاعمين أننا ندأب في كتاباتنا دوماً لتوسيخ واستصغار مواطنينا، ولكن ما دامت الحقيقة هكذا، و ما دام هؤلاء موسخين وصغاراً، فليس مطلوباً منّا أن نقول عنهم إنهم نظفاء وكبار».
وصفه أحدهم بأنه «فولتير الشرق»، وقال عنه أنسي الحاج «إنه لا يتمسخر، بل يضع حاله على الورق. إباحته لذاته هي المصدر، والسخرية فرع من المصدر. طرافته أنه يتعرى أمامك بالكامل، ويتحداك أن تجاريه. لم يجاره أحد من أهل الصحافة ولا من أهل الأدب».
لإسكندر رياشي إضافةً إلى «نسوان من لبنان» عدة مؤلفات أهمها: «قبل وبعد»، و«رؤساء لبنان كما عرفتهم»، و«الأيام اللبنانية»، و«نعيش مع الآلهة» (بالفرنسية)، و«أهل الغرام»، و«مجانين ومجنونات الحب» وغيرها. وكان قد تزوج من ماري قهوجي عام 1920 وأنجب سبعة أولاد، وتوفي عام 1961 ودفن في مسقط رأسه في الخنشارة.


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.