ناصر الحلواني: ما أردت إثارته لدى القراء أن يحثهم النص على التفكير والبحث عن المعنى

القاص والمترجم المصري يقول إن التاريخ يعينه على فهم الواقع

ناصر الحلواني
ناصر الحلواني
TT

ناصر الحلواني: ما أردت إثارته لدى القراء أن يحثهم النص على التفكير والبحث عن المعنى

ناصر الحلواني
ناصر الحلواني

يؤثر القاص والمترجم المصري ناصر الحلواني منطقة الظل، ويرى أنها «الأنسب لطبيعتي الشخصية التي تميل إلى العزلة والتأمل الفلسفي». هذه الأجواء لم تنفصل عن مناخات أعماله القصصية والروائية التي تعتمد على التكثيف واستخدام الرموز، ومنها مجموعته الأولى «مدائن البدء» عام 1989، وروايته «مطارح حط الطير». والحلواني هو مترجم أيضاً، وقد ترجم أعمالاً لمجموعة من الكتاب منهم: توني موريسون، كالفينو، عبد الرازق جورنه، وأوسكار وايلد.
هنا حوار معه حول أعماله، ورؤيته الأدبية وهموم الكتابة.
> في مجموعتك القصصية «مدائن البدء» تكثيف شديد، ومشهدية تقترب كثيراً من التجريد، ما المؤثرات التي دفعتك للجوء لهذا الشكل في الكتابة، وما هو مبرره فنياً؟
- هذا صحيح، ولإدراكي باختلافها عن الكتابة السائدة في ذاك الحين (1989) أضفت، على غير عادة كتاب القصة القصيرة، مقدمة للمجموعة، كدليل إلى وجهتها وكيفية التعامل معها لتحقيق قراءة أفضل. كان المؤثر الجوهري هو نظرتي الفلسفية إلى العالم. كنت مشبعاً بنظرة مثالية، أفلاطونية تحديداً، جعلتني أتجاوز المادية إلى الجوهر المعنوي، اللبّ، وكنت أقصد تجسيد الفكرة، أكثر من مجرد التعبير عنها. كنت أرى ذلك في الموسيقى، والفن التشكيلي، وبعض الشعر، وبعض فنيات السينما، والعنصر الأهم كان هو اللغة، وأنت تعلم كم هي ثرية ودقيقة لغتنا العربية.
> لكن لماذا الغموض واللجوء لهذا الشكل المشفَّر الذي يبدو مستغلقاً أمام القارئ؟
- اسمح لي أن أختلف معك حول المفهوم؛ فالغموض إخفاء ومداراة وتعمية، أما ما قصدت أنا إليه فهو الترميز القابل لفك شفرته، والمجاز المتضمن لمفاتيحه، وإن كنت أتفق معك في صعوبة فك الشفرة، ويرجع ذلك ربما إلى محدودية الثقافة بشكل عام لدى القراء، ولعل هذا مرجعه إلى موضوع القراءة والتعلم في ثقافتنا، وما أردت إثارته لدى القراء، أن يُثري النص معارفهم، ويحثهم على البحث عن المعنى، لتنشيط ملكة النظر والنقد والفهم لواقعهم.
> ثمة حس صوفي يكاد يسيطر على أجواء أعمالك القصصية، ويظهر ممتزجاً مع ما هو حسي وجسدي. وما الذي ترمي إليه من خلال هذا المزج؟
- يرجع ذلك إلى طبيعتي الشخصية، وما أثر فيها من جوانب فلسفية وفكرية، فقد كنت، وما زلت، ميالاً للعزلة والتأمل، والعالم يسلبك هذه المتعة. التصوف، بمفاهيمه، وأحواله ومقاماته المجردة، وليس بشطحاته الفكرية، هو ما جذبني، أو لنقل انجذب إليَّ، حيث كانت نفسي بيئة خصبة له. أما تجليه أدبياً، فلأنه كان التعبير عن السمو والرفعة والنقاء، وهذا ما رغبت في نقله إلى قارئي، إضافة إلى الجانب المعرفي، وأقصد به الجانب الأخلاقي؛ فالجسد مادة أرضية معتمة تتسم بالشهوانية، ولكنه يؤوي روحاً من مادة سماوية نورانية تتسم بالأخلاقية، وبينهما يدور الصراع الأزلي الأبدي، ودعوتي أن على الإنسان أن يدرك أن مادة جسده تنطوي على روح نقية، فلا يهملها، وعلى علاقاته بالعالم أن تمضي بحسب هذا الجانب الروحي.
> في روايتك «مطارح حط الطير» تلجأ لتفكيك مركزية الحدث. وتعدد مستويات السرد والاجتراء على التناص، وهناك هيمنة للمتخيل السردي على الواقعي... ألم تخش أن يؤدي ذلك إلى تشكيل صعوبات في التلقي؟
- بالنسبة لبنية الرواية، ومسألة تفكيك الحدث، فقد رغبت في أن تتناول الرواية تاريخ الأندلس منذ عبور طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى ساحل شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس) وحتى تسليم أبي عبد الله مفاتيح غرناطة إلى فرديناند وإيزابيللا، وهي فترة بالغة الطول (711م إلى 1492م)، نحو ثمانمائة عام، بالإضافة إلى أنني لم أقصد إلى كتابة رواية تاريخية بالشكل المعروف، بل قصدت إلى التعبير عن الدلالات والمعاني، واستلهام الأحداث التاريخية، كنوع من فهم التاريخ، للإفادة منه في فهم واقعنا في زمن القراءة؛ ولهذا كان الشكل الأنسب لذلك، ولطبيعة أسلوبي المكثف والموجز، هو تقسيم التاريخ إلى لحظات حاسمة تعبر عنه، ولعلك تلاحظ، وهو أمر لم يلحظه أو يشير إليه أحد، أن فصول الرواية ثمانية، وتاريخ الأندلس بالقرون ثمانية. أما هيمنة المتخيل، فهو الأنسب لعمل أدبي لا يقصد إلى التاريخ، بل إلى خلق نص إبداعي وجمالي يثير في القارئ شغف النظر إلى الأحداث من وجهة مختلفة، أعمق وأكثر إحاطة. وعن صعوبة التلقي، فهذا ما حدث بالفعل، ولكن مرجعه ما سبق أن ذكرته عن الحالة الثقافية والمستوى المعرفي لدى القارئ عموماً، فالرواية حشد من الدلالات والإشارات والرموز، لذلك تحتاج إلى معرفة، ولو بسيطة، بتاريخ الأندلس وأهم أحداثه وشخصياته.
> حدثني عن موقفك من القارئ باعتباره ضلعاً مهماً من أضلاع أي عمل إبداعي؟
- تقوم العملية الإبداعية، بمعناها الأوسع، على ثلاثة أضلاع «الكاتب والناقد والقارئ». ويحدث الخلل في المجال الإبداعي بضعف واحد أو أكثر من هذه الأضلاع. بالنسبة لمسألة تصور الكاتب لقارئه فأضعها، كإشكالية، على هذا النحو، يبدع الكاتب الذي يوافق ذاته وخبراته وشخصيته، ويقرأه من يتوافق معه أو يجذبه ذلك، أو يجعل إبداعه على النحو الذي يوافق قارئ بعينه، وربما يكون ذلك مناسباً في كتابة القصص البوليسية، أو قصص الإثارة المسلسلة وما يشبهها، أما حدوثه من مبدع أدبي فهو أشبه بصنع أفلام رخيصة لأجل تحقيق مكاسب مادية، والأمر بالنسبة لي ليس فقط ما يريده الكاتب من قارئه، بل أيضاً ما يريد الكاتب لقارئه.
> هل هذا ما يبرر الحضور الشخصي للمؤلف في تضاعيف روايتك «مطارح حط الطير» والأحداث لديك؟
- مقدمتي لرواية «مطارح حط الطير» مهرتها بتوقيع «نون»، وهو الشخصية الرئيسية، ولكنها جاءت في أسلوب يغاير أسلوب خطاب الراوي في الرواية، أردت بذلك القول أنني المؤلف هو نفسه نون بطل الرواية، ورأيتني أشبه بالمايسترو، لا يعزف، ولكن يقود العازفين، فهو موجود، وكان الشكل الفني للرواية يستلزم وجوده، ولو على نحو خفي، ليوجه دفة السرد إلى غايته، فلا يتوهم القارئ أنه أمام رواية تاريخية بالشكل المعتاد، فيفوِّت بذلك الفائدة الجوهرية الكامنة في تخليق نظرة إلى ذلك الحدث المهم والخاص في تاريخه، والاستفادة منه، وكذلك نظرة إلى التاريخ عموماً، تقدر على تحصيل خلاصة جوهرية لمساره.
> ترجمت كثيراً من قصص وأعمال توني موريسون، وإيتالو كالفينو وعبد الرازق جورنه وأوسكار وايلد، وغيرهم... ما الذي أضافه المترجم ناصر الحلواني إلى وجهه الآخر «الكاتب»؟
- تمثل الترجمة لي نوعاً من القراءة المتأنية والعميقة لنوع الكتابة الذي أفضله، ويوافق شخصيتي الإبداعية؛ ولهذا لا أترجم، في غالب الأحيان، غير الأعمال التي تقترب في مزاجها من أعمالي، وأقصد بذلك الجانب الشعري والكثافة وتألق المجاز، فمعظم من ترجمت لهم هم إلى جانب كتابة القصة والرواية، شعراء. أما فعل الترجمة بالنسبة لي، فكان ذا فائدتين، الأولى: الانشغال بعمل في فترات الركود الإبداعي، والأخرى: نافذة ثقافية ومعرفية بالغة الأهمية، سواء من الوجهة الإبداعية؛ بالتعرف على الجديد من أساليب سردية، وتصوير إبداعي للأحداث وبنية العمل، ومن الوجهة المعرفية؛ بالاطلاع على مناهج فكرية، وأساليب تناول الأفكار العميقة ببساطة متمكنة، وكذلك التعرف على حيوات المبدعين، وتأثيرات واقعهم وشخصياتهم على إبداعهم.
> في مجموعتك القصصية «غوايات الظل» هناك محاولات للبعد عما قيل عن مجموعتك السابقة «مدائن البدء» التي يغلب عليها التجريد واللغة الشعرية المحلقة... لماذا لم تسع في الطريق نفسها وتحفر في الاتجاه نفسه؟
- بعد صدور مجموعتي «مدائن البدء»، لمست الإعجاب الواضح بكتابتي وتميزها لدى القراء من الكتاب والنقاد، ولكنني لمست أيضاً صعوبة في التلقي لدى القارئ العادي، بل لدى بعض الكتاب؛ لما ذكرته من نظرتي المثالية التي دفعتني إلى الاهتمام باللغة والتجريد، وحيث إني كثير المراجعة لنفسي، ولا أنشغل بمسألة الشهرة، وصنع ما يعجب الجمهور، شعرت أني لم أحقق مبتغاي الأصلي والأهم، وهو دوري مع القارئ، بخاصة العادي، فهو من أرغب، بقدر استطاعتي، في تنمية ذائقته الجمالية، ليتخلق لديه معيار يميز به بين الجيد والرديء، وليجد ما يجذبه في العمل فيستمر في القراءة، فشرعت في إعادة النظر في نصوصي الأولى، وبحثت وقرأت الكثير من الكتب النظرية والأعمال الأدبية، كما كانت محاولتي تلك نوعاً من التطور، حاولت فيه أن أمزج بين أسلوبي الشعري، وبين تطوير الجانب السردي، وأن أوازن، بقدر المستطاع، بينهما، ليجد القارئ جسداً واضحاً يأخذ به بسهولة إلى روح النص. ولعل هذا ما حققته بنحو أكبر في مجموعتي القصصية «أرواح تترى» (2019).
> لماذا رجعت في مجموعة «لحظات» إلى كتابة قصص قصيرة جداً، كأنك تكمل دائرة «مدائن البدء»، ما العناصر اللي اتكأت عليها في كتابة هذه المجموعة؟
- القصة القصيرة جداً، بالمناسبة، تعد من الأشكال الأدبية الصعبة، ففي نص قد لا يتجاوز حجمه ما بين عشرين إلى مائة كلمة يتحقق السردي، والبنية، والصورة، والمفارقة، والوجازة، بالإضافة للمعنى المقصود، فكأنما أنت النفَّرِي في مواقفه، أو صوفي تجلت له في لحظة وجْد حقائق وأسرار خفية، أو فيلسوف يضع في عبارة مجمل فلسفته، وأن تجعل ذلك في شكل واضح ومفهوم وبسيط، قادر على أن يحمل إلى ذهن القارئ حكمة، أو فهماً، يؤثر فيه ويجعله يغير من نظرته للعالم. وإذا رجعنا إلى أصل هذا الشكل من الكتابة فسنجده لدى الحكماء القدماء، وإبداعياً هو نوع من التطور الفكري والإبداعي لدى الكاتب. وربما جاء هذا الشكل الفني نتيجة للتطور الحاصل في العالم، ثقافياً وتكنولوجياً واجتماعياً، وصار هو الشكل المناسب لقارئ هذا العصر. وبالنسبة لي فأعمالي القصصية القصيرة جداً في مجموعة «لحظات» تختلف عن نصوص مجموعة «مدائن البدء» كثيراً، فهي مقصودة في هذا الشكل هنا، كما أنها سردية إلى حد كبير.
> هل من أعمال جديدة قادمة؟
- نعم، هناك مجموعة جديدة أوشك على إتمامها، عنوانها «معنى الوردة»، وهو عنوان إحدى قصصها، تتضمن عدداً من القصص القصيرة، بعضها أطول من المعتاد في نصوصي السابقة.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.