شربل داغر: يعاشرنا الموت في بيروت مثل جار أليف

الشاعر اللبناني يقول إنه يكتب القصيدة تعويضاً عما لا تبيحه الحياة

الشاعر اللبناني شربل داغر
الشاعر اللبناني شربل داغر
TT

شربل داغر: يعاشرنا الموت في بيروت مثل جار أليف

الشاعر اللبناني شربل داغر
الشاعر اللبناني شربل داغر

صدرت للشاعر اللبناني شربل داغر مجموعته الشعرية الجديدة «موجان»، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» في القاهرة، مع رسوم تعبيرية للرسام العراقي وليد رشيد القيسي. والمجموعة الجديدة تضاف إلى نحو 16 مجموعة شعرية و5 مختارات شعرية، إضافة إلى أنطولوجيتين بالفرنسية والألمانية. وقد توزعت دراسات داغر الأدبية والنقدية على ثلاثة مجالات: الشعر العربي الحديث، وبدايات الرواية العربية (في القرن التاسع عشر)، والفن الإسلامي والعربي الحديث. كما له كتب بحثية في الفنون الإسلامية والعربية الحديثة، وغيرها، وترجم أعمالاً لشعراء منهم ريلكه ورامبو.
ديوانه الأخير «موجان» يتوزع على خمس تيمات، هي: الركام والموت والوقت والمرأة والمدينة. نسأله: لماذا كل الركام «المتراكم» بحيث يبدو أنه «بطل» من أبطال قصائدك؟
يجيب: «إن الركام فوق الركام المتراكم مشهد أليف في بيروت، في أيام الشقاء التي نعيشها، فيما عشنا بعد سنوات الحرب الأخيرة سياسات إعادة الإعمار. هذا بعض سيرة بيروت في تاريخها القديم، وفي سياسات غزاة أقاموا بنيانهم فوق حطام السابق. إنه ركام اغتيالات ونفايات وتفجيرات وانفجار المرفأ الصاعق.
يعني الركام الحطام، وهو أبعد وأعمق من الحجر المتداعي، يعني الحيوات التي دُفنت تحت الكتل، فيما بقي منها غبار لا يلبث أن يتطاير بدوره. بيروت شديدة الضيق في مساحتها الجغرافية، لذلك تتسع ضواحيها. هذا ما جعلها، في تاريخها، متراكمة الطبقات، لو عدنا إلى التنقيبات الأثرية فيها، وهو ما زاد وتضخم في القرن العشرين. بيروت مدينة، وإمكانُ مدينة في الوقت عينه. هي مدينتي رغم مرارة الأيام. عشتُ وتعلمتُ وتكونتُ فيها، وتراكمتْ فيها دهشتي وخيباتي».
ثم يتساءل بدوره: «هل يكفي القول إن القصيدة تمسح الغبار عما يتراكم؟ هل يكفي القصيدة أن تتفقد، وتمد يدها الطرية إلى وجوه مَن غابوا؟ هل هذه أطلال قصيدة ما كنت أهجس بإمكان كتابتها ذات يوم؟ لا خلاص للبناني من دون خلاص بيروت».
كتب داغر أكثر من قصيدة عن مدينته، لا سيما المطولة الشعرية «النزول إلى بيروت»، لكنها، كما يضيف، «تبقى أوسع من أحلامنا الضيقة، ونحن نسعى إلى إيجاد مواطئ أقدام فيها، فيما نتحقق من احتشاد السيَر والعصبيات في أقبيتها وسراديبها التي لا تلبث أن تدب في شوارعها وبين عماراتها. بيروت لا تقوى على الاختفاء، فهي شرفة بحر. ولا تقوى على الاندثار؛ إذ إنها مدينة مشتهاة من أهلها وغاصبيها، ما دامت ليست لأحد، فهي للكل».
ومن الركام؛ يحضر الموت، فتشكل القصائد عنه شبه محاكاة وجودية لهذا الجبار المُر.
كيف أصبح الموت «جاره الأليف» فأفرد له كل هذه المساحة العريضة في الشعر؟
يرد: «بلى؛ عاشرنا الموت مثل جار أليف. هذا الموت الذي اعتدنا على تلفظه في كلامنا اليومي، هو أيضاً وجه للحياة فينا، للتقدم فيها، وللشهادة عند البعض». ويضيف أن ما قرأ عنه مثل حكاية سمجة عابرة في كتاب التاريخ المدرسي، وجده ينظم مراحل حياته كلها، فيما كان يقرأ ويطلع على أن «للموت تجارة رابحة، فإن لم يفز بها المرء في الأرض، يفوز بها في السماء». وكان الموت أليفه؛ إذ فقد كثيرين جراء هذا «الدم الفاسد»، وفق عبارة للشاعر رامبو.
يحلو للشاعر التوقف عند «صراع الوُجهة والتيه» في الديوان، كما لو أنه يتنقل فوق امتدادات لا يبصرها غيره؛ حسب تعبيره. وفي تيه آخر، يقول: «أمشي من دون دليل (...) أمشي بخفة فراشة في طيشها». و«تمشيتُ بعد ظهر هذه القصيدة»، و«تمشيتُ من دون أن أصل... من دون أن أرغب في الوصول... تمشيتُ باندفاعة الغائب، وعزم المحارب الأخير».
أهو قدر الشاعر أن يضل الطريق ويعصى عليه بلوغ الغايات؟ هل من نهاية لهذه الدوامة الإنسانية؟
يجيب: «ليست دوامة إلا بالقدر الذي أنتبه فيه إلى غيري، إلى جاري، إلى أهلي، إلى مَن أشاركهم دفع الضريبة، والانتخاب في التوقيت ذاته، من دون أن نلتقي في وجهة معاً بالضرورة. فأنا شريك الألم والتيه، وهذا البحث المضني مع غيري عن أفق آخر غير المقتلات المتتالية».
يعود إلى الستينات؛ مراهقته، ويتذكُر: «كان فيما عشتُ ما يبعثُ على الدهشة وعلى لذة الاكتشاف في الشارع الآخر؛ في المكتبة البعيدة عن مدرستي، وفي مَن يختلفون عني نطقاً وسيرة. كان في ذلك ما يبعث على المشاركة، لا على الاقتتال. إلا إن ثمة أملاً؛ أو رجاءً بالأحرى، يتمثل في موارد البلد الأساسية، وهي الإنسان بقدراته على النهوض من جديد وعلى إعادة ما تهدم وتدبير وجهات ممكنة للتعايش».
تحضر المرأة في مجموعة داغر أيضاً، ولكن بوجوه عدة: «هي الأم كما في قصيدتَي (سوق الطويلة عشية العيد)، و(بعد الغروب بقليل)، وهي الحبيبة المشتهاة، كأنها لا تتحقق في الواقع، أو كأنها مستحيلة التجسد في كيان»؛ حتى إن الحضور الأنثوي يُختزل أيضاً في اللغة، حين يكتب: «أيتها اللغة يا أمي».
أي تفسير لهذا الخليط من «النساء» في رجل؟ يجيب: «اللغة نسائي التي عشتُ معها والتي أشتهيها في زمن الحجْر. هذا ما يجتمع في مجموعة من القصائد تتخذ عنواناً دالاً لها، (وِداد عن بُعد). أما وجوه المرأة العديدة، فلا تعدو وجوه الحياة ووجوه الرغبة فيها. القصيدة عندي امرأة دائماً، أياً كان موضوعها. هي الشريكة والبعيدة في آن. لذلك هي احتمال في القصيدة، والقصيدة احتمال في امرأة».
كالمرأة، يحضر الوقت بشكل ساطع في الديوان، ولعله مستمَد من قلق الحياة والموت. يخاطبه الشاعر: «دعني أيها الموت خفيراً على العمر الذي لا يتوانى عن المضي في مشيته وحيداً من دوني... فيما أجدني دائناً له، أتكبد الخسارات والمرارات والانتظارات السقيمة». وينهي بالقول إن «نعمة الوقت هي القصيدة»، فماذا عن نقمته؟ يرى شربل داغر نقمة الوقت هي ما يعيشه في هذه الأيام الكابوسية التي لم يكن مستعداً لها، ككثيرين غيره، ويتابع: «أنا ضنين بالوقت؛ بعيشه والتلذذ فيه، فلا أرضى بأي إرجاء أو تعطيل له. لهذا تبدو النعمة بدل النقمة، في القصيدة. فما لا أقوى عليه في الخروج أو السفر، تقوى عليه غيمة القصيدة التي بمتناولي وبتصرفي».
هذا حق الشاعر في الحياة، وهذا ما يتهدده فيها وما يجعل من تعطيل العيش موتاً بطيئاً، «لذا تعوض القصيدة أحياناً عما لا تتيحه الحياة، أو لا تبيحه. ولهذا سيكون عنوان مجموعتي الشعرية المقبلة: (أيتها القصيدة... جِدِيني فيكِ)».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».