قبل عامين كنتُ ضيفاً في مهرجان شعري بدولة خليجية، وبعد أن اختُتمتْ جلسة الافتتاح انسللتُ مع شاعر صديق من ذلك البلد بعيداً عن صخب المهرجان والأصدقاء، وذهبت معه في سيارته إلى المستشفى التعليمي حيث يرقد الشاعر مظفر النواب.
في الطريق كان الصديق يتحدث معي عن ضرورة إقناع المرافق الذي يقيم مع مظفر في الغرفة نفسها، ومنذ 6 أعوام، بالدخول لرؤية النواب؛ لأنه ممنوع الدخول إلى الغرفة ومعاينته؛ لوضعه الصحي المتعب جداً، وهذا المنع آتٍ من أعلى السلطات حفاظاً على وضع النواب وصحته.
حين دخلت المستشفى أشار لي «النجار» إلى رقم الغرفة وانسحب وقال لي: «انت وشطارتك»، فطرقت الباب وقد كان موارباً قليلاً، خرج إلي شاب عرَّفته بنفسي وطلبتُ منه أنْ أسلّم على النواب فاعتذر مني بلطف، لكنني قلتُ له: «عزيزي أنا لستُ سياسياً ولن آخذ صورة مع النواب لأتاجر بها، أنا شاعر ودعيت لمهرجان شعري، وهي فرصة أنْ أقبَّل جبين مظفر النواب»، وما زلنا نتبادل الحديث على الباب، وإذا بصوتٍ يأتي من داخل الغرفة: «تفضل... تفضل»، لحظتها دخلتُ مباشرةً، فوجدتُ شاباً آخر جالساً قرب سرير النواب، وهو في حالة شبه غيبوبة، لا يعرف الناس ولا يسمعهم، رحَّب بي ذلك الشاب وقال إنه ابن أخت مظفر النواب، وجاء قبل ساعات من أستراليا لرؤية خاله، جلستُ قرب النواب عشر دقائق وقبّلتُه في جبينه وخرجتُ مباشرةً.
المشفى يقع في أطراف المدينة، وهو ليس مشفى تقليدياً، إنما هو عبارة عن مدينة متكاملة، وحين دخلتُ عتبة المستشفى كأنَّي أدخل فندقاً من «خمسة نجوم» حيث النظافة والإيتيكيت والمطيبات والمطهرات في كل مكان، وهذا قبل «كورونا» بأيام، فضلاً عن الكوادر الطبية المهمة، ومن جنسيات مختلفة.
حين خرجتُ من غرفة مظفر النواب؛ وهي جناح كبير في أقصى زاوية المستشفى، ونزلتُ درجات السلم وأنا بين جذل برؤية النواب لأول مرة، وحزين لأني لم أستطع أن أكلمه، ويسمعني، ويراني... كان هاجس آخر يراودني حول شعر مظفر النواب الذي كان ملتهباً ومشتعلاً ضد بعض الحكام العرب، حيث سخر من بعضهم في قصائده، وتهكم على آخرين، وأدان وشتم كثيرين منهم، مدافعاً عن الروح الثورية، ومندداً بكل المتخاذلين - كما يصفهم النواب - ولكن في النهاية لم تُفتح الأبواب في وجهه، بقيت الشعوب تردد قصائده، وبقيت فلسطين تدور في نصوصه، ولكن حين تُمنح «جائزة القدس» فإنها تُمنح لغيره من الشعراء، وحين يُكرم شعراء المقاومة يُنسى مظفر النواب، فيما احتضنته هذه الدولة الخليجية بكل حب ورعاية. فأين المشكلة؟ هل المشكلة في شعر مظفر النواب في أنه لم يكن صائباً؟ أم إن الحماس والعاطفة كانا مهيمنين أكثر على عقله ومنطق الأشياء؟ أم إن هؤلاء الحكام الذين شتمهم لم يكونوا كما وصفهم في قصيدته؟
لا أعرف مدى صحة مقولة محمود درويش: «شتمنا الحكومات خمسين عاماً، لكنها لم تسقط، والذي سقط هو الشعر»، إن صحّت هذه المقولة؛ فهذا يحيلنا إلى أسئلة كثيرة ترتبط بفكرة المثقف والسلطة في قربه وابتعاده؛ في ليله ونهاره.
ومثل نموذج مظفر النواب شعراء كثر في هذا الخط المعارض والغاضب على الدكتاتوريات والاستعمار، ولكن حين تسأل عن هؤلاء الشعراء فإنهم يعيشون في لندن أو واشنطن مثل عشرات المثقفين الثوريين.
كيف بشاعر يشتم الاستعمار ومن ثم يحلم بالحصول على جنسية ذلك البلد المستعمر؟! وبصراحة المسألة ليست مرتبطة فقط بالوسط الثقافي، فقد رأيت فيديو قبل أيام قد انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي يظهر شخص المقرب من صدام حسين؛ كنا نشاهده يومياً في التلفزيون وهو يقف خلف صدام بوصفه أحد أكابر حمايته ومرافقه الأول. وهذه الصورة بقيت ثابتة حتى آخر لحظة من حكم صدام حسين، ولكننا شاهدناه في أميركا وهو يضحك ملء الفم، حيث علمتُ أنه طلب لجوءاً في أميركا، فضلاً عن آلاف من البعثيين الذين يكرهون أميركا ويعدّونها العدو الأول، لكنهم طلبوا اللجوء السياسي لديها وعاشوا بأمان واسترخاء.
وهذا الأمر ينطبق على الشيوعيين الذين سبقوا البعثيين، حيث هربوا من نيران العراق وجحيمه أيام السبعينات، فانطلقوا إلى أوروبا الرأسمالية دون أن يفكروا في الاتحاد السوفياتي الاشتراكي، أو دول أوروبا الشرقية الاشتراكية؛ إلا ما ندر، وكذلك الإسلاميون الذين يعدّون أميركا الشيطان الأكبر، ولكنهم حين يريدون العيش بكرامة فإنهم يطلبون اللجوء إليها، ولديهم الاستعداد أن يقفوا أياماً وأشهراً على أبواب السفارات الغربية طلباً للجوء، دون أن يفكروا ولو للحظة في العيش في إحدى الدول الإسلامية التي يسبّحون بحمدها؛ بل إنهم لا يشعرون بالحرية في ممارسة طقوسهم إلا في تلك الدول الكافرة -حسبما يدعون - وإنهم ينعمون بتعليم ممتاز وتأمين صحي لهم ولأولادهم.
أعود إلى مظفر النواب الشاعر المهم والإشكالي في الوقت نفسه، الشاعر الذي انقسم لشاعرين؛ فصيح وشعبي، فهو في الفصيح غيره في الشعبي، وكأنما قالب الفصيح لديه وُضع للشتائم الموزونة والفصيحة، فيما كان قالب الشعبي للحب والغزل، وبهذا فهو شاعران وليس واحداً.
أما فيما يخص موقفه من الساسة وشتمه إياهم؛ فإن الأمر ينطبق على كثيرين، منهم الجواهري الذي ندم فيما بعد على تعريضه بالملك فيصل أو العائلة المالكة في العراق، ومن قبله الرصافي الذي عاتبه الملك فيصل على بيته الذي يقول فيه:
وليس له من يومه غير أنه
يعدد أياماً ويقبض راتباً
فيُروى أن الملك فيصل الأول التقى بعد مدة مع الرصافي في البلاط بوساطة من نوري السعيد، فقال له؛ كما يذكر الجواهري في مذكراته بالجزء الأول: «يا أستاذ الرصافي أأنا الذي يعدد أياماً ويقبض راتباً، وأنا مثقل بالمشكلات والتحديات، وبهموم أمة بأسرها؟»، والغريب في الأمر أن الجواهري يروي في هذه المذكرات نفسها أنه عثر على الملف الأدبي الخاص بالمراسلات ما بين الملك وبعض الشخصيات الأدبية والثقافية، والمفاجأة أن الجواهري عثر على رسالة للزهاوي بخط يده يطلب فيها من الملك أن يكون شاعره الخاص، لكن الجواهري يقول إن المفاجأة الكبرى هي الرسالة الأخرى التي بخط يد الرصافي كأنه يتسابق مع الزهاوي في الغرض نفسه.
لذلك يحيلنا هذا الأمر إلى قضية مهمة، وهي ثورية وعاطفية الآراء السياسية التي يطلقها الشعراء في العادة والمتضمنة في قصائدهم، وتحديداً في بداياتهم الشعرية، حيث الفتوّة والقوة وعدم التأني وتلبُّس الروح الآيديولوجية في عمر مبكر، مما يسهم في بناء حاجز يشبه اللجام للشاعر يمنعه من رؤية الأشياء كما هي، على الرغم من أهمية هذه المرحلة في حياة كل شاعر؛ لأنها الأكثر دفقاً ومطراً، ولكن بعد مرور السنوات سيقف الشعراء نادمين على كثير من المواقف التي تبنوها إزاء القضايا السياسية الكبرى سواء أكانوا معها أم ضدها، والأمر ليس مقتصراً على الشعراء فحسب، فالنقاد لم يسلموا من هذا الأمر على المستويين الفكري والمعرفي، فمرة كنا في ضيافة الدكتور مالك المطلبي وذكّرناه بالسجال الذي دار بينه وبين الراحل الدكتور علي جواد الطاهر على صفحات جريدة «الجمهورية»، ما بين النقد البنيوي الذي يمثله المطلبي، والنقد الانطباعي الذي يمثله الطاهر، فقال لنا المطلبي: «لو رجع بي الزمن لما كتبت حرفاً واحداً أساجل به أستاذنا الطاهر أو أعكّر مزاجه بسبب قضية نقدية بسيطة»، ولكن المطلبي اعترف بندمه بعد مرور نحو أربعين عاماً على سجالاتهما، ذلك أن العمر والزمن هما الغربال الأكثر أثراً في أرواح الشعراء... الزمن هو المهدّئ الوحيد لقلقهم وهو الفيصل في كثير من الأشياء.
الشعراء الثوريون... الآيديولوجيا وندم المشيب
آراء سياسية عاطفية يطلقونها خصوصاً في بداياتهم
الشعراء الثوريون... الآيديولوجيا وندم المشيب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة