استجابة بوتين لكل الطلبات تطغى على الصحف الروسية

أصداء واسعة للحوار التلفزيوني للرئيس مع مواطنيه

الرئيس فلاديمير بوتين يلتقط صورة سيلفي مع مجموعة من الإعلاميين بعد انتهاء حواره التليفزيوني المباشر مع مواطنيه الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس فلاديمير بوتين يلتقط صورة سيلفي مع مجموعة من الإعلاميين بعد انتهاء حواره التليفزيوني المباشر مع مواطنيه الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

استجابة بوتين لكل الطلبات تطغى على الصحف الروسية

الرئيس فلاديمير بوتين يلتقط صورة سيلفي مع مجموعة من الإعلاميين بعد انتهاء حواره التليفزيوني المباشر مع مواطنيه الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس فلاديمير بوتين يلتقط صورة سيلفي مع مجموعة من الإعلاميين بعد انتهاء حواره التليفزيوني المباشر مع مواطنيه الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

ما كاد الحوار التلفزيوني المباشر للرئيس الروسي ينتهي في السادس عشر من أبريل (نيسان) الحالي، والذي استعرضنا تفاصيله في الأسبوع الماضي على صفحات «الشرق الأوسط»، حتى انطلق مراسلو القنوات التلفزيونية الفيدرالية والإقليمية يجوبون «الكفور والنجوع» بحثا عن المحظوظين ممن ظفروا بفرصة توجيه تساؤلاتهم وطرح مشكلاتهم على الرئيس بوتين، في نفس الوقت الذي راحت القنوات المركزية تستعرض فيه الاستجابة السريعة من جانب السلطات المحلية لتلبية مطالب أولئك المحظوظين بما بدا معه بوتين وحسب تصوير بعض المراقبين في موسكو أشبه بـ«بابا نويل» أو «ديد موروز» أو «سانتا كلوز» ممن يُسْعِدون زائريهم في أعياد الميلاد ورأس السنة، يحملون لهم كل ما يلبي مطالبهم ويدغدغ مشاعرهم.
ولما كان الحوار التلفزيوني تناول مشكلة إحدى الفتيات من ذوات الاحتياجات الخاصة التي أعربت في رسالتها المصورة إلى الرئيس بوتين عن حاجتها إلى جهاز رياضي للتمرين على المشي لا تتعدى قيمته 400 دولار، فقد انتظر كثيرون ردود الفعل التي لم تتأخر كثيرا، إذ لم يمضِ من الزمن سوى بضع ساعات حتى أذاع التلفزيون الروسي خبر إرسال هذا الجهاز إلى الفتاة، بل وتركيبه في مسكنها، مستعرضا ما غمر الفتاة وذويها من مشاعر فرحة وامتنان لا حدود لهما.
أما عن الواقعة الأخرى التي كنا أشرنا إليها في معرض الحديث عن حوار بوتين مع مواطنيه، وكانت تتعلق بزوجة عقيد في الجيش الروسي تنشد تدخل الرئيس بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، بشأن إقناع زوجها بالسماح لها باقتناء «كلب»، وهو ما تناوله بوتين بكثير من الدعابة مناشدا الطرفين بتفهم مواقف الآخر «من أجل حياة عائلية أكثر وفاقا».
وكانت الصحافة الروسية حرصت على متابعة هذه القصة، لتعلن لقرائها في اليوم التالي أن العقيد بوريس من مدينة روستوف - على الدون وافق على طلب زوجته يلينا حول اقتناء الكلب الذي تعتزم صديقاتها تقديمه هدية لها في عيد ميلادها الأربعين. الطريف أن الزوجة اعترفت في حديثها إلى الصحافيين الذين زاروها لمعرفة مدى استجابة العقيد بوريس لتدخل القائد الأعلى للقوات المسلحة، أنها لم تكن تتصور إمكانية أن يصل مثل هذا الطلب للرئيس بوتين، ولم تكن تتوقع مثل هذا الرد. وأشارت إلى أن الزوج كان سعيدا أيضا بمفاجأة «تدخل» الرئيس بوتين، وأضافت أن الزوج المعروف بطباعه الصارمة وعدم استكانته لأي من أشكال الضغوط، لم يفاتحها بما استقر عليه قراره، لتفاجأ بمغادرته ثم عودته مع ابنهما وهو يحمل «ما كانت تحلم به»، وهو كلب من أشهر السلالات اختاروا له اسم «جوشا»، وقالت إنه أفضل هدية لها في ذكرى ميلادها الأربعين.
أما عن جون كيبينسكي المزارع البريطاني الأصل الذي كان هاجر إلى روسيا في مطلع تسعينات القرن الماضي وحصل على جنسيتها، والذي كنا أشرنا أيضا إلى شكواه للرئيس من متاعب «البيروقراطية الروسية»، ومصارحته له بأن «الإدارات المحلية تخدع الرئيس بما تقدمه له من أرقام ومعلومات تقف على النقيض من الواقع».
ويذكر أن بوتين سارع بدرء الاتهام، مؤكدا أنه على دراية كافية بكل دقائق الموقف، وأن كل الأمور تحت السيطرة. ولذا كان من الطبيعي أن يكون ذلك المزارع البريطاني الأصل مقصد كثيرين من مراسلي القنوات الفيدرالية والمحلية الذين توافدوا لتسجيل «المشكلة على الطبيعة»، مع إجراء الحوارات اللازمة مع أصحابها. وبينما راحت الكاميرات تمسح أرجاء هذه المزرعة «الفريدة النمط» والمتعددة الأنشطة، اكتشف المشاهد أن جون حقق «المعجزة» بعد أن نجح في تحويل المزرعة الحكومية التي كانت اقرب إلى الأطلال، إلى واحدة من أهم وأجمل المزارع المتعددة الأنشطة ومنها تربية الخيول والمواشي وإنتاج اللحوم والألبان، إلى جانب البانسيونات التي يستضيف فيها عشاق الهدوء ومحبي الطبيعة.
ولعله من الطريف أيضا أن تعود كل الصحف وأجهزة الإعلام الروسية إلى سابق عهدها في تغطية مثل هذه الحوارات، في إطار هو أبعد من مجرد التغطية الصحافية والتلفزيونية، لتسقط في شرك المبالغات التي ثمة من يقول إنها لا تعود على الرئيس بالنتيجة المرجوة. ونشير على سبيل المثال إلى ما بعض ما صدر عن وكالة أنباء «سبوتنيك» الإعلامية الرسمية من عناوين وتعليقات مصورة تقول:
* «الروس يحبون رئيسهم، الكبار منهم والصغار، وحتى الكلاب والقطط كانوا جالسين بالقرب من التلفاز لمشاهدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء الحوار».
* «عندما يتحدث بوتين، يبدأ الأطفال بالمشي».
* القطة أيضا لم تفوّت المقابلة.
* «عندما يعطي بوتين درسا فلا وقت للدراسة».
ومن اللافت أن الصحافة الروسية بكل توجهاتها خلصت في تقديراتها للحوار التلفزيوني الثالث عشر للرئيس بوتين، إلى أنه بدا خلال الحوار الأخير «طيبا ودودا مسالما يريد الصداقة مع الجميع»، عازفا عن فتح أي جبهات أو خوض أية مواجهات مع الآخرين، بينما حرص على الابتعاد عن كل ما من شأنه تأجيج أجواء المواجهة والخلافات مع الخصوم التقليديين، مؤكدا أن لا أعداء لروسيا وأن الجميع شركاء، وإن عاد واتهم الولايات المتحدة بأنها تستهدف تركيع بلاده وأنها لا تريد أن يكون لها أصدقاء، لأنها تريد أن يكون العالم كله في وضعية «التابع» وليس «الشريك».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.