داريوش شايغان... الوجه الآخر لإيران

كان يرى أن التضاد بين الغرب والآخرين لم يعد صالحاً في عصر العولمة الكونية

داريوش شايغان
داريوش شايغان
TT

داريوش شايغان... الوجه الآخر لإيران

داريوش شايغان
داريوش شايغان

لا أعرف مثقفاً عربياً ولا مسلماً واحداً أكثر انهماكاً في مسألة العلاقة بين التراث والحداثة من داريوش شايغان. لقد كانت شغله الشاغل على مدار خمسين سنة متواصلة؛ أي حتى رحيله عن هذا العالم عام 2018، مخلفاً وراءه العديد من الكتب المرجعية.
وهنا منذ البداية أقول: لحسن الحظ، فإن الفكر لا يموت بموت صاحبه، وإنما يظل حياً متألقاً بعده، إذا كان فكراً حقيقياً مضيئاً للإشكاليات العويصة. ما دام المثقف يخلِّف وراءه أعمالاً كبرى تخلده، وتضيء للأجيال القادمة الطريق، فإنه لا يموت. المفكر الكبير -بهذا المعنى- يظل يعيش معنا، بيننا، يظل يرافقنا. يكفي أن نفتح كتبه لكي نسمع صوته، لكي نستفيد من إضاءاته وإرشاداته. وهذا هو عزاؤنا الوحيد في الواقع بعد رحيله. هل مات ابن سينا؟ هل مات المعري؟ هل مات المتنبي؟ أين هو انتصارك يا موت؟ العباقرة لا يموتون!
نذكر من بين مؤلفاته: «ما الثورة الدينية؟»، وفيه ينتقد أدلجة الدين بعد الفورة الأصولية الخمينية عام 1979. والمقصود بالأدلجة هنا نزع القداسة عن الدين، وتحويله إلى مجرد آيديولوجيا سياسية مربحة جداً، على صعيد التجييش الشعبي، أو بالأحرى: الشعبوي و«الانتخابات الديمقراطية»! وحدها المتاجرة بالدين تبدو فعالة وفتاكة وقادرة على إنزال الجماهير إلى الشارع بالملايين. شيخ صغير واحد يعادل كل المثقفين العرب دفعة واحدة!
ثم كتاب: «النظرة المبتورة. البلدان التقليدية في مواجهة الحداثة»، وفيه يدرس ظاهرة الانفصام السيكولوجي أو «الشيزوفرينيا» التي نعاني منها نحن أبناء العالم الإسلامي، بين الانكفاء على التراث من جهة، والانبهار بالحداثة الغربية من جهة أخرى. فنحن نتذبذب بين قطبين. نحن في منزلة بين المنزلتين. فلا القدامة انتهت بعد، ولا الحداثة انتصرت بعد. من هنا قلقنا وعذابنا وعدم استقرارنا على «خازوق» محدد؛ إذا جاز التعبير. نحن في منزلة بين المنزلتين. نحن نعيش مرحلة انتقالية مترجرجة، مليئة بالمخاضات والعذابات. ولا ننسى كتاب المقابلات الشخصية الحميمية الذي أجاب فيه على أسئلة أحد الباحثين، بعنوان شاعري جميل جداً: «تحت سماوات العالم». ولا ننسى كتابه: «النور يأتي من الغرب». ولا ننسى، ولا ننسى...
لو لم يغادر داريوش شايغان إيران بعد انتصار الظلامية الخمينية، لما استطاع إتحافنا بكل هذه الروائع والمراجع. كيف يمكن التفلسف والتعمق والتحرر في مثل هذا الجو الخانق لرجال الدين؟! لولا استقراره في باريس، عاصمة الحضارة والأنوار، لما بقي منه شيء يذكر.
ما هي النظرية الأساسية لداريوش شايغان؟ يمكن تلخيصها على النحو التالي:
على الرغم من كل نواقص الغرب وانحرافاته العدمية المقلقة، فإن داريوش شايغان يعتقد بأن النور -أي الحل والخلاص- سوف يأتي من جهة الغرب لا محالة. لماذا؟ لأن الغرب على عكس الشرق هو الذي شهد عصر التنوير الكبير في القرن الثامن عشر. ويرى أن هذا العصر يشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ البشرية كلها، وليس فقط في تاريخ أوروبا الغربية. فالإنسان في تلك الفترة الذهبية من عمر الحضارة البشرية، أدرك لأول مرة معنى حريته وحقوقه، وأراد نفض الغبار عن نفسه، والتحرر من وصايتين اثنتين مرهقتين فوق رأسه، هما: وصاية السلطة السياسية القمعية ورهبتها، ووصاية الجلالة المقدسة لرجال الدين القمعيين أيضاً. لقد كبر الإنسان، لقد شب عن الطوق، لقد انتقل من مرحلة القصور الشرعي إلى مرحلة سن الرشد، كما يقول كانط في تعريفه للأنوار. باختصار شديد لقد تحرر من وصاية الكاهن المسيحي، وأصبح يفكر بنفسه، ويتجرأ على استخدام عقله.
ولذا يرى شايغان أنه لكي تتفتح شخصية الإنسان وتزدهر؛ بل ولكي تتفتح الروحانيات الدينية ذاتها، فإنه -ويا للمفارقة الكبرى- لا ينبغي أن يعيش في مجتمع ديني شرقي، وإنما في مجتمع غربي علماني حديث، محرَّر كلياً من اللاهوت والكهنوت. ينبغي أن تعيش في ظل حماية دولة القانون المضادة لدولة الاستبداد والتعسف والاعتباط. ينبغي أن تعيش في ظل مؤسسات عقلانية ديمقراطية، إذا ما أردت أن تكتب وتبدع. وهي المؤسسات السائدة في دول الغرب المتقدم في أوروبا وأميركا الشمالية.
ولهذا السبب، فإن معظم المثقفين العرب والمسلمين يحلمون بالهجرة إلى جامعات أوروبا وأميركا؛ حيث يستطيعون مواصلة أبحاثهم بكل حرية. لو أن فضل الرحمن لم يغادر باكستان على وجه السرعة، ولم يستقر في جامعة شيكاغو، هل كان سيتجرأ على كتابة ما كتب عن التراث؟ لو أن محمد أركون لم يبقَ في باريس وعاد إلى الجزائر بعد تخرجه في جامعة «السوربون»، هل كان سيتجرأ على إتحافنا بأكبر مشروع فكري في هذا العصر: «نقد العقل الإسلامي»؟ بالمعنى الفلسفي العميق لكلمة نقد، وليس بمعنى التجريح.
بهذا المعنى، يعتقد داريوش شايغان أن مغامرة الحداثة الكبرى كانت بمثابة حركة تحريرية ضخمة، هادفة إلى تحرير الإنسان من كل الضغوط التراثية التي تجثم على قلبه. هنا يكمن إنجاز الحداثة الأعظم.
ولذلك يقول المفكر الإيراني الشهير ما فحواه: عندما ننظر إلى أوضاع العالم الإسلامي، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن رجال الدين يتعدون أو يتطاولون على الحياة الشخصية للفرد أكثر فأكثر ويقمعونها. إنهم يراقبونك في كل حركاتك وسكناتك. فكيف يمكن للفكر أن ينتعش في مثل هذه الأجواء؟ كيف يمكن أن يبدع؟ ولذا نقول: من دون الفصل الحقيقي بين التدين التقليدي المتزمت، والمعرفة الفلسفية النقدية، فإننا لن نتوصل أبداً إلى مجتمع حر أو متحرر من السلفيات الموروثة؛ أياً تكن سنية أم شيعية.
كل هذا يدل على أنه لولا أربعة قرون من الفلسفة والعلمنة، لما استطاعت أوروبا التخلص من القمع اللاهوتي المسيحي، والتوصل إلى المفهوم الحديث والعلماني للحرية والديمقراطية. هذه أصبحت بدهيات، ولكن ينبغي التذكير بها.
وعندما تسأله: هل التضاد بين الغرب والآخرين لا يزال صالحاً؟ يجيبك قائلاً: لم يعد له أي معنى في عصر العولمة الكونية. وهنا يكمن النقص الأساسي في نظرية صموئيل هانتنغتون عن صدام الحضارات. لماذا نقول بأن صدام الحضارات لن يحصل؟ لأنه لم تعد توجد حضارة صافية أو خالصة على وجه الأرض. كلنا أصبحنا مزيجاً، خليطاً من القديم التراثي والحديث الأوروبي. لم تعد توجد كتلة واحدة في مواجهة كتل أخرى. وذلك لأن الحداثة الغربية اخترقت خلال القرنين الماضيين جميع الحضارات البشرية، بما فيها الحضارة الإسلامية، عربية كانت أم فارسية أم تركية أم أفغانية باكستانية... إلخ. وبالتالي فنحن نعيش جميعاً في حالة من الخليط الحضاري، من التمازج والتفاعل المشترك والمتبادل. من هنا كتابه المهم: «الوعي الخليط أو الهجين»، باريس، 2012.
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أننا أصبحنا جميعاً نعيش داخل حضارة كونية واحدة؛ سواء أكنا شرقيين أم غربيين، صينيين أم يابانيين أم إيرانيين أم عرباً أم فرنسيين... إلخ.
يقول داريوش شايغان في أحد اعترافاته: «لقد دهشت كثيراً عندما عدت إلى إيران بعد طول غياب في الخارج. فوجئت بمدى نجاح كتبي المترجمة من الفرنسية إلى الفارسية، فوجئت بمدى إقبال الشباب الإيراني عليها. وعرفت عندئذ أن الشباب تواقون فعلاً إلى الخروج من الأصولية الخمينية، من الظلامية الدينية. الشباب يريدون الانفتاح على العالم، على أفضل ما أعطته الحضارة العالمية؛ وخصوصاً الحضارة الأوروبية والأميركية». ثم يضيف المفكر الإيراني الكبير قائلاً: «سوف أفاجئكم -وربما أصدمكم- إذا قلت لكم إننا أصبحنا جميعاً غربيين! بمعنى أن الحداثة الغربية وصلت إلى كل الثقافات والحضارات الأخرى. لقد دخلت فيها، تغلغلت إلى أعماقها». ثم يضيف شايغان: «أنا في أعماقي أشعر عاطفياً وشعورياً بأني شرقي. على المستوى الشخصي عواطفي شرقية من دون شك. ولكن فيما يخص وعيي الفكري وروحي النقدية الفلسفية، أشعر بأني فرنسي أو أوروبي أو غربي. أنا مشكَّل من ثلاث هويات متراتبة، بعضها فوق بعض: الهوية الفارسية، والهوية الإسلامية، والهوية الحداثية الأوروبية. وكل هذا يشعرني بغنى الشخصية، ولا يسبب لي أي مشكلة. على العكس».
ثم يردف الفيلسوف الإيراني الشهير قائلاً: «اعلموا أن الحضارة الغربية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الكونية. لقد عُمِّمت على جميع شعوب الأرض. فالعلم والفلسفة والروح النقدية والمخترعات التكنولوجية كلها أشياء غربية في الأساس. ولكنها صُدِّرت إلى شتى أنحاء العالم. وبالتالي فإن أي أمة ترفض التنوير الفلسفي بحجة الحفاظ على خصوصيتها وأصالتها، تعاقب نفسها بنفسها، وتحكم على ذاتها بالتقوقع التراثي والتأخر عن ركب الحضارة والعصر. كل مقاومة لمنجزات عصر الأنوار ومكتسباته هي عبارة عن محاولة يائسة تعيدنا إلى عصر الظلامية. لقد تشربنا الحداثة الغربية على غير وعي منا تقريباً. وهذه الهوية الجديدة التي اكتسبناها في جامعات أوروبا وأميركا هي وحدها المسلحة بالملكة النقدية، بالروح الفلسفية الحرة».
لكن داريوش شايغان يقول مستدركاً: «صحيح أن الغرب اخترع ما هو أفضل في هذا العالم: (الديمقراطية)، أي حل الصراعات عن طريق الحوار لا عن طريق العنف والضرب. صحيح أنه اخترع دولة القانون، والروح الفلسفية، والتقدم العلمي والتكنولوجي. ولكنه اخترع أيضاً الأسوأ للأسف الشديد: لقد اخترع الاستعمار، والاستعباد، والتوتاليتارية الفاشية أو النازية، والانحرافات الشذوذية. وبالتالي فهناك الوجه والقفا، هناك الأبيض والأسود. هناك الجوانب التحريرية الإيجابية للحضارة الغربية، وهناك الجوانب السلبية القمعية».
وعندما تطرح عليه السؤال التالي: لماذا يكره العالم الإسلامي الغرب؟ فإنه يجيبك قائلاً ما معناه: إذا ما وضعنا ظاهرة الاستعمار جانباً، فإن هذا الكُره ناتج عن الفشل التاريخي الذريع للعالم الإسلامي. فهو يشعر بالمهانة والذل والنقمة العارمة على هذا الغرب الذي نجح نجاحاً صارخاً، في حين أننا بقينا في مؤخرة الأمم والشعوب. هذا الشيء لا يستطيع أن يتحمله المسلم المعاصر. فهو يقول في قرارة نفسه ما يلي: أنا أنتمي إلى أعظم دين على وجه الأرض، أنا أنتمي إلى الدين الذي ختم الأديان الإبراهيمية أو السماوية كلها، أنا أنتمي إلى الدين الذي يتفوق ميتافيزيقياً وأنطولوجياً وإلهياً على الأديان كلها، فكيف حصل أن سبقني هؤلاء الغربيون المسيحيون؟ هذا شيء لا يُحتمل ولا يُطاق بالنسبة للعربي أو المسلم.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.