دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

تأكيد على أهمية توحيد الصف في وجه التهديدات

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
TT
20

دول الخليج أمام مشهد يمني معقد يُدار بأيدٍ إيرانية

صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)
صورة من أقمار صناعية تظهر هجوماً بطائرات مسيرة على مصفى للبترول قرب أبوظبي راح ضحيته ثلاثة عاملين في 17 الشهر الماضي (أ.ب)

يرى محللون استراتيجيون خليجيون أن توسيع الحوثية المدعومة من إيران خارطة اعتداءاتها لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، جاء انعكاساً لخسائرها على الأرض والهزائم التي منيت بها في الفترة الأخيرة. وأكد المحللون في الشأن الاستراتيجي في لقاءات مع «الشرق الأوسط» أنه من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان باتجاه الإمارات كان قراراً حوثياً، لافتين إلى أنه من القرارات الاستراتيجية الحساسة واتُخذ بناء على حسابات استراتيجية إيرانية ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية. ويعتقد المحللون أنفسهم أن الرد السعودي الإماراتي على الاعتداءات الحوثية كان حاسماً ورادعاً وقوياً وفورياً، وينبع هذا الرد من فهم مشترك لطبيعة الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى للتهديدات الإيرانية - الحوثية.
ناقشت «الشرق الأوسط» مع كوكبة من الخبراء الاستراتيجيين الخليجيين التطورات الأمنية الإقليمية الأخيرة في ضوء توسع الاعتداءات الحوثية لتشمل أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة، في أعقاب استهدافها منذ بعض الوقت الأراضي السعودية. وفي هذا الإطار، يحذّر الخبراء من أن المشهد اليمني يزداد تعقيداً سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، وأن الدقائق الأخيرة من ساعة الحرب لم تحن بعد، مشيرين إلى أن الميليشيات الحوثية «تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لاستمرار الحرب بعد رفضها كل نداءات السلام».

الصقر: قرار التصعيدأكبر من الحوثي
الدكتور عبد العزيز بن صقر، رئيس «مركز الخليج للأبحاث»، يقول في تعليقه حول توسيع جماعة الحوثي الإرهابية اعتداءاتها الأخيرة لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، إنه «من الخطأ الافتراض أن قرار توسيع العدوان كان قراراً حوثياً. قرار العدوان على الإمارات يصنّف من نوع القرارات الاستراتيجية الحساسة التي لا يمكن أن تتخذ على مستوى القيادة الحوثية منفردة، خاصة أنها مجرد قيادة تابعة ومنفذه فقط للمطالب والتوجيهات الإيرانية، فالقرار بتوسيع عملية العدوان اتخذ على مستوى القيادة الإيرانية العليا، واتخذ بناءً على حسابات استراتيجية إيرانية، ولخدمة مصالح إيران الاستراتيجية».
وأضاف بن صقر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» شارحاً: «من دون شك، الحسابات الإيرانية تتضمن وضع إيران والميليشيات الحوثية في اليمن، لكنها تتجاوز هذا الأمر لتشمل وضع نفوذ إيران وسيطرتها في عموم المنطقة العربية، وعلاقات إيران الإقليمية والدولية. لذا فإن قرار توسيع العمليات العسكرية في الجزيرة العربية، جاء على خلفية اشتباكات استراتيجية لإيران على عدة جبهات، منها جبهة المفاوضات النووية في فينيا، وخضوع الدولة ونفوذها وسيطرتها لتحديات كبيرة في لبنان، العراق، وسوريا».
وبحسب بن صقر، فإنه «من خلال توسيع رقعة العمليات العسكرية في اليمن، تسعى القيادة الإيرانية إلى إثبات قدرتها على التحدي، وعلى استعداد طهران للتصعيد والمغامرة. وهي في هذا السلوك تحاول تحسين وضعها التفاوضي على جميع الجبهات، عبر إثبات قدراتها على توظيف أذرعها الإقليمية لتهديد الأمن الإقليمي وزعزعة الاستقرار الدولي... وهناك، مما لا شك فيه، قصورٌ دولي في فهم السلوك والعقلية والحسابات الإيرانية تقوم طهران باستغلاله».
رئيس «مركز الخليج للأبحاث» لم يغفل دور التغيرات الميدانية في ردة فعل الحوثيين الأخيرة، فقال: «دون شك، تغيير الواقع الميداني داخل اليمن، وبشكل تدريجي، منذ شهر يونيو (حزيران) العام الماضي، وفشل الوعود الحوثية بقرب فرض السيطرة الكاملة على محافظة مأرب، ثم بداية تحول الوضع العسكري الحوثي من الهجوم إلى الدفاع، وخسارة السيطرة على جميع أرجاء محافظة شبوة، والدخول في معارك فاشلة ومكلفة للمحافظة على مناطق السيطرة في محافظة مأرب... كل هذا قاد إلى تطور حالة من القلق العميق في طهران في ضوء تراكم الخسائر البشرية ضمن العناصر الحوثية المقاتلة، وتراكم الخسائر في المعدات العسكرية التي تتولى إيران توريدها عبر وسائل التهريب للحوثيين».
وتابع: «المشكلة الأساسية في المفهوم الميداني تكمن في تقدم ألوية العمالقة والقوات القبلية الداعمة السريع نحو محافظة مأرب، وهي محافظة ذات قيمة استراتيجية عالية للحوثيين، لكونها من ناحية محافظة نفطية توفر مستقبلاً مصادر مالية داعمة، ولكونها من ناحية أخرى تمتلك حدودا طويلة ومفتوحة مع محافظة صنعاء. لذا فإن مصدر القلق الإيراني - الحوثي يكمن في الحسابات باحتمال انهيار الدفاعات الحوثية في مأرب، ما سيفتح الطريق للتقدم نحو العاصمة صنعاء، وتهديد سيطرة الحوثيين على كامل الشمال اليمني».

الشليمي: المصالح الغربية
من جهته، أوضح الدكتور فهد الشليمي، رئيس «المنتدى الخليجي للأمن والسلام»، أن التصعيد الأخير للحوثيين ضد الإمارات يعود إلى الهزائم المتلاحقة في عدة جبهات داخلية، منها شبوة ومأرب وبعض الأماكن في تعز والبيضاء، إلى جانب السعي للحصول على هدنة التوازن، بحيث إن تصعيد الموقف على المستوى الدولي يجعل المجتمع الدولي والإقليمي يطالب بإيقاف الضرر.
«ومن الأسباب كذلك - بحسب الشليمي - أن ضرب بعض المناطق في الإمارات قد يهدد المصالح الغربية من شركات خاصة وسوق الطاقة، ومحاولة ثني القيادة الإماراتية عن دعم قوات العمالقة الجنوبية التي كبدت الحوثي خسائر كبيرة». وهنا يضيف: «كذلك لا يمكن أن تنطلق هذه الصواريخ من دون موافقة ضمنية إيرانية، خصوصاً أنها تأتي خلال مفاوضات فيينا لخلط الملفات، وتعطي الانطباع أن إيران تستطيع، في حال فشلت المفاوضات، إشعال المنطقة عبر وكلائها مثل حزب الله في لبنان أو الحوثي في اليمن أو الحشد الولائي في العراق».

كاسب: توسع واستمرار في العمليات
أما العميد الدكتور فواز كاسب، وهو محلل استراتيجي وأمني سعودي، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «إقدام الميليشيات الحوثية الإرهابية على توسيع العمليات الإرهابية لتشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، ليس بالأمر الجديد». ولفت من ثم إلى أنه «منذ عام 2016، وبداية العمليات العسكرية، كان هناك إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة مفخخة باتجاه الإمارات من قبل الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. وقد تم التعامل معها بنجاح لتعود مرة أخرى من خلال منظور حوثي مفاده التصعيد بالتصعيد، بعد دخول الإمارات بشكل رئيسي وأساسي ودعم ألوية العمالقة التي تمتلك الخبرة للتعامل في مثل هذه العمليات».
ووفق الدكتور فواز: «يتحقق توسع في العمليات على أرض الواقع، وتحقيق أهداف عالية الأهمية في شبوة ومأرب من خلال الدعم الإماراتي والدعم السابق والمستمر من المملكة العربية السعودية قائدة التحالف، الأمر جعل الحوثي يعود مرة أخرى لتهديد الإمارات تهديداً إرهابياً... وسوف تستمر هذه العمليات، لا سيما أن الحوثي أعلن أن التصعيد بالتصعيد». ويتابع الدكتور فواز كاسب قائلاً: «هذا ما سيجعل ألوية العمالقة تستمر في العمليات العسكرية بالتناغم والتفاعل الإيجابي من القبائل اليمنية وهذا يعطي أهمية للعنصر الاجتماعي». ومن ثم استطرد موضحاً: «كل ما تحقق من انتصارات على الأرض كان بإسناد مستمر وقوي من طيران التحالف، وضرب جميع الأهداف الإرهابية المتحركة والثابتة الأمر الذي أعطى زخماً لألوية العمالقة، وسوف تستمر هذه العمليات».
كذلك، تطرق كاسب إلى اختفاء زعيم المتمردين عبد الملك الحوثي من المشهد السياسي والإعلامي، ومقتل حسن ايرلو القائد الإيراني الفعلي للمعارك على الأرض، وأثر ذلك على تحول المعركة، فقال: «نلاحظ أن جميع الشخصيات اليمنية التي تحلل العمليات الأخيرة، تؤكد وجود تغير في الروح المعنوية والأداء وتراجع لدى الحوثيين، وهو ما يثبت ارتباط هذه الميليشيات وأهمية استغلال ذلك بشكل إيجابي وسريع من قوات التحالف والتوسيع في العمليات العسكرية».

الرد على الاعتداءات الحوثية
عودة للدكتور عبد العزيز بن صقر، الذي يقول: «يوجد توافق سعودي - إماراتي إزاء المخاطر الاستراتيجية لكامل الجزيرة العربية الناشئة عن الوضع اليمني، ومن ضمنها التهديدات المباشرة لدول مجلس التعاون الخليجي، التي يحملها خيار استمرار السيطرة الحوثية على اليمن، واستمرار السيطرة الإيرانية على الحركة الحوثية». ويلفت إلى أنه «من عادة التهديدات والمخاطر تحولها إلى قوة تُوحد المواقف، لكونها توحد المصير. هناك إدراك عميق لدى القيادتين السعودية والإماراتية بوحدة المصير، وكون التهديدات والخطر الإيراني - الحوثي هو خطر توسعي لا يقتصر على دولة واحدة، بل هو خطر إقليمي يمس أمن واستقرار وسلامة أراضي الدولتين».
ويرى رئيس «مركز الخليج للأبحاث» أنه، في قرارها تحدي التهديدات الإيرانية - الحوثية في اليمن، تبنت القيادة السعودية والإماراتية الحسابات الاستراتيجية الآنية، والبعيدة المدى. وأضاف: «التغافل عن حقيقة الاستيلاء غير الشرعي للميليشيات الحوثية على السلطة في اليمن، وعن حقيقة كون الميليشيات الحوثية عصابات من صنيعة الحرس الثوري الإيراني، وترتبط مصيرياً بالدعم والاستراتيجية الإيرانية، سيكون له أثمان وكلف كبيرة، وبعيدة المدى على أمن واستقرار دول مجلس التعاون، وأيضاً على حرية واستقلالية قراراتها السياسية، وحقوقها السيادية، وتحول اليمن إلى مركز عدوان وتهديد وابتزاز إيراني في قلب الجزيرة العربية سيمس سيادة واستقلالية جميع دول المنطقة».
ومن ثم، طالب الدكتور بن صقر بأهمية الاتعاظ من الدرس اللبناني والتجربة اللبنانية المرّة التي جاءت بسبب «التغافل والتخاذل أمام نمو نفوذ وسيطرة ميليشيات حزب الله - اللبناني على زمام السلطة في لبنان، ثم تحولها إلى قوة إقليمية تتدخل وتهدد أمن واستقرار كامل منطقة المشرق العربي لحساب الحرس الثوري الإيراني، وخدمة للمصالح الاستراتيجية التوسعية للإمبراطورية الفارسية الاستعمارية». على حد تعبيره.
وبدوره، أشار الدكتور فهد الشليمي إلى أن البعض كان يعتبر الإرهاب الصاروخي الحوثي ضد السعودية صراعاً بين دولتين، إلا أن انتقال الهجمات إلى دولة غير مجاورة لليمن، في حد ذاته، يشكل انتهاكاً للأمن والسلم الدوليين. ومن ثم، تطرق الشليمي إلى النجاح الدبلوماسي الإماراتي في مجلس الأمن والجامعة العربية، واعتبار الصواريخ الحوثية فعلاً إرهابياً، فقال: «هذه الصواريخ قد تصل إلى قطر والكويت وعمان والبحرين، لكن باختلاف المسار السياسي. أعتقد أن السعودية أثبتت أنها ذات صبر وتكتيك باحترافية دفاعها الجوي الذي صد آلاف الهجمات الجوية، وكانت محقة دائماً في أن منظمة الحوثي إرهابية».
وفيما يخص ردة فعل السعودية والإمارات على الهجمات الحوثية، رجّح العميد الدكتور فواز كاسب أن الدولتين الشقيقتين ستستمران في العمليات، لا سيما في ظل وجود الدعم السياسي والتغير في موقف المجتمع الدولي تجاه الميليشيات الحوثية. وأضاف: «لقد وقع اعتداء حوثي على السفارة الأميركية في صنعاء، وصرح الرئيس (جو) بايدن بأن إدارته تعيد النظر في تصنيف جماعة الحوثي ضمن الجماعات الإرهابية. وبلا شك هذا سوف يزيد الضغط والإرباك على الحوثيين خلال الفترة القادمة».

تعامل دول الخليج مع الملف اليمني

> لفت الدكتور عبد العزيز بن صقر إلى أن هنالك أمراً ما زال غائباً ضمن المنظومة الخليجية، وهو «الإدراك العميق للمخاطر والتهديدات التي تكمن في سياسة إيران التدخلية والتوسعية، والتهديدات البعيدة المدى التي تكمن في توظيف إيران لسياسة تأسيس ودعم الميليشيات الطائفية المسلحة، وتفتيت سلطة الدول القائمة، وخلق دولة داخل دولة، وتوظيف الورقة الطائفية، وإضعاف الهوية والانتماء الديني والوطني والقومي لدى المواطن العربي، لحساب تعميق الولاء الطائفي، الذي يربط عبره الولاء والدعم للسياسة الإيرانية، على حساب المصالح الوطنية والقومية».
وأضاف بن صقر: «تبني بعض دول الخليج العربية سياسة ومواقف متساهلة، وربما متخاذلة ومحابية للموقف الإيراني، وتجنب إدانة السلوك التوسعي والتدخلي أمر مؤسف ومقلق في الوقت نفسه. هذا الأمر ينجر على الموقف الخليجي والعربي من الملف اليمني، فجميع الأطراف الخليجية، ومن ضمنها السعودية والإمارات تؤمن وتعلن جهاراً أن تسوية الصراع في اليمن يجب أن تتم عبر الحلول والتسويات السياسية والمفاوضات الدبلوماسية التي تحافظ على كرامة وحقوق وازدهار الشعب اليمني، وتضمن سيادة الدولة وسلامة أراضيها». ولكن، رغم ذلك، يرى بن صقر أن «تجربة جولات التفاوض المتعددة مع الميليشيات الحوثية، أبرزت قناعة راسخة أن القرار الحقيقي والنهائي يكمن في طهران، ومع القيادة الإيرانية، كما أثبت أن مصلحة إيران تكمن في تخريب أي حل أو تسوية سياسية في اليمن تخدم مصالح الشعب اليمني، طالما أنها تتجاوز أو تُهمش المصالح الاستراتيجية الإيرانية في اليمن... لذا ما هو مطلوب من دول الخليج العربية موقف صلب وموحد قائم على إدراك عميق لحقائق الأزمة اليمنية، وتبني سياسة ومواقف عملية تعكس إدراكا فعليا لحجم التهديدات والمخاطر النابعة من الصراع اليمني».
وهنا، حرص الدكتور فهد الشليمي على التوضيح بأن الملف اليمني «يحتاج توحيد الجهد اليمني ككل، وهو ما شاهدناه في عمليات اليمن السعيد» على حد تعبيره. وأضاف: «نبدأ بقوات الشرعية والمساندة لها، ثم تكون هناك تفاهمات ميدانية على الأرض بحيث تسحب القوات الشرعية في حضرموت (7 ألوية) وتوجهها للحوثي وتفتح جبهات جديدة، والاستمرار في الدعم الجوي، على أن يكون هناك دعم سياسي من الجامعة العربية وهو حصل». واختتم بالقول: «هناك مسؤولية أكبر على دول البحر الأحمر المجاورة لأن هناك قرصنة وألغاماً... وهي مسؤولة عن تأمين هذا الممر الملاحي على شواطئها. كذلك من المهم التوجه إلى ميناء الحُديدة باعتبار اتفاق استوكهولم ليس ذا جدوى، والسيطرة على الميناء، ومنع الحوثي من الاستفادة من الإيرادات».



ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
TT
20

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين، في مقاربة الملفات المعقّدة والمتراكمة التي كان النظام السوري السابق كما الحكومات اللبنانية التي كان يسيطر عليها «حزب الله» تفضّل أن تبقى مجمّدة على حالها تبعاً لمصالح الطرفين. الحدود اللبنانية - السورية تمتد على طول أكثر من 375 كلم. ويُجمع الخبراء على أن تأخر ترسيمها، ووجود عوامل جغرافية واجتماعية تضاف إليها عوامل أخرى سياسية وأمنية، أمور تجعل منها «خاصرة رخوة» للبلدين، قد تشهد تجدد المواجهات العسكرية في أي وقت كان، وبخاصة أن فيها عشرات المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الأفراد والسلع والسلاح منذ سنوات طويلة.

شهد ملف ترسيم الحدود اللبنانية - السورية خلال الساعات الماضية خرقاً كبيراً بالإعلان من مدينة جدّة عن توقيع اتفاق برعاية ووساطة المملكة العربية السعودية بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ووزير الدفاع السوري مُرهف أبو قصرة، جرى فيه التأكيد على «الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية على أن يُعقد اجتماع متابعة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة المقبلة».

الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)
الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

مصادر مطلعة رأت أن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة بين البلدين «يجعل أي اتفاق أو تفاهم أمكن التوصل إليه ملزِماً للطرفين ويعطيه بُعداً أكثر جدية». وما تجدر الإشارة إليه هنا أن الجيش اللبناني ينشر 4 أفواج على طول الحدود اللبنانية - السورية بعدد عناصر يبلغ نحو 4838 عنصراً، يتوزّعون على 108 مراكز من بينها 38 برج مراقبة مجهزين بكاميرات وأجهزة استشعار ليلية، كما كان قد أعلن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أن هذا الواقع لم يحُل دون مواجهات عنيفة شهدتها هذه الحدود بدأت بين العشائر، وانضم إليها «حزب الله» قبل أن تتحوّل بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية؛ ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص في لبنان و3 من الجانب السوري.

التطورات الميدانية

المناطق الحدودية – في شمال شرقي لبنان بالذات - كانت قد شهدت، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، اشتباكات متفرقة بين مهرّبين من الطرفين. وأطلقت قوات الأمن السورية خلال شهر فبراير (شباط) الماضي حملة أمنية في محافظة حمص التي تحدّ شمال لبنان وشماله الشرقي؛ بهدف إغلاق الطرق المستخدمة في تهريب الأسلحة والبضائع. وتتهم هذه القوات «حزب الله» بأنه ينشط في رعاية عصابات التهريب عبر الحدود، وأن المواجهات المسلحة التي خاضتها على الحدود الشرقية للبنان شارك فيها عناصر الحزب بشكل مباشر. غير أن قيادة «حزب الله» نفت أي علاقة له بالموضوع.

وفي منتصف الشهر الحالي، بعد مواجهات دامية بين الطرفين على أثر اتهام سوريا عناصر «حزب الله» بدخول أراضيها وخطف وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري، دخل الجيش اللبناني على الخط بإيعاز من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون الذي أعطى توجيهاته بالردّ على مصادر النيران والانتشار في بلدة حوش السيد علي التي شهدت أعنف المواجهات. ومن ثم، أوكل الرئيس عون وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي التواصل مع السلطات السورية لحل الأزمة، قبل أن يتسلّم وزير الدفاع منّسى الملف.

الترسيم أولاًفي أي حال، يرى كثيرون أن حل الأزمة الحدودية بين البلدين تبدأ بترسيم الحدود. وحقاً، هذا ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي في عام 2006، وحمل الرقم 1680، ولحظ إلى جانب الترسيم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أكد على وجوب نزع سلاح الميليشيات. غير أن سوريا رفضت، يومذاك، القرار، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، بينما رحّب به عدد من الدول الغربية بجانب الحكومة اللبنانية.

قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)
قوات في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان (آ ب)

العميد المتقاعد خليل الحلو، الباحث اللبناني في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يرى أن «مسألة ترسيم الحدود مع سوريا ليست مسألة طوبوغرافية حصراً، إنما لها بُعد اجتماعي باعتبار أن لدى كثيرين من اللبنانيين أملاكاً في الجهة السورية من الحدود، ما يتطلب نقاشات ومفاوضات طويلة». ويلفت الحلو في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «القضية لا تُحل على مستوى وزيري الدفاع أو الجيشين اللبناني والسوري، بل تحتاج إلى مؤتمر قمة بين رئيسي جمهورية البلدين يضم وزراء متخصصين، وهي ورشة إذا ما انطلقت قد تستمر لسنوات».

وفق الحلو، فإن «تطبيق القرار الدولي 1680 مرتبط بشكل أساسي بقدرة الجيش اللبناني على الانتشار لضبط الحدود. وراهناً لديه 4 أفواج حدود برّية وعشرات أبراج المراقبة، كما يمتلك سلاح جو. وبالتالي، إذا ما كُلّف فعلياً ضبط الحدود عبر قرار سياسي واضح، لا بالكلام وحده، فهو قادر على ذلك، من دون تناسي أدوار الأجهزة الأمنية الأخرى في هذا المجال».

للعلم، تربط لبنان وسوريا 6 معابر نظامية، هي:

- معبر المصنع الذي يربط بين بيروت ودمشق من جهة البقاع الشرقي

- معبر جوسية الواقع بين بلدة القاع اللبنانية ومدينة القصير السورية

- معبر مطربا شرقي مدينة الهرمل اللبنانية

- معبر الدبوسية بشمال لبنان

- معبر تلكلخ غربي محافظة حمص، مقابل منطقة وادي خالد في عكار

- ومعبر العريضة قرب الشاطئ الذي يؤدي من شمال لبنان إلى مدينة طرطوس السورية.

أما المعابر غير الشرعية فتعدُ بالمئات.

الرؤية السورية

في هذه الأثناء، ترى جهات رسمية لبنانية، فضَّلت إغفال ذكر هويتها، أن السلطة الجديدة في سوريا «لا تبدو متحمسة أو مستعجلة» لبت الملفات العالقة مع لبنان، سواء الملف الحدودي أو ملف اللاجئين أو سواها من الملفات؛ نظراً لأن أولوياتها لا تزال محصورة بضبط الوضع في الداخل السوري، ومعالجة مئات الملفات لتسهيل أمور الناس داخل البلاد. وتشير مصادر في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود علامات استفهام حول قدرة السلطات الجديدة هناك من الإمساك بكامل الأراضي السورية وضمناً الحدود.

في المقابل، توضح السياسية والباحثة السورية - الأميركية الدكتورة مرح البقاعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الدولة الجديدة في سوريا لا تزال في مرحلة التأسيس؛ إذ لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر». ومن ثم تتطرق إلى «الكثير من القضايا والمشكلات العالقة في الداخل السوري، خصوصاً بعد سقوط نظام استبدّ بالحكم لمدة خمسين سنة ونصف السنة. لذلك؛ حتى الآن، لم يكتمل المشهد الداخلي السوري بصورته الرسمية والإجرائية».

وترى البقاعي أن «الاشتباكات عبر الحدود هي في منطقة لطالما كانت غير مستقرة لعقود. ثم أنها كانت تحت سيطرة النظام السابق في سوريا، شهدت تفاعلات معقدة، إذ كانت بعض العشائر المحلية على وفاق مع النظام الذي رحل، كما كان لها علاقات مع (حزب الله) في لبنان. هذه العشائر كانت تعمل على طرفي الحدود، وتعتمد بشكل أساسي على التهريب مصدراً للموارد».

وبحسب البقاعي، «تكمن المشكلة الأساسية في هذه المنطقة الحدودية - وتحديداً في المنطقة الشرقية - في غياب الأمن والسيطرة الفعلية، حيث تنتشر عصابات التهريب التي اعتاشت لعقود على هذه الأنشطة في ظل غياب أي تنمية حقيقية. ومع الواقع الجديد في البلدين، أتت الاشتباكات نتيجةً مباشرة لمحاولة الأطراف الجديدة فرض سيطرتها».

أما عن رؤيتها للحل، فتقول الباحثة السورية - الأميركية إنه «من الضروري البدء بوقف عمليات التهريب، لكن الحل الجذري يتطلب العودة إلى مسألة ترسيم الحدود بين البلدين. وهذا أمر معقّد وسيأخذ وقتاً؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الإقليمي ككل، وليس فقط بالحدود اللبنانية - السورية، بل يشمل أيضاً الحدود اللبنانية مع إسرائيل».

وللعلم، تعدّ مصادر نيابية لبنانية أن وضع الحدود السورية الراهن مرتبطاً إلى حد كبير بوضع الحدود الجنوبية. وتشير لـ«الشرق الأوسط» إلى «وجود قرار أميركي - إسرائيلي حاسم بتضييق الخناق على (حزب الله)، وقطع كل طرق إمداده بكل الوسائل، ومن هنا تُفهم عمليات القصف الإسرائيلي التي نشهدها للحدود الشرقية بين الحين والآخر».

ولادة متعسّرة

في الحقيقة، بعد سقوط النظام في سوريا، كانت هناك خشية لبنانية كبيرة من تفلّت أمني ينسحب على لبنان. وظلّت السلطات في بيروت تراقب من بعيد التطورات إلى أن قرّر رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي زيارة دمشق للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن اللقاء بقي دون نتائج. وعملية.

أيضاً، عُقد لقاء بين الشرع وعون على هامش القمة العربية في مارس (آذار) الحالي، شدَّدا خلاله على ضرورة ضبط الحدود بين البلدين. لكن المواجهات المسلحة التي تلت اللقاء أكدت أن الملف يتطلب معالجة أعمق وعلى المستويات كافة.

هنا لا تُنكر مرح البقاعي أن «العلاقات السورية - اللبنانية تشهد ولادة متعسّرة، سواءً في سوريا بعد سقوط النظام، أو في لبنان بعد الفراغ الحكومي الطويل. وكلا البلدين في حاجة ماسة إلى التعاون في مختلف المجالات، وأهمها المجال الأمني».

وهي ترى أيضاً أن «ما يمنح الدولة السورية الجديدة شرعية كبيرة، ويجعل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، يثق بها، هو أن بعض المجموعات التي كانت في السلطة سابقاً والمصنّفة على قوائم الإرهاب لم تعُد جزءاً من المشهد». وتتابع أن «الدول الأوروبية بدأت بالتعامل بشكل إيجابي مع الدولة الوليدة في سوريا. والسبب الرئيس لهذا التغير هو قدرة السلطات الجديدة في سوريا على إنهاء وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية في البلاد خلال وقت قياسي... وهذا إنجاز يحسب لها، ليس فقط على المستويين الدولي والإقليمي، بل أيضاً بالنسبة للشعب السوري نفسه. إذ تم تحرير سوريا، وحياتها العامة، ومجتمعها من قبضة النفوذ الإيراني، الذي تسبّب في حالة من الفساد وانعدام الاستقرار لعقود طويلة».