أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

رئيس الوزراء البرتغالي يحتفظ بالسلطة رغم صعود اليمين المتطرف

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا
TT

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

كانت القمة الأوروبية في أحرج مراحل المفاوضات حول تحديد قيمة المساعدات المالية التي ستخصص للدول الأعضاء المتضررة من جائحة «كوفيد - 19» وشروط الحصول عليها، ويومها كانت تلك المفاوضات تهدد بانفراط عقد الاتحاد المنقسم بين دول الشمال ودول الجنوب. في حينه، أطلق رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا، الذي كانت بلاده تتولّى الرئاسة الدورية للاتحاد، عبارته الشهيرة التي وصف فيها الموقف الهولندي بأنه «مثير للقرف»... وتوجّه إلى رئيس وزراء هولندا يسأله «هل تريد لبلادك أن تخرج من الاتحاد؟».
تلك كانت نقطة التحول في مسار القمة التي انتهت بالموافقة على أكبر حزمة مساعدات في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ولقد استفادت منها بشكل أساسي «دول الجنوب»، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، التي كانت الجائحة بدأت تجهد اقتصاداتها المنهكة، وتهدد بانفجارات اجتماعية وتداعيات سياسية بعيدة المدى. وبعد تلك القمة بأشهر ثلاثة قلّد الملك فيليبي، عاهل إسبانيا، رئيس الوزراء البرتغالي الاشتراكي أرفع وسام وطني إسباني تقديراً لجهوده في الدفاع عن القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي خلال الرئاسة الدورية للاتحاد.
يوم الأحد الفائت، للمرة الثالثة منذ بداية جائحة «كوفيد - 19»، ذهب البرتغاليون إلى صناديق الاقتراع بعد سقوط الحكومة التي يرأسها أنطونيو كوستا، إثر خروج حلفائه اليساريين من الائتلاف الحاكم اعتراضاً على مشروع الموازنة الذي كان أمام البرلمان.
وبينما كانت جميع استطلاعات الرأي ترجّح تكرار التوزيع البرلماني نفسه للقوى السياسية، أسفرت النتائج عن حصول الحزب الاشتراكي بقيادة كوستا على الغالبية المطلقة. وكانت هذه المرة الثانية التي يكسب الاشتراكيون الغالبية المطلقة منذ عودة الديمقراطية إلى البرتغال عام 1985 إثر سقوط ديكتاتورية أنطونيو سالازار أمام «ثورة القرنفل» التي قادها ضبّاط يساريون معظمهم خدم مع وحدات الجيش الذي كان منتشراً في المستعمرات البرتغالية السابقة في القارة الأفريقية.
هذا الفوز الساحق في البرتغال للاشتراكيين بقيادة كوستا، كان مبعث ارتياح واسع وجرعة منشطة للأوساط الاشتراكية الأوروبية التي تجهد منذ فترة لاستعادة موقعها في المشهد السياسي الأوروبي، حيث تتقدم راهناً الأحزاب الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة.

يهوى التحديات الصعبة
أنطونيو كوستا، للذين يعرفونه جيداً، رجل يهوى المعادلات والتحديات الصعبة والمعقدة، ويتمتع بقدرة خارقة على الصبر والمناورة في أحلك الظروف وأدقها. كذلك يقولون، إن هذه الصفات التي يتحلى بها رئيس الوزراء البرتغالي هي التي دفعته في العام 2015 إلى أول تجربة من نوعها في تاريخ البرتغال عندما اقترح تشكيل تحالف القوى اليسارية، تمكن من وضع الحزب الاشتراكي في موقع قيادة حكومة ائتلافية يدعمها الحزب الشيوعي، وكتلك حزب اليسار وحزب «الخضر».
يومذاك لم يراهن أحد على نجاح تلك التجربة، التي اعتبرها متابعون كثيرون ضرباً من المستحيل، ليس فقط لأنها حاولت أن تجمع بين أحزاب متضادة في مجالات عديدة، بل لأنها كانت أول مرة يتولّى فيها رئاسة الحكومة الحزب الذي لم يحصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات العامة. غير أن ما وصفته المعارضة اليمينية في حينه بعبارة «العمل الصبياني»، تحوّل إلى تجربة مثالية أثارت إعجاب الشركاء الأوروبيين واستحقت ثناءهم؛ إذ صمدت ست سنوات قبل أن ينفرط عقد الائتلاف بسبب من اعتراض الحلفاء اليساريين على مشروع الموازنة، الذي أسقط الحكومة وأدى إلى إجراء الانتخابات الأخيرة... التي أسفرت عن فوز ساحق للاشتراكيين بما يزيد على 42 في المائة من الأصوات.

مفاوض ماهر ومنفتح
يشتهر أنطونيو كوستا، في الواقع، بمهارة عالية في التفاوض كانت سلاحه الأمضى طوال الفترة التي تولّى خلالها رئاسة الحكومة. في مستهل تلك الفترة أعلن، أن في طليعة أهدافه الرئيسية: توفير الاستقرار حتى نهاية الولاية التشريعية، ورفض التوصل إلى اتفاقات مع الأحزاب والقوى اليمينية، والفوز في الانتخابات العامة التالية. وكانت السنوات الست المنصرمة، التي قاد كوستا خلالها الحكومة الائتلافية، أول مرة يتوحد فيها اليسار البرتغالي وبالتالي يتولّى الحكم... الذي ظلت تتناوب عليه القوى اليمينية والوسطية منذ 47 سنة.
من جهة ثانية، وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات الأخيرة تضمن لكوستا حريّة التحرك من دون اللجوء إلى تحالفات أو تفاهمات مع القوى البرلمانية الأخرى، حملت تصريحاته الأولى دعوة صريحة إلى الحوار. إذ قال «إن الغالبية المطلقة ليست سلطة مطلقة ولا تفرّداً بالحكم، بل هي مسؤولية تقتضي الحكم من أجل جميع المواطنين. هذه الغالبية ستكون للحوار مع جميع القوى السياسية»، إلا أنه استثنى من الحوار المقترح حزب «شيغا» اليميني المتطرف.
الجدير بالذكر هنا، أنه بعد سنتين من ظهور جائحة «كوفيد - 19»، وسقوط حكومته إثر رفض مشروع الموازنة الذي قدمته في البرلمان، وأيضاً بعد حملة انتخابية معقّدة ذهبت بعض الاستطلاعات حد التوقع بفوز الأحزاب اليمينية، يخرج أنطونيو كوستا من هذه المعركة الطويلة بصورة «الاشتراكي الذي لا يُقهر» والزعيم القادر على انتزاع الغالبية المطلقة في أخطر مراحل التشرذم الحزبي الذي تعيشه البرتغال... ومن ثم، يتولّى رئاسة الحكومة لأطول فترة منذ انتصار «ثورة القرنفل».

بطاقة هوية
ولد أنطونيو كوستا يوم 17 يوليو (تموز) من عام 1961 لعائلة مسيّسة ومثقفة. فوالدته الصحافية المعروفة ماريّا أنطونيا بايّا، ووالده الكاتب أورلاندو كوستا - المولود في موزامبيق والمتحدر من أصول هندية - . وكان الوالد من أشد المعارضين لديكتاتورية سالازار. ولقد اعتقلته الشرطة السياسية مرات عدة بسبب نشاطه في الحزب الشيوعي، الذي كان أحد قادته في المستعمرات البرتغالية. مع الإشارة إلى أن والدته كانت ناشطة يسارية أيضاً... ولكن في صفوف الحزب الاشتراكي.
ومن ثم، كان من الطبيعي في هذه الأجواء التي نشأ عليها كوستا، أن يقرّر الانتساب إلى الحزب الاشتراكي وهو ما زال في الرابعة عشرة من عمره... وأن يردّد في مناسبات عديدة جملته الشهيرة «ولدت يساريّاً».
المقرّبون من الزعيم الاشتراكي، يقولون، إن كوستا كان دائماً أكثر اعتدالاً من والده، الذي كان ينخرط معه في نقاشات سياسية طويلة «إلا أنها لم تكن نقاشات بين أب وابنه، بل بين شيوعي واشتراكي»، كما يقول عمّه خورخي سانتوس الناشط هو أيضاً في الحزب الشيوعي.
وبمرور الأيام تدرّج كوستا في مواقع قيادية عديدة داخل الحزب الاشتراكي، كان آخرها - قبل توليه رئاسة الحكومة - منصب رئيس بلدية العاصمة لشبونة من العام 2007 إلى العام 2015، والحقيقة أن ولايته في الحكم المحلي كانت محط ثناء حتى من خصومه اليمينيين. وقبل تلك المحطة، كان كوستا نائباً في البرلمان الأوروبي، ثم عيّن وزيراً للداخلية في العام 2005 ضمن حكومة جوزيه سوكراتيش (سقراط) الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي، ووزيراً للعدل والشؤون البرلمانية في حكومة أنطونيو غوتيرّيش، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة.

البدايات... والذكريات
يذكر كوستا في إحدى مقابلاته الصحافية، أن أول نشاط سياسي قام به في الثالثة عشرة من عمره غداة «ثورة 25 أبريل (نيسان)» عندما أقيلت مديرة المعهد الذي كان يدرس فيه. وحينذاك، بادر مع رفاقه إلى تنظيم حركة احتجاجية ضد القرار، واضطرت قوة عسكرية إلى التدخل بعدما احتلّ الطلاب سطح المعهد وراحوا يرمون الجنود بالحجارة.
وبعد إنهائه دراسته الثانوية، التحق أنطونيو كوستا بكلية الحقوق في جامعة لشبونة، حيث انخرط في الحركة الطلابية التي أصبح من قادتها البارزين مطلع ثمانينات القرن الماضي. وبعدما أنهى دراسته الجامعية، مارس المحاماة إلى جانب العمل السياسي لسنوات قبل أن يتفرّغ كلياً للسياسة اعتباراً من العام 1993.
وفي مضمار السياسة، يؤكد معاونوه وأصدقاؤه، أنه مثابر وحازم وماهر في إدارة المفاوضات، لكنه أحياناً «مندفع حد التهور»، ويجد صعوبة في التكيّف مع نتائج الحوار التي لا تكون حسب رغبته أو ضمن توقعاته.
مع هذا، اعتاد كوستا منذ شبابه على التعايش مع الآراء المتباينة في محيطه العائلي...بدءاً من النقاشات الحادة مع والده الشيوعي إلى الخلاف مع والدته الصحافية التي كانت ضد سياسة حكومة سوكراتيش - التي كان هو يشغل وزارة الداخلية فيها - وإلى زوجته التي خرجت غير مرة لتتظاهر ضد حكومة غوتيرّيش التي كان أيضاً وزيراً فيها. ولقد استمرّ هذا التباين في الآراء داخل العائلة إلى اليوم، خصوصاً مع شقيقه ريكاردو كوستا، الصحافي ومدير قسم الرأي في صحيفة «إكسبريسو» الواسعة التأثير في البرتغال، والذي غالباً من يوجّه انتقادات لاذعة إلى الحكومة وأدائها.
أما على الصعيد الشخصي، فإن كوستا متزوج وله ولدان، وشغفه الذي يعادل السياسة أو أكثر هو عشقه رياضة كرة القدم، وتحديداً نادي «بنفيكا» الشهير، وهو يواظب على حضور المباريات التي يخوضها «الفريق الأحمر» في البرتغال... وأحياناً في الخارج.
زوجة كوستا، تقول عنه بلهجة تحبب «أنطونيو ما زال إلى اليوم بالنسبة لأفراد عائلته يعرف بـ(بابوش) - وهي كلمة تعني الطفل بلهجة (كونكاني) في جزيرة غوا الهندية –». وكان والده أطلقها عليه بعدما رافقه في زيارة إلى الهند عندما كان ما زال يافعاً.
ووصف كوستا زيارته تلك، وخصوصاً إلى مدينة مومباي (بومباي)، بأنها «مدمّرة» لما شاهده من فقر وبؤس ومعاناة.
ولما عاد إلى غوا بعد سنوات، وكان قد أصبح رئيساً للوزراء، تذكّر والده الذي توفي عام 2006، وقال «تعلّمت عبارتين فقط بلهجة هذه المنطقة: بابوش، التي كان والدي يناديني بها، وبأبولو التي كان ينادي بها شقيقي». ورغم ما يُعرف عنه من برودة وصلابة في التعامل، ذرف الدمع وقال: «لا إنسانية رئيس الوزراء لها أيضا حدود».

إنجاز تاريخي يواجه يميناً متطرفاً
في أي حال، يشكّل هذا الفوز الأخير للاشتراكيين بقيادة أنطونيو كوستا إنجازاً تاريخياً في بلد لا يشهد عادة مثل هذه الانتصارات الساحقة، باستثناء العام 2005 عندما نال الحزب الاشتراكي أيضاً الغالبية المطلقة في البرلمان على عهد جوزيه سوكراتيش الذي يمثل حالياً أمام المحاكم بتهم الفساد واختلاس الأموال العامة. ويُذكر أنه بعدما مدّ هذا الأخير يد التعاون والحوار إلى جميع القوى البرلمانية، باستثناء اليمين المتطرف، غمز من قناة الأحزاب اليسارية المتطرفة والقوى الوسطية - التي استقطب الحزب الاشتراكي نسبة كبيرة من أصوات مؤيديها أعطته الأغلبية المطلقة -، وقال «إلى الاشتراكيين انضمّ عدد كبير من المواطنين ينتمون إلى مشارب سياسية مختلفة، بعد إدراكهم أن الحزب الاشتراكي اليوم هو الوحيد القادر على منح البلاد الاستقرار الذي تحتاج إليه في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة».
في المقابل، ورغم توقع كثير من المراقبين أن تكون هذه الولاية الثالثة لكوستا في رئاسة الحكومة البرتغالية أسهل من الولايتين السابقتين - عندما كان يحتاج إلى التحالف مع القوى الأخرى لتأمين التغطية البرلمانية لحكومته – فإن مراقبين آخرين يرجحون أن يواجه كوستا معارضة شرسة من القوى اليمينية المتطرفة.
وهنا تشير إلى أن هذه القوى حققت صعودا عاموديا خلال السنوات الثلاث المنصرمة على حساب الأحزاب المحافظة المعتدلة... حتى أنها أضحت الآن القوة البرلمانية الثالثة في البرلمان الذي كانت قد دخلته للمرة الأولى عام 2019 بمقعد واحد فقط.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.