«داعش» والإيزيديون... جرائم تنتظر محاكمات

«الشرق الأوسط» ترصد ردود فعل ضحايا القرشي على قتله قبل أن يحاسب

صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
TT

«داعش» والإيزيديون... جرائم تنتظر محاكمات

صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)
صورة أرشيفية لإيزيديين يهربون من انتهاكات «داعش» في سنجار غرب العراق (رويترز)

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن القوات الأميركية الخاصة نفذت بنجاح عملية قتل زعيم تنظيم «داعش» أبو إبراهيم الهاشمي القريشي، المعروف باسم الحاج عبد الله، في شمال غربي سوريا.
ورغم أن مقتل قريشي، يعد دفعة كبيرة لعمليات مكافحة الإرهاب الأميركية في المنطقة والحرب الأوسع ضد عودة ظهور «داعش»، فإنه حدث مؤثر بشكل خاص لأبناء المجتمع الإيزيدي.
ارتقى قريشي ليصبح نائب زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، قبل أن يخلفه في النهاية. ومع أن الدور الرئيسي الذي لعبه قريشي في تجارة الرقيق الإيزيديين والإبادة الجماعية لا يزال غير معروف، فإن الأدلة التي جمعتها «لجنة العدالة والمساءلة الدولية» توضح مسؤوليته الجنائية المحتملة عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم، بما في ذلك الاتجار بالبشر.
قُتل قريشي من دون محاكمة على الإطلاق على جرائمه المزعومة، ما يعطي دليلاً آخر على انعدام العدالة للإيزيديين، وفشل المجتمع الدولي في إجراء محاكمة دولية في هذا الشأن.
جرت أول محاكمة بتهمة الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 عندما أدانت محكمة ألمانية في فرانكفورت المواطن العراقي طه الجميلي، بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وكان قد اتهم بالتسبب في وفتاة إيزيدية شابة قام بتقييدها بالسلاسل إلى قضبان النوافذ في الشمس، ما أدى إلى موتها عطشاً.
جاءت المحاكمة يومها لتذكر العالم بالفظائع التي لحقت بالأقلية الإيزيدية، عندما انتشر مسلحو «داعش» في سنجار، موطن الأجداد الإيزيديين في شمال غربي العراق. وقد سعى ما يسمى بـ«داعش» إلى القضاء على المجتمع الإيزيدي بحملة قتل جماعي وتهجير قسري واسترقاق. وفي النهاية قُتل أو اختُطف ما يقدر بنحو 10000 من الإيزيديين بصورة بالغة الوحشية.
بالنسبة للإيزيديين، كان لحكم فرانكفورت ذلك المذاق الحلو المر في آن. فكأول إدانة بالإبادة الجماعية ضد أحد منتسبي «داعش» في أي مكان في العالم، بما يعنيه من اعتراف بالصدمة التي عانى منها المجتمع، فقد أظهر أن العدالة يمكن تحقيقها، وهي بالغة الأهمية للناجين. لكنها في المقابل سلطت الضوء أيضاً على الطبيعة البطيئة للعدالة والمساءلة، ما دفع العديد من الإيزيديين إلى الشعور بتخلي المجتمع الدولي عنهم.
- حصار سنجار
التفت العالم إلى الإيزيديين في أغسطس (آب) 2014 عندما دخل «داعش» القرى والبلدات المحيطة بسنجار. وبينما كان المسيحيون والعرب والأكراد يعيشون في المدن والقرى التي تعرضت للنهب، فإن الإيزيديين وحدهم من جرى إخطارهم بالعقاب دون غيرهم. وبعد اضطهادهم باعتبارهم عبدة شيطان، أطلق «داعش» حملة لتطهير المنطقة ممن يسمون «الكفرة». مع تقدم «داعش»، إلى قوات البشمركة الكردية العراقية عن نقاط التفتيش، حاول الإيزيديون الدفاع عن أنفسهم، وفرّ العديد منهم إلى المناطق الكردية وأصبحوا نازحين. الغالبية لا تزال هناك اليوم، عاجزة عن العودة إلى ديارهم، فيما فر آخرون إلى المنحدرات العليا لجبل سنجار، الذي لطالما كان ملاذاً لمجتمع حفل تاريخه بالاضطهاد والعنف. وبينما كان العالم ينظر في رعب، حاصر «داعش» الإيزيديين الذين حرموا من إمدادات المياه مع ارتفاع درجات الحرارة، ليلقى المئات من المسنات والأطفال حتفهم بسبب الجفاف.
الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أعلن أن هجوم «داعش» إبادة جماعية وتم إجلاء الآلاف من الإيزيديين في نهاية المطاف من الجبل على يد القوات الكردية بتغطية جوية أميركية، فيما حوصر من تبقى منهم من قبل «داعش». جرى فصل الرجال عن النساء، وتم إعدام بعض الرجال على الفور، وفي حالات أخرى، تم اصطحابهم بعيداً ولم يسمع شيئاً عنهم مرة أخرى. ووُضع بعض الأولاد الأصغر سناً أمام خيار التحول إلى نسخة «داعش» من الإسلام وسط مقاتلي «داعش» في القرى الشيعية سابقاً. وجرى نقل النساء والفتيات لاحقاً إلى غرف المشاهدة وفتح أسواق العبيد لبيعهن كرقيق للاستغلال الجنسي من قبل مقاتلي «داعش» ضمن نظام منضبط للغاية.
- البحث عن المفقودين
وفي حين يُعتقد أن العديد من الإيزيديات لقين حتفهن أثناء القتال خلال فترة وجودهن في الأسر، فإن من المعتقد أيضاً أن العديد منهن ما زلن على قيد الحياة. ويُعتقد أنهن يعيشن مع عائلات مرتبطة بـ«داعش» في العراق أو سوريا، غالبا في مناطق خارج سيطرة الحكومة، ما يجعل الاتصال بهن أو إنقاذهن أمراً صعباً. وفي أغسطس 2021، تم إنقاذ إيزيديتين على قيد الحياة في محافظة دير الزور بعد أن أمضتا وقتاً في التنقل بين المنازل في سوريا.
يُعتقد أن بعض الإيزيديين يقيمون في معسكر الهول، الذي يضم أفراداً من عائلات مقاتلي «داعش» وآخرين تم أسرهم بعد سقوط ما يسمى مناطقهم. ويعتبر الوصول إلى المخيم للبحث عن الإيزيديين المفقودين صعباً، ولكنه ليس بالمستحيل، فقد شهدت حملة أطلقتها منظمات مختلفة في سبتمبر (أيلول) الماضي ضغوطاً من أجل القيام بعملة بحث رسمية لتحديد أماكن وجود النساء والأطفال المفقودين، بما في ذلك هذا المعسكر.
وفي ديسمبر (كانون الأول) جرى توجيه نداء من 17 دولة لتسليط الضوء على ما يقرب من 2800 من النساء والأطفال الإيزيديين المفقودين. وحتى الآن لم يجر إطلاق أي بحث تقوده الحكومة للعثور عليهم، كما لم تكن هناك جهود منهجية من قبل السلطات العراقية لفحص الأطفال المحتجزين في معسكرات مثل «الهول» و«روج». والآن لا يزال الجميع ينتظر عملاً ملموساً بشكل عاجل.
دفع فشل المجتمع الدولي الناس العاديين إلى العمل. وتكريساً لجهود العثور على الفتيات المفقودات، أسس نشطاء متفانون شبكة من المخبرين في سوريا لإنقاذ الإيزيديين المخطوفين. يعتبر عبد الله شريم أحد هؤلاء، بعد احتجاز 56 شخصاً من عائلته. كانت أول من عاد ابنة أخته مروة في نهاية عام 2014، وبمساعدة مهربي السجائر، تمكن شريم من تحديد مكانها في الرقة وإنقاذها. وعندما اكتشفت العائلات الأخرى ذلك، بدأوا في الاتصال بشريم بشكل محموم.
قال شريم: «جاءوا إليّ وطلبوا إنقاذ ذويهم المختطفين. لقد أنقذت الكثيرين وأنشأت مجموعة كبيرة لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس. فحتى اليوم، أنقذت 399 شخصاً، ولديّ كل أسمائهم وتواريخ إنقاذهم والأماكن التي تم إنقاذهم منها لأنني أريد دعم عملي بالأدلة».
ولتحديد مكان الفتيات، قام شريم بتنسيق شبكة معقدة من المتطوعين في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك الممرضات وجامعو القمامة والنساء اللواتي يتنقلن من منزل إلى آخر لبيع الملابس والخبز.
شأن العديد من الإيزيديين، يشعر شريم بخيبة أمل من
المجتمع الدولي لفشله في إنقاذ أولئك الموجودين على جبل سنجار، ولعدم بذل أي جهد جاد لتحديد مكان الفتيات والنساء المفقودات في السنوات السابقة.
استطرد شريم قائلاً: «منذ بداية عام 2014 وحتى نهايته، لم يكن للمجتمع الدولي والحكومات المحلية حضور. لقد أنقذنا العديد من الفتيات والنساء المخطوفات حتى قبل إنشاء مكتب غير رسمي في الرقة لهذا الغرض. لو كان هناك دعم دولي أو محلي، لكنا أنقذنا مجموعات كبيرة كانت قريبة في مناطق مثل تلعفر والموصل. فقد شعرنا بالتخلي عنا، ولا يزال هذا الشعور ينتابنا».
- حواجز العودة
من بين 12000 إيزيدي فُقدوا، تم تحديد 5000 قتيل وإنقاذ بضعة آلاف، ما يعني أن ما يصل إلى 4000 لا يزالون في عداد المفقودين. ولا تزال العديد من المقابر الجماعية في سنجار في انتظار نبشها، حيث تخشى آلاف العائلات الأسوأ فيما يتعلق بأحبائها المحتمل وجودهم تحت ترابها. هناك نحو 200 ألف إيزيدي آخر يقبعون في معسكرات المشردين في كردستان العراق، غير قادرين على العودة إلى ديارهم بسبب نقص الضمانات الأمنية. لم يعد هناك مكان للعيش فيه، حيث إن سنجار والقرى المحيطة بها باتت خراباً إلى حد كبير. لم يتغير شيء يذكر منذ طرد «داعش» في عام 2014، حيث تجوب القوات العراقية والكردية المنطقة، وكذلك الميليشيات الشيعية، بينما تشن تركيا بانتظام غارات جوية ضد المسلحين الأكراد المشتبه في أنهم يختبئون في سنجار، في وضع يتعارض مع اتفاق وقعته حكومتا كردستان والعراق عام 2020 لاستعادة الاستقرار في المنطقة.
تعتبر هذه الصفقة واحداً من عدة تعهدات من قبل الحكومة العراقية لم تؤت ثمارها بعد. ففي العام الماضي، أقر العراق قانون الناجين الإيزيديين، الذي اعترف بالجرائم ضدهم على أنها إبادة جماعية، ووعد بأرض واعدة وتعويضات وفرص عمل متزايدة للناجين. ورغم أن تمرير القانون كان بالغ الأهمية، فقد جاء التقدم بطيئاً بالنسبة للناجين الذين لا يزالون في الغالب يعيشون من دون منازل أو وظائف أو أي مظهر من مظاهر الاستقرار.
- ماذا بعد؟
يتوقع إيزيديون أن يشجع المجتمع الدولي بغداد وحكومة كردستان على وضع جدول زمني واضح واتباعه لتنفيذ اتفاق سنجار يتمحور حول احتياجات المجتمع الإيزيدي. فإذا كان الرئيس الأميركي بايدن جاداً بشأن سياسة خارجية تركز على حقوق الإنسان، فيجب أن تكون مساعدة المجتمع الإيزيدي أولوية. بعد ذلك يجب على المانحين الدوليين الرئيسيين والحلفاء العراقيين الاستثمار في إعادة الإعمار الشامل في سنجار، لتمكين العودة الآمنة للإيزيديين النازحين لأن مخيمات النازحين ليست حلاً دائماً.
في هذا الصدد، قال عابد شمدين، المدير التنفيذي لـ«مبادرة ناديا» (جمعية غير ربحية مكرسة لإعادة بناء المجتمعات الممزقة والدفاع عن الناجين من العنف الجنسي): «لا يمكن تحقيق التقدم واستدامته إلا من خلال استقرار الأمن والحكم المحلي الذي يسمح لمجتمعات سنجار، مثل الإيزيديين، بأن يكونوا أصحاب مصلحة متساوين في استعادة وطنهم وإدارته الديمقراطية».
وأضاف شمدين: «أدى التهجير الإيزيدي المطول إلى ارتفاع معدلات الانتحار وزواج الأطفال وحالات العنف ضد المرأة، وهذه المعدلات يمكن تخفيفها من خلال توفير مسار للعودة إلى منازل آمنة ودائمة مع إمكانية الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والعمل في سنجار».
تعمل «مبادرة ناديا» على تطوير مشروع لإنقاذ الآلاف من النساء والأطفال الإيزيديين المفقودين، عبر إنشاء قاعدة بيانات شاملة للمفقودين ووضع الأساس لإنقاذهم وجمع شملهم مع عائلاتهم. وتعتبر المبادرة الأولى من نوعها في المنطقة، ويجب أن تكون مدعومة بتمويل دولي ودعم لوجيستي. وختم شمدين قائلاً: «رغم أننا، بوصفنا منظمة غير حكومية دولية، غير قادرين على المشاركة في الإنقاذ الفعلي لأولئك المفقودين، فإن أملنا هو دفع العراق وكردستان والمجتمع الدولي لبذل المزيد من الجهود. في النهاية، نريد أن يعرف هؤلاء النساء والأطفال أنهم لم يُنسوا».


مقالات ذات صلة

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

الولايات المتحدة​ أحمد الشرع مجتمعاً مع رئيس حكومة تسيير الأعمال محمد الجلالي في أقصى اليسار ومحمد البشير المرشح لرئاسة «الانتقالية» في أقصى اليمين (تلغرام)

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

وجهت الإدارة الأميركية رسائل سريّة الى المعارضة السورية، وسط تلميحات من واشنطن بأنها يمكن أن تعترف بحكومة سورية جديدة تنبذ الإرهاب وتحمي حقوق الأقليات والنساء.

علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا تدخل منبج (إعلام تركي)

عملية للمخابرات التركية في القامشلي... وتدخل أميركي لوقف نار في منبج

يبحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تركيا الجمعة التطورات في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي مواطنون من عفرين نزحوا مرة أخرى من قرى تل رفعت ومخيمات الشهباء إلى مراكز إيواء في بلدة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة (الشرق الأوسط)

ممثلة «مسد» في واشنطن: «هيئة تحرير الشام» «مختلفة» ولا تخضع لإملاءات تركيا

تقول سنام محمد، ممثلة مكتب مجلس سوريا الديمقراطي في واشنطن، بصفتنا أكراداً كنا أساسيين في سقوط نظام الأسد، لكن مرحلة ما بعد الأسد تطرح أسئلة.

إيلي يوسف (واشنطن)
المشرق العربي مقاتلون من المعارضة في حمص يتجمعون بعد أن أبلغت قيادة الجيش السوري الضباط يوم الأحد أن حكم بشار الأسد انتهى (رويترز)

«داعش» يعدم 54 عنصراً من القوات السورية أثناء فرارهم

أعدم تنظيم «داعش» 54 عنصراً من القوات الحكومية في أثناء فرارهم في بادية حمص وسط سوريا، تزامناً مع سقوط الرئيس بشار الأسد.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي عنصر من المعارضة السورية المسلحة في حمص يحتفل بدخول العاصمة دمشق (إ.ب.أ)

الأردن ومخاوف من خلط أوراق المنطقة والخشية من فوضى سوريا

يبدي أمنيون أردنيون مخاوفهم من عودة الفوضى لمناطق سورية بعد الخروج المفاجئ للأسد إلى موسكو، وان احتمالات الفوضى ربما تكون واردة جراء التنازع المحتمل على السلطة.

محمد خير الرواشدة (عمّان)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.