«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

الروائي الكويتي طالب الرفاعي يكتب عن العنف والإرهاب والتطرف الديني

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية
TT

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

في كتاب الروائي الكويتي طالب الرفاعي «مبادئ الكتابة الإبداعية»، خلاصة واعية لفهمه وإدراكه الجيد، وإحاطته بمبادئ كتابة الرواية، من وجهة نظره الخاصة، والتي تتفق أحياناً مع المألوف من القواعد العامة، وتفترق في أحيان أخرى؛ لأن «كل رواية هي عالم مستقل بنفسه، ولكن في الثابت الآيديولوجي الذي يحكم مسارها».
ها هي بعض سمات وعي طالب الرفاعي لنظرية الرواية، كما شرحها في كتابه المشار إليه، وأنقلها بتصرف:
«تُكتب الأعمال السردية للتأثير على وعي القارئ ومشاعره وقناعاته وسلوكه» (ص47). و«الخيال هو الحاضر الخفي، والمحرك الأساسي لتوصيل الأفكار للقارئ» (ص47). و«التشويق عبر وضع البطل أمام موقف مأزوم أو مشكلة، وبحث البطل عن مخرج» (ص63). و«صيغة ضمير المتكلم تولد حميمية بين القارئ والنص المقروء» (ص95). و«الرواية بوصفها كتابة نثرية أدبية لحكاية، لا بد لها من أن تحمل رؤية، وتنطوي على موقف المؤلف حيال قضايا الإنسان العادلة وقضايا العالم» (ص 102 و103). و«الشخصيات هي محور المعاني الإنسانية، ومدار الأفكار العامة للعمل الروائي» (ص 120).
يستمد حدث الرواية جذره الأساس من واقع الحياة؛ لكنه يأتي محمولاً على وعي وموهبة وخيال الكاتب، ولغته وخبرته وصنعته. وكل عمل روائي يمكن تلخيص حكايته بكلمات قليلة مهما كان حجم العمل. رائعة هيرمان ملفل الملحمية الخالدة «موبي ديك»، ما هي سوى رحلة صيد بحرية للحوت الأبيض، وهي رواية كبيرة كما هو معروف!
والناقد الذي يحلل ويفسر ويكشف عن أبعاد ومضامين عمل روائي أمام قارئ محتمل، مطالب بفضح الجانب الأساس من حكاية العمل، كي يبدو المقال النقدي مفهوماً، ولربما يصادر هذا الأمر من إقبال القراء على قراءة العمل، ولكن لا خيار من ارتكاب هذا الإثم. رواية «خطف الحبيب»، تنبني في مجملها على حادثة خطف الشاب الكويتي «أحمد الشراع» من قبل فصيل إسلامي متطرف، بعد أن التحق الشاب بمجموعة مقاتلة في سوريا بذريعة الجهاد ووازع الإيمان بالحق، وخصوصاً أنه صار أميراً للجماعة بلقب كبير، هو «أبو الفتح الكويتي»، وعناء الوالد «يعقوب الشراع» الفاحش الثراء، ومكابدته المرهقة وضنكه وحلمه الأبوي في استعادة ولده، ولو بدفع فدية مالية هائلة، وهواجسه الثقيلة من احتمال فقد ابنه وضياعه.
لماذا إذن يقضي الروائي السنوات الطوال منعزلاً ومنكَباً على كتابة رواية من مئات الصفحات المحشوة بنبض حيوات الشخصيات، وتشريح دوافعهم وأفكارهم ومشاعرهم وتناقضاتهم، وحشد الأسرار والتفصيلات، ووصف البيئات والظروف، وما تفعله المصادفات والأقدار، ما دمنا نستطيع تلخيصها بكلمات قليلة؟ الجواب الوحيد هو: لعبة الفن والسرد والغواية والإدهاش والإمتاع، وقبل ذلك وبعد، من أجل كل تلك السمات والغايات والأهداف التي استعرتها من وعي «طالب الرفاعي» لنظرية الرواية، والتي نوهنا عنها أعلاه.
بواكير الفن الحكائي تعزى للعبد اليوناني «إيسوب» الذي عاش بين عامي 620 و560 ق.م، وسيبقى أصلها ضارباً في تربة الحياة في سكونها وصخبها، وما بقيت مخيلة البشر تلاحق عودة «أوليس» إلى دياره، ولعل ذلك هو الذي جعل «وليم فوكنر» يقول حين سُئل عن مستقبل الرواية: «أتصور أنه ما دام الناس يقرأون الروايات، فإن الناس سيظلون يؤلفون الروايات».
متن الرواية
عملتُ في الصحافة الثقافية الكويتية لأكثر من ربع قرن، وتسنى لي قراءة معظم أعمال القاص والروائي «طالب الرفاعي» وغيره من أدباء الكويت، وأستطيع وصف مغزى مجمل أعماله الأدبية، والروائية على وجه الخصوص، بأنها «أدب موقف»، وأعني بذلك أنه يتكئ على رسالة سياسية واجتماعية تقدمية حضارية لأدبه، حتى في قصصه القصيرة المبكرة، حين اشتغل على منظومة الحب، والتي حرص على ربطها بإطار محلي اجتماعي وإنساني.
ورواية «خطف الحبيب» لا تخرج عن هذا الهم الإنساني والاجتماعي والثابت الآيديولوجي المتشابك مع الذاتي كما ذكر إلياس خوري، وكما ارتأى «طالب الرفاعي» لأدبه المكتوب أن يكون وفقاً للسمات التي حددها لأعماله السردية، ولا تعني الآيديولوجيا التموضع والانتماء لحزب أو تيار، والتمترس وراء شعارات؛ بل تعني «المفكورات»، حسب ترجمة الدكتور علي زيعور.
فرواية «خطف الحبيب» كُتبت لإقناع القارئ الكويتي والعربي وصوغ وعيه، بعيداً عن العنف والسلاح والتقاتل، وفق تركيبة واقعية حقيقية معجونة بجماليات التخييل، وبأسلوب وسياق فيه الكثير من التشويق الذي يمسك بدهشة القارئ، ومحبوكة بشكل اتفق النقاد على تسميته برواية تعدد الأصوات، عبر بوح الشخصيات بضمير المتكلم. ويتطرق النص إلى قيم ومفاهيم ومفكورات جليَّة حول ما يدور حولنا من آراء وقضايا ومشكلات وأحداث إنسانية، وتمس ذاكرة إنسان من لحم ودم، يتمثل عند الروائي بشخصية كيانية، يكاد يكون وجودها ملموساً وحياً ومألوفاً، وكل هذه الخلطة مروية بلغة مأنوسة وسهلة ومعبرة لا تستعلي على القارئ؛ بل تجعله شريكاً ورائياً ومتورطاً في أحداث ووقائع الرواية مثل أبطالها تماماً. ولأن القضية الأكثر سخونة في عالمنا العربي هي الصراعات المسلحة والإرهاب والمذهبية والتناقضات القائمة بين الفكر العقلاني الإنساني والتطرف الديني الشديد، فقد جازف «طالب الرفاعي» للخوض في هذه المسألة الشائكة؛ لأنه ابن الحاضر، ويكتب رواية حداثية، قلت عنها إنها رواية موقف، ورواية سياسية بنكهة بوليسية.
الثيمة الرئيسية
«أحمد الشراع» المخطوف من حضانة أبيه، كان ضحية لفكر أستاذه «عمر» في المدرسة، ولتربية خاله «عثيمان» الدينية المتزمتة، والذي يدير أعمال أبيه، والذي كان يمول الجماعة المسلحة ويرعاها سراً، وقد تعاون الاثنان على إقناعه برفض حياة أسرته الباذخة، ومقاطعة المال الحرام السحت الذي في حوزة والده «يعقوب الشراع» والمخزنة في البنوك الربوية، وعدم قبول مظهر أخته غير المحجبة وسلوكها المديني الزائف، والتوقف عن مشاهدة التلفزيون لأنه منكر، واستهجان توظيف طباخة نصرانية في البيت، وكلاهما زيَّنا له فضيلة التقشف، وفيما بعد دفعاه للهجرة لمناكفة الكفر والوقوف حيث وقف السلف الصالح، والثالث كان إمام المسجد «عبد الشافي محمد»، وكان قرار اليافع والمراهق «أحمد» بالانضمام إلى جماعة أصولية مسلحة سبب شقاء أسرته، وعذابه الجسدي والنفسي عند خاطفيه، وهي الثيمة الرئيسة للرواية. فهل كانت هذه الثيمة كل ما في جعبة الروائي «طالب الرفاعي»؟ لا، فقد كان في الجعبة الكثير من المسائل والمظاهر والمشاعر والنقائض والتوترات والتفاصيل المسكوت عنها في المجتمعات العربية.
أصوات هامشية ومشكلات مجتمعية
يتناوب على السرد صوت «يعقوب الشراع» المواظب على الصلاة، والدارس في أميركا، وله حصة الأسد في الرواية؛ لأنه الشخصية المطلقة في العمل، وصوت زوجته «شيخة» الموظفة الحكومية السابقة والمتقاعدة، وصوت «فرناز قرمزي» الإيرانية الشيعية الموظفة في إحدى شركات «يعقوب»، والتي أيقظت مشاعره بقصة عشق لاهبة، وصوت «أحمد» المطابق في لغته للغة الأسلاف، وصوت الخال «عثيمان». وهناك عديد من الشخصيات المكملة للإطار العائلي والمجتمعي، ولكنها شخصيات هامشية لا تأثير لها على مجريات الأحداث، باستثناء «رضا قرمزي» شقيق «فرناز» المولود في الكويت، وضابط الشرطة الإيراني الذي يساعد «يعقوب» في رحلته الشاقة إلى الحدود الإيرانية الأفغانية، لدفع الفدية والتفاوض مع الخاطفين. وقفات الروائي في عمله لا تكتفي بتقصي أعماق المجرى العريض للحدث الرئيس وخلفياته وأجوائه؛ بل تتجاوزه إلى حالات اختطاف نفسية وفكرية مجتمعية غير قابلة للدحض، تنساب ضفافها مع المجرى.
وتناول الكاتب أيضاً بعض المشكلات المحلية المجتمعية، وهي مشكلات عامة، منحت النص نكهة الواقع المعيش والمتعة في متابعة السرد: مسؤولية الأبوين في انحراف الأولاد بسبب الإهمال أو الدلال الزائد. وتفسخ العلاقة الزوجية التقليدية التي ترسمها الأعراف والتقاليد (علاقة يعقوب بشيخة) وغير الممهورة بعاطفة الحب. والإسراف المفرط والبذخ المادي غير المعقول: سائق وخادمة لكل فرد في الأسرة الواحدة. وشوائب العلاقات بالوافدين ومسألة الكفيل وحقوق الإنسان (مسألة مزمنة لدى الكاتب منذ نشر «أبو عجاج طال عمرك»). والعشق المتأخر والخروج من بوتقة الضجر وأوهام استعادة الشباب دوائياً (الفياغرا). وغير هذه المظاهر الكثير: معنى التدين («أحمد» يعاتب والده لغياب المُصلَّى في شركاته ومكاتبه)، والبرود الجنسي، والمذاهب وحواجزها، والحلال والحرام في الأعمال التجارية، وتعدد الزوجات، وزواج المتعة، والعذرية وهواجسها. وهذه المنمنمات الكويتية وتواتر ذكرها في السياق السردي عبر المونولوغ الداخلي أو الحوار أو الاسترجاع، والمنقولة بوساطة لغة الحياة اليومية السليمة كما يفرض الحدث، ووحده التداعي الحر في صوت «أحمد الشراع» تصبح اللغة على لسانه كما تفترض المدونات الإسلامية.
ومن هنا، فإن رواية «خطف الحبيب» هي خلاصة لعمل دؤوب ومسؤول وجاد وشجاع، وخصوصاً بقلم كاتب خليجي؛ حيث إنها تتناول بذكاء ورصانة قضية الإرهاب المعقدة التي أوهنت الأمة ومزقت حضورها وفرقت الرأي حولها، واستحضرت قضية معاصرة ساخنة تتعلق بدور الإسلام السياسي في الحراك الفكري والاجتماعي، في إطار حكائي موجه ورسالة صريحة لإدانة العنف والحرب، والذهاب بالمجتمع نحو العدالة والعقلانية، بسند ودعم من الوعي المعرفي والأخلاقي. وليس من الغريب بعد ذلك أن تصل الرواية إلى القائمة الطويلة لـ«جائزة الشيخ زايد»، وتقدير أمارة الشارقة لصاحبها بوصف «شخصية العام الثقافية». إنها رواية تؤكد تطابق الوعي النقدي لنظرية الرواية وأطروحاتها عند الكاتب، مع المثال البنيوي والشكلي لروايته.

- كاتب سوري



مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان
TT

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان

استطاع الشاعر البحريني مهدي سلمان أن يترك بصمة بارزة على خريطة الشعر في بلاده عبر عدد من دواوينه الشعرية التي تتميز بتراكيب بصرية جريئة ولغة مشحونة برؤى جديدة. صدر ديوانه الأول «ها هنا جمرة وطن، أرخبيل»، 2007، لتتوالى بعده أعماله التي لفتت الأنظار لموهبته الكبيرة؛ مثل «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، و«لن أقول شيئاً هذه المرة»، و«لا شيء يحدث ولا حتى القصيدة».

ومن الشعر تمتد تجربته الإبداعية إلى المسرح بقوة، حيث شارك ممثلاً في نحو 20 مسرحية؛ منها «اللعبة»، و«المستنقع»، و«الوهم»، كما أخرج مسرحيتي «مكان ما»، و«التركة»، وحصد جوائز مرموقة في المهرجانات الفنية المتخصصة... هنا حوار معه حول تجربته وهمومه الأدبية:

* لنبدأ بثنائية الشعر والمسرح في تجربتك، فالقصيدة، على الأقل في تصور العامة، فن ذهني ساكن، في حين أن المسرحية فن بصري حركي... هل ثمة تناقض بين النوعين؟

-هنالك بالتأكيد اختلافات بين كتابة القصيدة وكتابة المسرحية، لكن هذا الاختلاف لا يرقى ليكون تناقضاً، إن الأجناس الأدبية اليوم تستقي من بعضها، وتتجاور بكل هدوء، فيأخذ الشعر الحالة الدرامية من المسرح، ويأخذ المسرح الحالة التأملية الرائية من الشعر، وتنهل الرواية والقصة من مظاهر هذا وذاك. وعموماً لم يكن الشعر يوماً فناً ساكناً، على الرغم من كونه ذهنياً، فلطالما احتوى الشعر على صراع عنيف بين الأفكار والمشاعر، وهذا الصراع أهم سمات المسرحية. وكذلك لم تكن المسرحية دائماً فناً حركياً، فلقد استخدم كتّاب المسرح في كثير من تجاربهم طرق وأساليب التأمل الشعري لإنتاج الحدث. فعل ذلك كتّاب مسرح العبث؛ مثل يونسكو، وبيكيت، وكذلك تجارب توفيق الحكيم المسرحية الذهنية، وقبلهم استغل كتاب المسرح الكلاسيكي الحوار الداخلي والمناجاة من أجل الاقتراب من روح الشعر في المسرح.

* أيهما أسبق في إثارة ولعك ووجدانك، القصيدة أم المسرحية، وكيف أثرت إحداهما على الأخرى من واقع تجربتك؟

- لا أتذكر بالتحديد أسبقية شكل على آخر، لقد كان الشكلان ينموان معاً في تجربتي، ويتبادلان الأهمية والتأثير، وكذلك يتساقيان الفهم من التجارب المختلفة. ولطالما كان الشعر قريباً من المسرح والمسرح قريباً من الشعر، منذ سوفوكليس حتى شكسبير. ولطالما كانت الكتابة لأحدهما تغترف من تقنيات الشكل الآخر، ومن أدواته وإمكاناته، ليس على مستوى الممارسة في الكتابة فقط، إنما كذلك في آلية تحليل وتفسير وتقليب الأفكار والعواطف والقضايا، لا يمكن للكاتب أن يقول أين يكمن هذا التأثير، وكيف، لكنني أومن أنه موجود في الكتابة للشكلين، وفي التمثيل والإلقاء على السواء.

* لنتحدث قليلاً عن فكرة «الجمهور» فهي حاضرة بقوة أمامك بصفتك ممثلاً يصعد إلى خشبة المسرح، لكن كيف تتمثلها بصفتك شاعراً؟

* لو سألتِ أي ممثل على المسرح كيف ترى الجمهور، لقال لك إنه لا يراه، حضور الجمهور في المسرح هو حضور فكرة، فحين تظلم القاعة، ويصعد الممثل على الخشبة لا يرى أمامه إلا الظلمة التي فيها ومن خلالها يدخل ويخرج من وإلى الشخصية، أظن فكرة الجمهور في الكتابة تشبه هذا، ظلمة لا تتبينها، لكنها أمامك، تدخل نحوها شخصاً، وما إن تخطو فيها حتى تصير شخصاً آخر.

* ماذا عن موضوع «التطهر» بوصفه وظيفة قديمة في التراجيديا الإغريقية... هل يمكن أن تصنع قصيدة النثر حالياً حالة شبيهة وتخرج الانفعالات المكبوتة داخل القارئ، لا سيما الخوف والشفقة؟

- بقدر الخلاف على معنى محدد لمفهوم مصطلح التطهر أو التنفيس، لا يمكن القطع بإمكانية شكل ما شعري أو سواه في حيازة نتاج هذا المفهوم، فهو موجود في جميع الأشكال - الشعرية وغيرها - كما في المسرح، بنسب مختلفة. إنه جزء من صنع الفن، طالما أن الفن جزء منه يخاطب العقل والقلب والمشاعر والأفكار الإنسانية، فهو فعل تطهّر أو تطهير، وكذلك في المقابل هو فعل تلويث كذلك، أو فلنقل هو فتح للجروح المختلفة، لكن في كل ذلك، هو نتاج الفاعل لا الفعل نفسه، الشاعر لا شكل القصيدة، الكاتب المسرحي، لا نوع المسرحية.

وبقدر ما يبحث الشاعر أو المسرحي أعمق، ويقطع أكثر، بقدر ما يطهّر، نفسه، قارئه، شخصياته، أو أفكاره وعواطفه، وهو في كل ذلك ليس فعلاً قصدياً دائماً، إنما هو نتاج إما لشخصية الكاتب، أو للظروف المحيطة به، لذلك فهو يظهر في فترات تاريخية بعينها بشكل أوضح وأجلى، وقد يخبو في فترات أخرى، تبعاً لقدرة المجتمعات على فتح جروحها، أو على الأقل استقبال هذا النوع والشكل من الفعل الفني.

* على مدار أكثر من نصف قرن، لم تحصد أي جائزة أو تنال تكريماً بصفتك شاعراً، لكنك في المقابل حصدت عدداً من الجوائز والتكريمات بصفتك ممثلاً مسرحياً... كيف ترى تلك المفارقة؟

- يعود ذلك إلى مفهوم الجائزة فيما بين الشكلين، والخلل الكبير في شكل الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، الجوائز لا ينبغي أن تُطلب، إنما تُعطى نتيجة لفعل ما أو جهد ما، هذا يحدث في المسرح الذي هو عمل جماعي، فالمؤسسة القائمة على المسرحية هي التي تتقدّم لمهرجان ما، أو جائزة ما. وعندها يحصد ممثل أو كاتب أو مخرج جائزة على جهده في هذا العمل بعينه، فيما على الكاتب أن يتقدّم بنفسه لطلب جائزة أو تكريم لديوان أو قصيدة، وهذا خلل بيّن في ضبط مصطلح جائزة، أو تكريم، أو حتى مسابقة. الأجدى أن تكون هناك مؤسسات، إما دور النشر، أو الوكالات الأدبية، هي التي تمحّص أعمال الكتّاب، وتنتقي منها ما يتقدّم للجائزة، أو المسابقة، وذلك من أجل ضبط عملية خلق المعايير في الساحة الأدبية، لكن وبما أننا في بيئة فاقدة للمعايير، فالتقدّم للجوائز الأدبية، يرافقه في أوقات كثيرة تشويه لدور الكاتب أو الشاعر، أين يبدأ وأين ينتهي.

* تقول في ديوانك «أخطاء بسيطة»:

«كل الذين لمست أصابعهم في الطريق

تماثيل شمع غدوا

كل من نمت في حضنهم خبتوا

واختفوا».

من أين يأتي كل هذا الإحساس العارم بالعدمية والخواء، وكأن الحميمية تعويذة ملعونة تلقيها الذات الشاعرة على الآخرين؟

- لا يمكن اقتطاع أبيات شعرية لتشكل معنى عاماً في تجربة ما، بالتأكيد هنالك عدمية تظهر أحياناً في أحد النصوص، لكنْ في مقابلها معان أخرى، قد تناقضها. الشعر فعل مستمر، تحليل دائم، وتدفق في مشاعر قد تكون متناقضة بقدر اختلاف أزمان الكتابة أو أزمان التجارب، لكن إن كنا نناقش هذه التجربة خاصة، هذا المقطع من هذا النص تحديداً، عندها فقط يمكننا أن نسأل، بالتأكيد ثمة لحظات في حياتنا نشعر خلالها بالانهزام، بالعدمية، بالوحشة، ونعبّر عن تلك اللحظات، ومن بينها تلك اللحظة في النص. ويأتي هذا الشعور بالتأكيد من الخسران، من شعور مغرق في الوحدة، وفقدان قدرة التواصل مع آخرين، إنها لحظات تنتابنا جميعاً، ليست دائمة، لكن التعبير عنها يشكّلها، بحيث نكون قادرين على مساءلتها، واختبارها، وهذا هو دور الشعر، لا البحث عن السائد، إنما وضع الإصبع وتمريره بحثاً عن النتوءات أو الحفر، لوصفها، لفهم كيف تحدث، وماذا تُحدِث.

* ينطوي عنوان ديوانك «غفوت بطمأنينة المهزوم» على مفارقة تبعث على الأسى، فهل أصبحت الهزيمة مدعاة للطمأنينة؟

- الهزيمة في معناها العام ليست فعلاً سلبياً دائماً، إنها التراجع كذلك، أو فلنقل العلوّ، رؤية المشهد بشكل آخر، من أعلى كما أراها، خلافاً للمنهمك فيه والداخل فيه. لذلك فإن الطمأنينة التي ترافق هزيمة كهذه هي طمأنينة المتأمل، أن تخرج من ذاتك أو تنهزم منها، لتحاول أن تجد طمأنينة ملاحظتها، والبحث فيها، وفهمها. أن تنهزم من تجربة ما وتتراجع عنها، لتجد لأسئلتها أجوبة، وأن يرافق هذا البحث طمأنينة الخروج والمغادرة، حتى لو كانت هذه المغادرة وقتية وليست تامة.

* في ديوان آخر هو «موت نائم، قصيدة مستيقظة»، هل أصبح الشعر المقابل الفعلي للموت؟

- ليس مقابلاً، إنما معطى آخر، ليس نقيضاً أو معاكساً، بل هو رفيق وصاحب يفعلان أفعالاً عكسية للتوافق والتوازن، وليست للمناكفة والمعاداة. تستيقظ القصيدة، لا لتلغي الموت، أو تنهيه، إذ لا يمكن إنهاء الموت، أو إماتته، لأن في موت الموت موت للحياة كذلك. لكنها تستيقظ في اللحظات التي يقف فيها في الخلف، تستيقظ لأجل أن ترى، وتبصر، وتصنع، وتحاول أن تتكامل معه من أجل الخلق نفسه، والولادة نفسها.

* كيف ترى الرأي القائل إن قصيدة النثر التي يكتبها غالبية أبناء جيلك استنفدت إمكاناتها الجمالية والفكرية، ولم تعد قادرة على تقديم الجديد؟

- ثمة تراجع حالياً نحو القصيدة العمودية، إنه واضح تماماً، أبناء جيلي والأجيال التالية، يعودون نحو روح العمود، حتى لدى كتاب قصيدة النثر، حيث الكتابة بوصفها فعلاً ليست فعل بحث واكتشاف إنما فعل إدهاش وتعال. لا، ليست القصيدة هي التي استنفدت إمكاناتها، بل كتاب القصيدة وشعراؤها هم الذين استنفدوا طاقتهم على المواجهة، الكتاب الآن يبحثون عن (صرة الدنانير) التي كان الخلفاء يلقون بها على شعراء المديح، هذا فقط تغيّر في روح الكتّاب، لا روح الكتابة نفسها.

* أخيراً، كيف تنظر إلى ما يقال عن تراجع تأثير الشعر في المشهد الثقافي مؤخراً وعدم ترحيب الناشرين بطباعة مزيد من الدواوين؟

- هذه حقيقة، وهي جزء من الأزمة ذاتها، التحوّل نحو الشكل العمودي من جانب، والنكوص نحو الذاتية المستنسخة من جانب آخر. تحوّل في فهم روح العصر، يأس من فعل الكتابة بوصفه عامل تفسير وتحليل وتفكيك وتغيير، تطويع الشعر ليعود إلى أدواره السابقة، فيكون صوت السائد الذي يُصفّق له. الشعر الآن في أي شكل من أشكاله، انعكاس للوجوه المتشابهة التي خضعت لعمليات التجميل التي نراها حولنا، هذا هو العصر، وأنت لا تريد تغييره، أو محاولة تغييره، أنت تريد الخضوع له وحسب. هذا هو ما يحدث.