«الحياة بسيطة»: لا تعقّدوا الأمور... اعتمدوا الأبسط في تفسير الأشياء

«مشرط أوكام» من فلسفة القرون الوسطى إلى آخر مغامرات الفيزياء اليوم

جون - جو ماكفادين
جون - جو ماكفادين
TT

«الحياة بسيطة»: لا تعقّدوا الأمور... اعتمدوا الأبسط في تفسير الأشياء

جون - جو ماكفادين
جون - جو ماكفادين

كثيرة هي الكتب المهمة عن تاريخ العلم، لا سيما بنسخته الغربية التي تصور تفاصيل اللحظة التاريخية اللامعة في وقت ما خلال العصور الوسطى عند اندلاع شرارة الانتقال المذهل للمعرفة من كنف الدين إلى رحاب العلم، ومن مبالغات الميتافيزيقيا إلى صرامة الرياضيات، ومن أشواق الخيمياء إلى معادلات الكيمياء، ومن ثم ذاك المسار التراكمي الذي اتخذته المناهج العلمية الحديثة انطلاقاً من تلك اللحظة المفصلية وصولاً إلى آخر مغامرات الفيزياء الكمية اليوم. لكن كتاب جون - جو ماكفادين، البروفسور البريطاني الإيرلندي الأصل وأستاذ الجزيئيات الجينية بجامعة سري، الصادر حديثاً «الحياة بسيطة» يقدم إضافة نوعية لتلك السردية عبر الإضاءة بشكل كثيف على الدور المحوري الذي كان لمبدأ اعتماد الأبسط في تفسير الأشياء - الشهير بـ«مشرط» أوكام – في التمكين لسيرة العلم الحديث بأن تتبع خطاها التي سلكت إلى وقتنا الراهن، معيداً الاعتبار إلى نهج، يصفه ماكفادين كما لو أنه «العلم بحد ذاته، وكل ممارسة بحثية لا يكون ديدنها ومرجعها قد تصبح أي شيء إلا العلم».
ولعله من اللافت أن «مشرط» أوكام، المبدأ الضامن من طغيان التعقيد على الفكر، غالباً ما يتم تناسيه أو يُساء فهمه على أساس أن أبسط إجابة عن كل مسألة هي أفضلها. ورغم واقعية هذا الأمر في ظروف ما، لكن الوصف الأدق ما زال ذاته كما صيغ لأول مرة باللاتينية عام 1285، أي «لا ينبغي تعدد التفسيرات للمسائل دون ضرورة»، وهو يحثنا عند النظر إلى الظواهر على الالتزام دوماً باختيار أقل التفسيرات تعقيداً أو أبسط النمذجات عند سعينا لتعليلها. فإذا رأينا مثلاً أضواء متحركة في سماء ليلة مظلمة، فالأصل - وفق مشرط أوكام دائما - التفكير في الكيانات المعروفة الموجودة كالطائرات أو الأقمار الصناعية أو الدرونات قبل التسرع واعتبارها صحوناً طائرة آتية من الفضاء! ومع ذلك، فمن المهم إدراك أن مشرط أوكام في النهاية مجرد أداة للتحليل وتوجيه الفكر أكثر منه قانوناً جازماً. فليس الغرض التبسيط المفرط؛ إذ إن نظرية أكثر تعقيداً تشرح الحقائق بشكل أفضل وفق الأدلة التجريبية والمعطيات المتوفرة أوْلى دائماً بالاتباع من نظرية أبسط وأقل كفاءة.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة الذي يكشف عنه ماكفايدن هو تلك الأهمية الهائلة لمبدأ البساطة هذا في خلفية مختلف جوانب الحياة دون الاقتصار على مسائل العلم: من زعم ويليام شكسبير بأن «الإيجاز هو روح الطرافة»، إلى خلفية مشهد الحداثة برمته: موسيقى الحد الأدنى، الخطوط المعمارية الرشيقة، النثر الحديث وحتى تصميم الطائرات والقوارب.
تُرَدُّ أول صياغة لمشرط أوكام إلى راهب فرنسيسكاني عاش في أجواء نهاية القرن الثالث الميلادي يدعى ويليام المنسوب إلى ضيعة أوكهام الإنجليزية من ضواحي سري (جنوبي لندن). وفي تلك الأوقات كانت العلوم مجرد استكمال للبحوث اللاهوتية التي يقوم بها الأكليروس. وقد أظهر الراهب الشاب نباهة أهّلته للانتقال إلى أكسفورد، حيث كان رجال الدين يفسرون العالم مستندين إلى عدد كبير من المسلمات المتراكبة، فكان أن استل مشرطه مدعياً بأنها نمذجات متكلفة لا طائل من ورائها في إثبات وجود الله، مصرّاً على أن العلم والدين أقنومان منفصلان، لا ينبغي الخلط بينهما عند تفسير الظواهر، فأولهما يقوم على العقل المحض، والآخر مستمد من الإيمان. ويبدو بأنه أول مفكر - في العالم الغربي أقله -، يقطع وبمشرط حاد كل الحبال بين الأقنومين، في خطوة ثبُت لاحقاً مفصليتها لمسار التطور العلمي والفلسفي والتكنولوجي، ومنحت الأوروبيين بعد عصور ظلام طويلة مفتاحاً ساعدهم على كشف أسرار الكون وبناء التطبيقات الحديثة التي رافقت الثورة الصناعية ونشوء الرأسمالية.
طروحات ويليام لم تك لتمر بيُسر على المؤسسة الدينية المحافظة التي هيمنت على الحياة الثقافية لأوروبا حينها، فوجهت إليه تهمة تدريس الهرطقات، واستدعي للمحاكمة أمام البابا يوحنا الثاني والعشرين في أفينيون - فرنسا الحالية – حيث مقر الكرسي البابوي. استمرت المداولات بشأنه نحو أربع سنوات دون اكتمالها قط؛ مما أجبره على الفرار وفي أثره قوة من الحرس البابوي سعت للقبض عليه بتهمة اتهام قداسة البابا نفسه بالزندقة، لكنه نجا بروحه وقبِل حماية الإمبراطور الروماني المقدس لويس الرابع من بافاريا، ليمضي معظم حياته في تدبيج نصوص لاذعة السخرية عن بنية السلطات السياسية والدينية.
مطاردة ويليام وحظر تداول أفكاره بين المؤمنين وطمس أخباره، لم يمنع مشرط أوكام الذي صاغه من نيل قبول وتقدير مثقفين أوروبيين كثيرين في العقود التالية. نيكولاوس كوبرنيكوس كان أحد المُتبنين الأوائل، وفي مواجهة التعقيد الوحشي للفكرة السائدة بتعدد الهيئات الفلكية التي تدور حول كوكبنا، أعلن في تعليق له عام 1543 بأن الحركات الكوكبية «يمكن حلها بنماذج أقل وأبسط بكثير». وقد قاده وعيه لضرورة تجنب التعقيد غير اللازم إلى وضع نموذجه الشهير للكواكب التي تدور حول الشمس. وقد ميز يوهانس كيبلر فيما بعد تبسيطاً أكبر، حيث وجد ثلاثة قوانين رياضية للحركة الكوكبية تنطبق على جميع الأجسام المدارية - وتم تأكيدها لاحقاً من خلال قوانين إسحق نيوتن للحركة والجاذبية، والتي كانت صالحة على الأرض كما في السماوات. وهذا يؤكد تكهنات كتبها ويليام نفسه قبل نيوتن بنحو 350 عاماً، قال فيها «يبدو لي أن المسألة في السماء هي ذاتها على الأرض، فتعددية نظم التفسير لا ينبغي استدعاؤها دون ضرورة».
ماكفادين يورد في النصف الأول من «الحياة بسيطة» تفاصيل عميقة الإمتاع عن الإطار الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه ويليام وشهد ولادة المبدأ التحليلي وراء مشرط أوكام ومن ثم توسع دائرة متقبليه، ملقياً في طريق سرده ظلالاً على تصور شائع بأن الفكر الحديث بدأ مع عصر التنوير - الحركة الفكرية والفلسفية التي هيمنت على عالم الأفكار في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر –، مشيراً إلى أن كثيراً من المبادئ الأساس للفكر العلمي صيغت في وقت مبكر قبل شروع رجالات التنوير لاحقاً في وضع نظرياتهم. ويخصص المؤلف النصف الثاني لوصف بعض التطورات الرئيسية في مجال العلوم من غاليليو إلى وقتنا، وإظهار الدور المحوري لمشرط أوكام في الوصول إليها بتوفيره أداة تفكير سمحت لأجيال متعاقبة من العلماء والمهندسين والفلاسفة من دفع المعارف البشرية قدماً.
لا يُنكر ماكفادين بأن الإضاءة على دور مشرط أوكام قد يؤخذ بوصفه احتكاراً غربياً لتاريخ العلم، لكنه يؤكد بأن الفكر الإنساني واحد، كما بحر شرب من أنهار كثيرة: حضارات العراق القديم، ومصر الفرعونية والصين والهند إلى الإغريق والرومان والأندلس وعلماء الإسلام، وأن المسار الأوروبي لم يكن إلا واحداً من تلك الأنهار، وإن وجب دائماً نسب الفضل لأهله - أو «المشرط» لصاحبه إن جاز التعبير -، وهو أمر لم تتوان عنه كل العقول الكبيرة في أي وقت.


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.