«مركز الشيخ إبراهيم»... حكاية وفاء الحفيدة مي آل خليفة لجدّها

كتاب «بدايات ـ حكايات وتقاطعات» بمناسبة العيد العشرين للتأسيس

واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
TT

«مركز الشيخ إبراهيم»... حكاية وفاء الحفيدة مي آل خليفة لجدّها

واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»

هي «السيدة الدينامو» التي لا تهدأ، والتي أخذت على عاتقها، ترميم البيوت التراثية في البحرين، ليس فقط لإنقاذها، وإنما لتحويلها متعة للنظر، والسكنى. مشغولة دائماً بمشاريع ثقافية مقبلة. أحد إنجازاتها الكبيرة، هو «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث» الذي يصح أن يطلق عليه مسمى «مراكز ثقافية»، وهي لا تزال تتوسع. 28 بيتاً لغاية الآن، أمكن للشيخة مي محمد آل خليفة، على مدار عقدين، أن تصنع منها أماكن نموذجية للتفاعل ولاستقبال الإبداعات والبحوث، والكتاب والفنانين. بمناسبة مرور عشرين سنة على تأسيس هذا المركز، الذي يحمل اسم الجدّ، الشاعر، المثقف والملهم، احتفلت الشيخة مي مع جمع من المثقفين العرب والأجانب، على مدى ثلاثة أيام. ومن بين الأنشطة العديدة، كان إطلاق كتابها «بدايات - حكايات وتقاطعات»، تروي فيه فصول حكايتها مع المركز الذي أعطته جزءاً من روحها. الكتاب جاء متزامناً مع فيلم قصير بعنوان «شيخ التنوير» يختصر عقدين من مسيرة المركز والبيوت المتفرعة عنه، من إخراج المخرجة إيفا داود، ويوثق، لخطوات ترميم البيوت، وإنقاذها من يد العبث.
أما الكتاب، فإضافة إلى اللغة الوجدانية التي كتب بها، يؤرشف لهذه التجربة الثقافية بالرسائل والصور والمستندات، ويحكي قصة كل بيت والعراقيل التي كان لا بد من تذليلها، للوصول إلى النهايات السعيدة. من الصفحة الأولى، يبدو أن الأرق الأكبر هو «من سيكمل ما بدأت؟» تقول الكاتبة في إهدائها. فالتأسيس أمر، وصمود المشروع أمر آخر. «لن أذيع سراً إن قلت، إن كل شهر، يمر من عمر المركز وبيوته، هو تحدٍ للاستدامة».

البدايات
الشرارة التي أشعلت مشروع المركز، هو ولع الحفيدة مي باقتفاء أثر الجد الشاعر والأديب إبراهيم بن محمد آل خليفة. «حين نشرت كتابي الأول عنه لم أكن أعرف أنه سيقودني إلى كتب أخرى. وحين رممت موقع مجلسه ليحيي الدور الذي أداه، في بداية قرن مضى، لم أكن أعلم أنني سأصل إلى بيت تلميذه، وأنتقل إلى بيوت من عاصروه، أو جاءوا بعده». بعد وفاة والد الشيخة مي عام 1986، انتقلت مكتبته إلى منزلها، وافترشت المساحة الفارغة وسط الصالون. فتحت هذه المكتبة نوافذ فضول الحفيدة وهي تعثر داخل بعض الكتب على وثائق ورسائل وأوراق للجد، وتبدأ رحلة البحث. «أين بيت جدي؟» علمت أنه «هدم، وتغيرت ملامح المدينة، ولا نعرف الوصول إليه». لم يتم العثور على المكان قبل عام 2001. «بقعة أرض خالية، تجمعت فيها الأوراق ومخلفات من يمرون بالشارع... ولم أكتشف الجزء الوحيد المتبقي من البيت إلا بعد عشرة أعوام، وكأن حقب الاكتشاف لا بد أن تأخذ عقداً». لم تكن الأمور مذللة لإعادة إعمار المكان، ووضع اللبنة الأولى للمشروع الثقافي، الذي سيكبر ويتمدد. بعد المبنى الأول في المحرق، ستكرّ السبحة، ليستتبعه مراكز، وترميم بيوت قديمة أخرى. لكن يبقى للمبنى الأول رمزيته. هنا كان مجلس الجد الأدبي والثقافي، حيث يأتيه الكتّاب من سوريا ولبنان والشمال الأفريقي، وبداية للتعليم الأهلي. كتب أمين الريحاني عن الشيخ إبراهيم «إنه مع الأدب أكثر من السياسة، وهو شيخ الأدباء والشعراء في البحرين والرجل الثاني في مجلس التعليم فيها».
يوم افتتاح المبنى التأسيسي الذي منه ستكون الانطلاقة، علمت الشيخة مي أن بيتاً قريباً منه، يريد صاحبه هدمه، كما يحدث لغالبية البيوت التراثية، حيث تستبدل بعمارات جديدة. تبين بعد ذلك أنه بيت الشاعر والصحافي عبد الله الزايد، تلميذ الجد، وأول من نشر صحيفة في البحرين. «وفي بيتي رسائل بخط اليد متبادلة بينه، وبين جدي، فكيف أفرّط في البيت الذي سكنه». كان لا بد من فعل اللازم.
تحكي الكاتبة حكاية البيوت القديمة التي أتت على بعضها المعاول وأخذت تهدد ما تبقى. وكيف هجر أهل المحرق إرثهم، وتاريخهم، وذهبوا ليسكنوا أماكن أكثر حداثة، فيما يشبه الهجر لماضيهم، وأخذت ملامح الأماكن تزول وتؤول إلى الاندثار. أما هي فقد أخذها الخوف من أن تكون يد الخراب أسرع منها، فأطلقت رحلة البحث عن تمويل لتنقذ البيت تلو الآخر، متمنية، لو أن لها القدرة على النجاة بها جميعاً. بلغ الحماس، أن تمنت افتتاح كل سنة بيتاً مرمماً جديداً، وكان الثالث هو بيت محمد بن فارس، أشهر من غنى الصوت الخليجي، ليحتضن التراث الغنائي، تلاه الانتقال إلى المنامة وتجديد البيت الأول للشاعر إبراهيم العريض الذي شيد في أربعينات القرن الماضي، لينضم إلى بيوت المركز، وكان مالكوه على وشك هدمه لإقامة عمارة سكنية. وهو اليوم وبعد أن عاد له زهوه، أصبح بيتاً للشعر، يضم بين جنباته مكتبة الشاعر، أوراقه الخاصة، ووثائق وأشياء شخصية ثمينة أخرى. هناك أيضاً «بيت الكورار»، «مركز المعلومات»، «عمارة بن مطر»، «بيت محمد خلف»، «بيت التراث المعماري»، «نزل السلام»، «الركن الأخضر»، «ابحث»، وبيوت أخرى، كان آخرها «منامة القصيبي» الشاعر الذي أوصى هو نفسه أن يكون له بيت يحمل اسمه في البحرين، ويضم حاجياته الشخصية الحميمة.
تقول الكاتبة «كانت هذه البيوت في معظمها مصنّفة آيلة للسقوط، وهي تسمية أكرهها. لا توجد بيوت آيلة للسقوط، وإنما بيوت تخلى أبناؤها عن حبها». تحسرت باستمرار على تدمير المباني القديمة في الخليج كله، وفي البحرين بشكل خاص، أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفاءً لجدها «شيخ التنوير» الذي تعنى بمخطوطاته ورسائله، وأقامت لأعماله معرضاً، حمل عنوان «مع شيخ التنوير» للفنان جمال عبد الرحيم وصدر كتاب فني يحمل أشعاراً ورسائل للشيخ إبراهيم مع لوحات. ومع بدء ولعها بالعمل مباشرة على الأرض، لتكون أكثر فاعلية وسرعة، تعددت اهتمامات الشيخة مي، وذهبت إلى السعي في أكثر من اتجاه.
الكتاب هو أقرب إلى أرشفة هذا المسار الثقافي بتفاصيله، التي يمكن أن تجرفها الأيام، فيه وثائق ومراسلات، مع شخصيات، ومهندسين عملوا على المباني والمشاريع التراثية، بينهم زها حديد. هناك فصل مخصص للمشاريع المستقبلة. وهي ثمانية أصبحت رسوماتها ومخططاتها جاهزة تنتظر الإنجاز، اثنان منها في المحرق، وستة في المنامة. من بينها بيت حجازي المعمار، من المؤمل أن يتحول إلى بيت للصوفية، كما كان الشيخ أحمد حجازي، شيخ الطريقة الصوفية المحرقية. وبيت آخر سيحمل اسم الشاعر عيسى بن راشد، وسيكون مقابل بيت عبد الله الزايد.
وفي المنامة سينضم إلى المركز بيت للفنان عبد الله المحرقي، والدكتور أحمد باقر، وآخر لحسن كمال، وبيت آخر للمعلم نصيف. وثمة بيت للفنان التشكيلي يعقوب يوسف الذي رحل باكراً. وهناك مشروع مؤجل هو «سينما اللؤلؤ» أو «سينما القصيبي» بعمرانها المميز المراد تحويلها مقرّاً لتعليم اللغة العربية للصغار، تحت مسمى «العربي الصغير».
صاحبة الكتاب هي حالياً، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، والمركز هو مشروعها الذي منه تنطلق في حلمها المعماري، راغبة في رؤية البحرين أصيلة بقدر ما هي حديثة، وأمينة على ماضيها، بالحرص نفسه على التطلع المستقبل.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم