جوزف عطية لـ «الشرق الأوسط»: الإحباط والسلبية غير واردين عندي

أغنيته «منحكم عالناس» تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي

اختارت مصر عطية لاختتام حفل منتدى الشباب العالمي
اختارت مصر عطية لاختتام حفل منتدى الشباب العالمي
TT

جوزف عطية لـ «الشرق الأوسط»: الإحباط والسلبية غير واردين عندي

اختارت مصر عطية لاختتام حفل منتدى الشباب العالمي
اختارت مصر عطية لاختتام حفل منتدى الشباب العالمي

ليس صدفة أن تحصد أغنية جوزف عطية الجديدة «منحكم عالناس» أول مليون مشاهدة في ظرف 5 أيام من إطلاقها. فهي تعدّ عملاً فنياً يتكامل لحناً وكلاماً بعد أن توّجه عطية بأدائه المحترف المشبع بالمشاعر الصادقة. ويقول مطلعها: «كل حدا بيسمع يللي بدو يسمعه، بيقشع غلط غيره وغلطه ما بيقشعه، كتير منحكم ع الناس من برّا وما منعرف عنها شي بالمرة أو عالشكل أو من تصرّف بلحظة ضعف... ومنزعل إذا شي حدا مرة قال عنا كلمة ما بتعجبنا، ما منتقبل إلا الأشيا أل بتناسبنا، ومنغفر غلط عملناه نحنا وما مننظر حدا تا يسامحنا».
ولأن لكل أغنية قصة، يخبرنا المغني اللبناني بحكايته معها: «منذ اللحظة الأولى لسماعي لها، شكلت كلماتها درساً لي. فصرت أحدّث نفسي مستشهداً بمدى واقعيتها. وللحظة شعرت بالخوف، لأني قد أكون وقعت في فخ الحكم على الآخر من دون أن أنتبه لذلك. فقد لامستني عن قرب حتى إني نقدت ذاتي وربطتها بالمجتمع. هناك كثير من الناس الذين يستسهلون الحكم على الآخر من الخارج».
ويرى عطية أن غالبية الناس تميل إلى اعتبار نفسها مظلومة وأنها ضحية، ولا تحاول في المقابل الاجتهاد لتكتشف أخطاءها. ويتابع: «لقد رحت أعالج نفسي من خلال الأغنية، واعتبرتها رسالة توعوية رغبت بقوة في تبنيها».
تكتسح التعليقات الإيجابية على أغنية «منحكم عالناس» وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر لمسه عطية عن قرب: «اليوم مثلاً، اتصل بي ابن عمي ليناقشني بالحقيقة التي تحملها الأغنية. وأكثر ما أعجبني، من ردود فعل حولها، هو هزّ تفكير الناس لتراجع نفسها. فهذا كان هدفي الأساسي منها».
هذه الأغنية هي عنوان الألبوم الجديد الذي ينوي عطية إطلاقه قريباً. وهي من كلمات وألحان رامي شلهوب، وتوزيع جمال ياسين. وسبق لعطية أن أطلق أغنية أخرى من ألبومه الجديد بعنوان «بدقلك» من كلمات وألحان نبيل خوري وتوزيع جورج قسيس. ويتضمن عمله الجديد 10 أغنيات واحدة منها مصرية، تعاون فيها مع محمد رحيم. كما يغني باللهجة البيضاء، أخرى مع فريق شبابي أردني.
وعن عمله الغنائي الجديد، يقول: «من يتابعني يلاحظ أني أحاول التجدد دائماً في أغنياتي مع الحفاظ على هويتي ولوني. وهذا الأمر يشمل الموسيقى والمواضيع. فلقد سبق أن غنيت بالمصرية، ولكن هذه المرة أقدم لوناً مختلفاً من نوع المقسوم البطيء والهادئ». كما يلون عمله الجديد بأغنيات إيقاعية تحمل الفرح: «أغاني تعكس شخصيتي لأنّي أتمتع بالهدوء، وأحب المرح والتسلية». ويلاحظ من يسمع عطية موضوعاته الناضجة التي تترجم بشكل أو بآخر تطور موهبته ونضجها. ويعلق: «النضوج تحصيل حاصل نلمسه بفعل التجارب، ومع مرور الوقت».
يعترف المغني الشاب الذي يسجل نجاحات متتالية منذ بداية مشواره، بأنّ تغيرات كثيرة طرأت عليه روحياً وإنسانياً ومهنياً. ويوضح: «في الشق الشخصي صرت باحثاً أكثر في ذاتي، وفي الشق الفني هناك نضوج من نوع آخر يترجم لاشعورياً على المسرح، وفي خياراتي الغنائية. فالخبرة تصقل صاحبها ويكتسب منها الدروس. وعلى كل شخص أن يتفاعل مع نفسه ويكتشفها كي يتطور».
لا يخطط جوزف عطية لمشروعاته المستقبلية بل يتركها للقدر. فالأشياء الجميلة والإنجازات لا تأتي دائماً بالجهد والتخطيط، لأن العفوية والصدفة تتحكم هي أيضاً بنا. «عادة ما أسلم أموري لرب العالمين وأمشي على ما يقدره لي. أتكل كثيراً على إحساسي، ومن ثم تأتي الأمور المنظمة والمحضّرة بين مكتب وشركة وأهل وأصدقاء. فأنا على قناعة بأن العمل بهذه الطريقة هو صحي أكثر، لأن الفن ليس بوظيفة أو مطلب لأن العفوية تجمّله».
خفتت هواجس عطية تجاه النجاح واللهاث وراء الـ«نمبر وان»، وما عادت تتحكم بخطواته: «صرت أعرف كيف أوجه هواجسي بحيث لا تنعكس علي سلباً. صرت أعرف كيف أستمتع بما أنجزه بعيداً عن الأرقام ونسب المشاهدة. في الماضي كانت تقلقني هذه الأمور، اليوم يتحول تركيزي إلى أشياء أكثر عمقاً، بعيداً عن السطحية والخفة في التفكير. قدّمت مشاعري على أي عوامل أخرى، يكفيني تفاعل الناس معي في حفل ما، أكثر من جذب مليون متابع جديد. متطلباتي أصبحت طبيعية وواقعية بشكل أكبر».
وعلى سيرة الحفلات، فإنّ عطية اختتم مؤخراً حفل منتدى شباب العالم الذي أقيم في شرم الشيخ وحضره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. فماذا تعني له هذه المحطة الفارقة في مشواره؟ يرد: «أفرح وأعتز بمحطات من هذا النوع، ولا سيما أنّ منتدى شباب العالم جمع تحت جناحيه الشباب من مختلف دول العالم العربي، وبينهم لبنانيون. فالحدث يحمل رسالة إنسانية، تماماً كالأغنية التي أديتها فيه (أنا الإنسان)، التي تدعو إلى الاتحاد».
وهل لاحظت تفاعلاً لدى الرئيس المصري مع أغنيتك؟ يرد: «تفاعله كان واضحاً جداً مع أنّه كان يضع الكمامة».
وفي مناسبة عيد الحب، يحيي عطية حفلات عدّة بين الأردن وسوريا ولبنان. وفي هذه الأخيرة التي يقيمها في 12 فبراير (شباط) في مجمع «أورايزن» في جبيل، سيقدم باقة من أغانيه القديمة والجديدة، ومن الممكن جداً أن يقدم لجمهوره مفاجأة من ألبومه الجديد.
وهل تشعر اليوم بطاقة كبيرة تحمسك للقيام بكل هذه الحفلات بعد حجر منزلي وقيود فرضتها علينا الجائحة؟ يرد؛ إنّ «الطاقة لا تفارقني، وأنا في الأيام العادية، فكيف اليوم بعد هذه الفترة التي قيدتنا رغماً عنا، يمكن أن تضربيها بأضعاف الأضعاف. أنا مغرم بعملي وشغوف به إلى آخر حدّ، وأشعر اليوم بشوق كبير لملاقاة جمهوري في الحفلات التي ذكرتها».
ويؤكد عطية أنه طيلة فترة الحجر لم تنتابه أي أفكار محبطة أو سلبية، ويصف نفسه بالشخص غير المتطلب، ويمكن أن يرضى بالقليل: «كنت أمرر الوقت بالرسم والغناء وممارسة الرياضة، وغيرها من الهوايات التي أحب. فالإحباط والسلبية غير موجودين في شخصيتي. أنا بطبعي بيتوتي ولم تتبدل الأمور كثيراً عندي في فترة الجائحة والحجر». وماذا ترسم؟ يرد: «لوحات عن الطبيعة. لست بارعاً كثيراً، ولكني أحب الرسم».
مؤخراً نشر عطية صورة تجمعه بالممثلة منى زكي أرفقها بتعليق: «كل الحب والتقدير لهذه الممثلة الرائعة والإنسانة المحبة». أراد بذلك دعمها ضد الهجوم الذي تواجهه إثر مشاركتها في فيلم «أصحاب ولا أعز».
وهل أعجبك الفيلم؟ يرد: «شاهدته في نسخات متعددة، وبينها الإسبانية والإيطالية والفرنسية، ووجدت أنّ النسخة العربية رائعة. كما لفتتني عملية (الكاستينغ) لاختيار نجوم العمل. فهم بنظري كانوا الأفضل نسبة إلى النسخ الأخرى. فالفيلم واقعي ويحكي موضوعات اجتماعية تحمل رسائل كثيرة. ولكنّي كنت أفضل لو ركز أكثر على الأشخاص الإيجابيين والصالحين. فهم يستحقون أن نذكرهم ونسلط الضوء عليهم لأنّهم يجاهدون من أجل مبادئهم. الفيلم على فكرة يشبه بموضوعاته أغنيتي الجديدة (منحكم عالناس)».
ولو قدر لك أن تشارك فيه فأي دور كنت اخترت؟ يرد: «كنت اخترت دور الممثل جورج خباز فهو الأقرب لشخصيتي وسلوكي».
يحب عطية التمثيل في السينما، لكنّه لا يعرف بعد هل سيدخل هذا العالم: «لم أتخذ قراري بعد، مع أنّ الفكرة تراودني».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)