هويدا صالح: السرديات العربية تقدم صورة سلبية للمرأة وتعاملها كموضوع للكتابة

الناقدة المصرية ترى أن دور النقاد تزاحمه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي

هويدا صالح
هويدا صالح
TT

هويدا صالح: السرديات العربية تقدم صورة سلبية للمرأة وتعاملها كموضوع للكتابة

هويدا صالح
هويدا صالح

تنشغل الكاتبة والناقدة الأكاديمية الدكتورة هويدا صالح في كتابها الجديد «بلاغة التشكيل في قصيدة النثر» على راهن هذه القصيدة، راصدة واقعها جمالياً وفكرياً في الشعر المصري والعربي، ومن خلال رؤية نظرية ترفدها بالتطبيق على بعض النماذج الشعرية، وهي ترى أن «قصيدة النثر تشكل فضاء شعرياً بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد منذ عقود طويلة عن الشعر».
وهويدا صالح هي قاصة شابة أيضاً، وكانت ضمن عشرين كاتباً فازوا بالجائزة الأولى للقصة القصيرة التي نظمتها صحيفة «أخبار الأدب» عام 1994. ومن إصداراتها «سكر نبات» و«الحجرة 13» و«جسد ضيق»، ولها في الترجمة رواية «رجل الشعب» لتشينوا أشيبي، و«مذكرات حواء» لمارك توين.
هنا حوار معها حول كتابها الجديد، ودراساتها لصورة المثقف والمرأة في السرديات العربية.
> في كتابك الأخير «بلاغة التشكيل في قصيدة النثر» تقدمين قراءات نقدية في نماذج شعرية مختارة، على أي أساس فكري وجمالي استندتِ في قراءتك؟ وما الرؤى التي تقدمها هذه النماذج، وتشكل – برأيك- إضافة لقصيدة النثر؟
- الكتاب يشتغل على فكرة التشكيل بالصورة في الشعر، حيث جاءت فكرة «الاشتغال البصري في قصيدة ما بعد الحداثة». وبدأت اختياراتي بديوان «الملاك من حلب» للشاعر كريم عبد السلام كونه وثيق الصلة بمفهوم التشكيل الجمالي والتصور الأقرب للتعبير عن المصطلح، حيث إن الفنون البصرية تمّ توظيفها والإفادة منها في شعر ما بعد الحداثة، تمكن الشعراء في هذا السياق من رفد قصائدهم بكثير من الفنون، كالرّسم والتّصوير والنّحت، وغير ذلك من عالم الفن التّشكيلي، فضلاً عن فنون أخرى كثيرة تنطوي على جوانب بصريّة أهمّهـا المسرح والسينما.
ثمة فكرة أخرى تتمثل في أن قصيدة النثر تشكل خياراً جمالياً وفضاء شعرياً بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد عن الصورة الذهنية التي كونها القراء منذ عقود، بل قرون طويلة عن الشعر العربي الذي يعتمد على الوزن وتفعيلاته، كما أفردت جزءاً كبيراً لما سميته «بلاغة التفاعلات النصية في المتخيل الشعري» انطلاقاً من الوعي بأن لكل نص شعري رؤى جمالية وعوالم تخييلية تنهض من وعي الشاعر الخاص باللغة وقدرته على تصوير صراع الذات الشاعرة مع العالم والأشياء والرؤى الفكرية التي ينبني عليها هذا العالم. وهنا تبرز تساؤلات من نوعية: هل يكتب الشاعر نصه وهو يعي العلاقة بين الأنا والآخر؟ هل يمكن أن يمثل النص الشعري وعي الشاعر بتلك الجدلية؟ أم أن النص يمكن أن يبدأ في العزلة أو الفراغ؟
> هذه التساؤلات يغلب عليها الطابع الرومانسي، خصوصاً في العلاقة بين الأنا والموضوع أو الآخر، والذي يفترض وعياً متماثلاً أو منسجماً بينهما. قصيدة النثر أصبحت توسع الفجوة بينهما، ثمة فجوة في الوعي والرؤى والتلقي تصل إلى حد التشظي والنفي... هل جاء اختيارك للشعراء الخمسة من باب التوافق مع هذه الرؤية؟
- في الحقيقة ثمة نطاق من العلاقات يدور فيه النص الشعري، فهنا الشاعر وهناك الواقع أو العالم بتعارض مفرداته وتعقد علاقاته، وبالتالي فالسؤال مفتوح على كل الإجابات. لقد ناقش الكتاب أنماطاً متنوعة من الشعرية، منها فصل بعنوان «شعرية الموت وشعرية الألم» جاء بمثابة دراسة نظرية مع تطبيق عملي على «كتاب المشاهدة» لحنان كمال، حيث اتخذت الشاعرة من قصيدة النثر شكلاً فنياً لقصائدها، مُسْتحضرة ثنائيتي الموت والحياة، كثيمتين تتجادلان درامياً في الفضاء الشعري في تزاوج يراوح نفسه بين ثنائيات الصمت والكلام والضحك والبكاء والحب والحزن، تتنقل بينها اللغة الشعرية في الديوان.
أما فيما يتعلق بالنماذج المختارة، فمن المعروف أن الباحث ليس مجبراً على أن يبرر اختياراته إلا تبريراً فنياً، وأظن أن الشعراء الخمسة، الذين تناولت تجاربهم، لا يعرفون أصلاً أنه قد وقع اختياراتي على أعمالهم، وهم بالإضافة إلى كريم عبد السلام وحنان كمال: «يارا» للشاعر محمد رياض، و«كلارنيت» لكرم عز الدين، و«يده الأخيرة» لمحمد الحمامصي.
> تنشغلين بصورة المثقف وصورة المرأة في السرديات العربية، ولك دراسة مهمة في ذلك... كيف ترين هاتين الصورتين؟
- الصورة الأولى تتمثل في أن المثقف لا يعرف دوره الحقيقي الذي يجب أن يقوم به، ولا يعي أهمية أن يقف على يسار السلطة الحاكمة يعارضها معارضة وطنية، وعليه ألا يوافق السلطة على ما تفعل بل ينتقدها من موقع المثقف الواعي الغيور على وطنه. وقد جاءت صورة المثقف في المجمل سلبية، فقلة من المثقفين يعون هذا الدور، فهو إما يقف على يمين السلطة يدافع عن قراراتها ويهاجم من يعارضها ويتهمه بالخيانة، وإما هو منعزل عن المشاركة في الحياة العامة، السياسية والثقافية. وكلتا الصورتين سلبية، نحن بحاجة إلى «المثقف العضوي» بتعبير أنطونيو جرامشي المشارك فيما يهم وطنه والذي له دور في تشكيل الوعي الجمعي للجماعة الشعبية التي ينتمي إليها، فهو غير موجود بوضوح.
أما صورة المرأة فقد جاءت هى الأخرى سلبية للغاية، فهي غالباً تُعامل كموضوع يتناوله الكتاب في أعمالهم ويكتبون عنه، وليس باعتبارها ذاتاً مبدعة منتجة للخطاب. الأسوأ أن هناك كثيراً من الأعمال الروائية والقصصية في فضاء الإبداع العربي تختصر المرأة في كونها مجرد جسد أو موضوع للمتعة مع التغافل عن ملامحها الإنسانية الأخرى وتجاهل أنها يمكن أن تكون شخصية قوية تقود مجتمعها وتدافع عن حضورها المشارك للرجل.
> إذن هل يمكننا الحديث حقاً عن نقد نسوي عربي؟ ألا تؤدي مثل هذه التقسيمات إلى معارك جانبية نحن في غنى عنها؟
- معك حق، بالطبع تؤدي مثل هذه التقسيمات إلى معارك لا طائل من ورائها سوى أنها تستهلك الطاقة دون جدوى. ولكن هذا لا يمنع حقيقة أن النقاد الذكور ينكرون الحق في أن يكون هناك نقد نسوي، ليس للدفاع عما تنتجه المرأة، بل كنقد يراجع الخطاب الثقافي ويخلصه من الذكورية المستفحلة في لا وعي الناس، حتى بتنا نرى أن النساء أنفسهن تحكمهن هذه الذكورية. النقد النسوي الذي أفهمه وأطالب به يفترض أن يعري الأنساق المضمرة التي تكرس للخطاب الذكوري وتقوم بإزاحة مضمرة للمرأة.
> إلى أي مدى - برأيك - يقوم النقد في عالمنا العربي بدوره ورسالته، خصوصاً أنك غالباً ما تشتكين من الشهرة المفاجئة التي تحققها أعمال أدبية دون المستوى؟
- دورنا كنقاد تزاحمه وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والجماعات التي تحتشد خلف كتابة ما أو كاتب ما بما يُسمى «أولتراس»، وهي جماعات متعصبة تحشد لهم وتروج لأعمالهم ليحصلوا على الجوائز، على حساب الإبداع الحقيقي الذي يكرس للوعي والرؤية والفلسفة. ولا أتصور أن هناك تقصيراً من النقاد، بل ثمة جماعات ضغط أكبر من قدرة النقاد على المقاومة، وجماعات الضغط هذه تروج للرديء والضعيف والسهل الذي يشتغل على الغرائز، نحن في عصر «مهرجانات الكتابة» مثلما نحن في «مهرجانات الأغاني الرديئة».
> ألا تشعرين أحياناً بأن اهتماماتك النقدية قد جارت على إنتاجك الأدبي في السنوات الأخيرة؟ كيف تقيمين تفاعل النقاد مع تجربتك الكتابية؟
- لا أشعر بذلك فكله إبداع، الكتابة الروائية إبداع، الترجمة إبداع، النقد إبداع، أنا لا أختزل مفهوم الإبداع في السرد الفني فقط. وقد أنتجت كثيراً من الأعمال الإبداعية وأنا ناقدة لم أفارق النقد، وعلى سبيل المثال أصدرت عدداً من الأعمال الإبداعية في عز انشغالي بالنقد في السنوات الأخيرة مثل رواية «جسد ضيق» ورواية الناشئة «ميهي والبلورة السحرية»، كما ترجمت رواية «الأمير السعيد».
وبالنسبة لتقدير النقاد أراه تفاعلاً جيداً، كُتب كثير من الدراسات والمقالات عن تجربتي الإبداعية، منها دراسات أكاديمية ما بين ماجستير ودكتوراه في جامعات مصرية وعربية. لذلك لا أشعر بأنني امرأة مضطهدة أو كاتبة قصر معها النقاد أو ينقصني شيء. أشتغل على مشروعي بهدوء ومثابرة، وأعرف أن التاريخ لا ينسى ذلك.
> تشاركين عضواً بلجنة تحكيم في كثير من المسابقات والجوائز الأدبية، كيف ترين النقد المرير الذي يوجهه البعض إلى مثل هذه الجوائز؟
- كل من لا يفوز سوف يتشكّى، هذا أمر طبيعي، والجوائز تمنح بناء على ذائقة النقاد في الدورة المشارك فيها، فكل عمل فاز بجائزة لأنه وافق ذائقة نقاد تحكيم هذه الجائزة، وليس معنى ذلك أن الأعمال التي لم تفُز رديئة أو أقل قيمة.
والشكوى من النقد والنقاد ليست جديدة، فقد ترجمت مؤخراً مقالاً نقدياً عن «موت النقد» من اللغة الإنجليزية ويتضمن الشكوى نفسها من النقاد. لن يرضى المبدعون عن النقاد مهما حدث، ومن سينال الجائزة سيرى أنه نالها لأنه كتب أعظم إنجاز في الكون، ومن لم ينلها فسيرى أن النقاد لا يفهمون قيمة إبداعه، لا أحد يدرك أن أي جائزة تخضع لذائقة نقادها في تلك الدورة، ولو تغير النقاد في دورة تالية سيختارون إبداعاً بجماليات تناسب ذائقتهم وهكذا. وفي النهاية الجوائز تثري المشهد الإبداعي وتدعم المبدع الذي يفوز وتحفز المبدعين الجدد.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي