«البنك الدولي» يتهم «النخبة الحاكمة» في لبنان بالإنكار وتدبير كساد الاقتصاد

بموازاة اجتماعات الحكومة لمناقشة الموازنة

الحكومة مجتمعة أمس برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي لمناقشة الموازنة (الوطنية)
الحكومة مجتمعة أمس برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي لمناقشة الموازنة (الوطنية)
TT

«البنك الدولي» يتهم «النخبة الحاكمة» في لبنان بالإنكار وتدبير كساد الاقتصاد

الحكومة مجتمعة أمس برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي لمناقشة الموازنة (الوطنية)
الحكومة مجتمعة أمس برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي لمناقشة الموازنة (الوطنية)

اتهم أحدث تقرير للبنك الدولي «النخبة الحاكمة» على المستوى السياسي اللبناني، باعتماد «الإنكار الكبير» حيال تدبير «الكساد المتعمد»، وجاء التقرير بموازاة انشغال الحكومة اللبنانية بعقد جلسات مفتوحة طوال أيام هذا الأسبوع، بهدف تسريع إقرار مشروع قانون الموازنة العامة توازيا مع استئناف المشاورات الافتراضية مع إدارة صندوق النقد الدولي.
وبدا التحذير الصريح من قبل المؤسسة الدولية بأن الانهيار يحدث في بيئة جيوسياسية تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار وتعريض السلم الاجتماعي للخطر، بمثابة الإنذار الأخير لسلطات الدولة بوجوب الشروع بمعالجة الأزمات الحادة التي أفضت إلى تصدر لبنان قائمة 193 دولة في العالم في الانكماش المتمادي للناتج المحلي بنسبة تراكمية تعدت 58 في المائة خلال عامين، من مستوى 52 مليار دولار بنهاية العام 2019 إلى نحو 21.8 مليار دولار في نهاية العام الماضي.
ويقدر أن تنخفض الإيرادات الحكومية إلى النصف تقريباً في العام الماضي، لتصل إلى 6.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهي ثالث أقل نسبة على مستوى العالم بعد الصومال واليمن. وكان انكماش النفقات أكثر وضوحاً، لا سيما في الإنفاق الأساسي الذي شهد تخفيضات جذرية، الأمر الذي عزز دوامة الانكماش الاقتصادي.
وفي الوقت نفسه، يقدر أن يبلغ الدين الإجمالي 183 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2021 ليسجل لبنان رابع أعلى نسبة مديونية في العالم بعد اليابان والسودان واليونان.
ولوحظ من خلال اتصالات أجرتها «الشرق الأوسط» مع مسؤولين ماليين ومصرفيين، حدوث ارتفاع حاد في منسوب الهواجس من تراكم استحقاقات داهمة على المستوى المحلي، في ظل تنامي الشكوك حول إمكانية مواكبتها بما تتطلبه من تغيير نوعي في السلوك والمقاربات، مما قد يعرقل أو يهدد بنسف الجهود الحكومية لتسريع الانتهاء من الاجتماعات التشاورية الجارية «افتراضيا» مع إدارة صندوق النقد الدولي، والانتقال إلى جولات المفاوضات الرسمية.
وحذرت مصادر معنية ومواكبة من مغبة التمادي في سياسات المماطلة والتسويف المعتادة، نظرا لأن الملفات المطروحة تتسم بأهمية فائقة ولها انعكاسات مؤثرة بشدة على الواقع المأزوم في البلاد ومستقبلها. كما أنها تتزاحم في استحقاق الأولوية، سواء ما يتعلق بمذكرة المقترحات التي حملها وزير الخارجية الكويتي أو نضوج خطة التعافي الموعودة وتسريع إقرار حزمات مشاريع القوانين الإصلاحية التي يشترطها المجتمع الدولي ومؤسساته المالية، فضلا عن موجبات الانتخابات النيابية المقررة في شهر مايو (أيار) المقبل. ويكتسب القلق المتزايد صدقية مع صرخة «البنك الدولي» وهو المؤسسة الدولية شبه الوحيدة التي تمد لبنان حاليا بالمساعدات والقروض في قطاع الحماية الاجتماعية عبر تخصيص 245 مليون دولار للعائلات الأكثر فقرا وبدء صرفها قريبا بالبطاقات التمويلية الشهرية، وفي قطاع زيادة التغذية بالتيار الكهربائي من ساعتين إلى 10 ساعات يوميا من خلال تمويل موجبات مالية ستستحق لشركة الكهرباء الأردنية، وتسديد أكلاف استجرار الغاز المصري إلى معامل الإنتاج، إضافة إلى برامج مساعدة المتضررين من كارثة انفجار مرفأ بيروت والمعونات المالية في القطاع الصحي وأكلاف مواجهة جائحة «كورونا» وسواها.
ولم يكن عابرا في السياق، تصريح المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه، بأن «الإنكار المتعمد في ظل الكساد المتعمد يخلف أضراراً طويلة الأمد على الاقتصاد والمجتمع»، مضيفاً «بعد مرور أكثر من عامين على الأزمة المالية، لم يحدد لبنان بعد مساراً يتسم بالمصداقية للوصول إلى التعافي والاستقرار الاقتصادي والمالي، ناهيك عن الشروع في هذا المسار». ودعا الحكومة اللبنانية «لأن تمضي قدماً بشكل عاجل نحو اعتماد خطة لتحقيق الاستقرار والتعافي المالي الكلي ذات مصداقية وشاملة ومنصفة، وتسريع وتيرة تنفيذها إذا كان لها أن تتفادى دماراً كاملاً لشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية، وأن توقف على الفور نزيف رأس المال البشري الذي لا يمكن تعويضه».
ويشير البنك الدولي إلى الحاجة الملحة لمعالجة الأزمات الحادة، بعدما أفلس نموذج التنمية الاقتصادية الذي ازدهر بفضل تدفقات وافدة كبيرة لرؤوس الأموال ودعم دولي في مقابل وعود بإجراء إصلاحات. ويؤكد أن حجم ونطاق الكساد المتعمد الذي يشهده لبنان حالياً، يؤديان إلى تفكك الركائز الرئيسية لنموذج الاقتصاد السياسي السائد في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. ويتجلى هذا في انهيار الخدمات العامة الأساسية، واستمرار الخلافات السياسية الداخلية المُنهكة، ونزيف رأس المال البشري وهجرة الكفاءات على نطاق واسع. وفي موازاة ذلك، تتحمل الفئات الفقيرة والمتوسطة العبء الأكبر للأزمة، وهي الفئات التي لم يكن النموذج القائم يلبي حاجاتها أصلاً.
وعلى وجه الخصوص، يعتبر البنك الدولي «أن الشروع في إصلاح شامل ومنظم وسريع لقطاع الكهرباء خطوة بالغة الأهمية لمعالجة التحديات الطولية الأمد والمعقدة لهذا القطاع، الذي يبقى في صميم مسار الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي في لبنان». إضافة إلى ذلك، «يحتاج لبنان إلى تكثيف الجهود لضمان تقديم مساعدات الحماية الاجتماعية للفقراء والأسر الأكثر عرضة للمخاطر، والتي ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المستمرة».
وما زال تضخم أسعار المواد الغذائية مبعث قلق كبير، لأنها تشكل نسبة أكبر من النفقات التي تتكبدها الأسر الأفقر التي تواجه مصاعب جمة في تلبية احتياجاتها الأساسية في ظل تدهور قدرتها الشرائية، بعدما أدت تغيرات أسعار الصرف على الأسعار إلى قفزة كبيرة للتضخم، والذي يقدر أن معدله بلغ في المتوسط 145 في المائة عام 2021، ليسجل ثالث أعلى معدل على مستوى العالم بعد فنزويلا والسودان. ويمثل تأثير التضخم، عوامل تنازلية شديدة تؤثر على الفقراء والطبقة المتوسطة أكثر من غيرهم، وبوجه أعم على من يعيشون على دخل ثابت مثل أصحاب معاشات التقاعد.
وفي سياق مساهمته ببلورة خطة التعافي الموعودة، يستخلص البنك الدولي وجوب ارتكاز هذه الاستراتيجية على إطار جديد للسياسة النقدية يعيد الثقة والاستقرار في سعر الصرف، وبرنامج إعادة هيكلة الدين الذي من شأنه أن يحقق الحيز المالي على المدى القصير واستدامة الدين على المدى المتوسط، وإعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة ملاءة القطاع المصرفي، التصحيح المالي المنصف والتدريجي الذي يهدف إلى إعادة الثقة في السياسة المالية، وحزمة إصلاحات تهدف إلى تعزيز النمو، فضلا عن تعزيز الحماية الاجتماعية.



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».