كيف نجا موليير من براثن الأصولية والأصوليين؟

فرنسا تحتفي بمرور 400 سنة على ولادته

موليير
موليير
TT

كيف نجا موليير من براثن الأصولية والأصوليين؟

موليير
موليير

يعدّ موليير مفخرة الفرنسيين مثلما أن شكسبير هو مفخرة الإنجليز. كلاهما أبدع من المسرحيات العبقرية، ما أدى إلى تخليده على مدار العصور والأجيال. بل أصبحت أسماء مسرحياتهما معروفة كونياً ورائجة على كل شفة ولسان. فمن لم يسمع باسم «روميو وجولييت» مثلاً، أو «تاجر البندقية»، أو «هاملت»، أو «ماكبث»، لشكسبير؟ من لم يسمع بمسرحية «دون جوان»، أو «البخيل»، أو «المريض الوهمي الوسواسي»، أو «البورجوازي النبيل»... إلخ، لموليير؟ وكلها تكاد تميتك من الضحك لأن موليير على عكس شكسبير كان كوميدياً هزلياً لا تراجيدياً. ثم بالأخص من لم يسمع بمسرحية «طرطوف أو المنافق» التي سوف تحظى بكل اهتمامنا بعد قليل.
مناسبة هذا الحديث هو أن فرنسا تحتفل هذا العام بمرور 400 سنة على ولادة هذا العبقري العملاق (1622 - 2022). وقد كرست له معارض فنية واحتفالات كبرى في مدينة فرساي على وجه الخصوص. وذلك لأن فرساي كانت هي عاصمة فرنسا آنذاك إبان العهد الملكي. كانت عاصمة العالم. وفيها يوجد إحدى عجائب الدنيا السبع؛ قصر فرساي العظيم.
لماذا تحظى مسرحية طرطوف بكل هذه الأهمية؟ لأنها رائعته الكبرى أولاً. ثم لأنها طرحت موضوعاً حساساً جداً يتعلق بالدين أو بالأحرى برجال الدين المتزمتين المتقعرين، وليس برجال الدين الأتقياء الصادقين المؤمنين. وشتان ما بينهما. انظروا بعض الدعاة المتملقين المتاجرين بالدين؛ لقد أصبحوا مليونيرين! على العموم كان الكهنة من رجال الدين ذوي أهمية كبرى في عهد موليير. كانوا يصولون ويجولون ويرعبون الناس. أما اليوم فما عادوا يخيفون أحداً في فرنسا، بل هم الخائفون المتوارون عن الأنظار. ينبغي أن نعود 400 سنة إلى الوراء لكي نعرف أين كانت فرنسا وكيف أصبحت. في ذلك الوقت كان الملك لويس الرابع عشر يخاف هو ذاته من الكهنة المتشددين. فما بالك بالآخرين؟ هذا الملك الجبار الذي أرعب أوروبا كلها وأصبح أشهر ملك في تاريخ فرنسا إلى درجة أنهم لقبوه «بالملك - الشمس» كان يخاف فقط من فئة واحدة في الشعب الفرنسي هي فئة رجال الدين. وكان زعيم الأصولية الكاثوليكية آنذاك خطيباً مفوهاً لا يشق له غبار ويدعى بوسويه. وهو الذي كان الملك يخشاه أكثر من سواه. فهو وحده الذي كان يستطيع أن يوبخ ملك فرنسا أو يؤنبه ويزجره إذا شاء. في الواقع، رجال الدين كانوا يعيبون على لويس الرابع عشر عدم تقيده بالأخلاق المسيحية الصارمة في حياته الشخصية. وفي عام 1664 عندما صدرت مسرحية «طرطوف» كان عمر الملك 25 سنة فقط. وهذا يعني أنه كان في عز شبابه ولا يستطيع أن يتقيد كلياً بنصائح رجال الدين ومواعظهم. وكان يشعر أنه محاصر أو مراقب تماماً من قبل الكهنة الذين يملأون ردهات القصر الملكي. وهؤلاء وظيفتهم إرشاد الناس إلى التقى والورع والتقيد بالقيم الأخلاقية للدين المسيحي. في مثل هذه الظروف ظهرت مسرحية «طرطوف أو المنافق». لقد ظهرت بإيعاز سري من الملك شخصياً. كان يريد أن يصفي حساباته مع الكهنة والأصوليين المتزمتين المتحجرين الذين لا همّ لهم إلا مراقبة الناس في حياتهم الشخصية وتقريعهم وزجرهم. فأوعز إلى موليير بأن يكتبها. بمعنى آخر، كان الملك يريد أن يستخدم هذه المسرحية كسلاح ضد المتزمتين والمتقعرين الذين يراقبونه باستمرار ويحدون من حريته الشخصية ويلومونه بشدة على مغامراته الغرامية. بمعنى آخر أيضاً، ما كان موليير ليتجرأ على تأليفها لولا الضوء الأخضر الذي صدر عن الملك شخصياً. ولكن بعد أن مثلوها على خشبة المسرح لأول مرة جنّ جنون رجال الدين داخل القصر وخارجه وهاجت على موليير الهوائج. وأدانها فوراً مطران باريس الكبير وكفّرها واعتبرها معادية للعقيدة المقدسة. وعندئذ خاف لويس الرابع عشر من ردة فعل الشارع الأصولي وتراجع فوراً وأمر بمنع تمثيلها بعد اليوم. وبما أن فرنسا كانت كلها متدينة آنذاك فإن الملك عرف معنى خطورة الأمر. على أي حال، لقد اندلعت معركة كبرى حولها بين المجددين والمحافظين. واستمرت هذه المعركة مدة 5 سنوات متواصلة حتى عادت إلى خشبة المسرح من جديد. ولكنها لم تعد قبل أن يقدم موليير بعض التنازلات، حتى فيما يخص الاسم. فبدلاً من أن كانت «طرطوف أو المنافق» أصبحت «طرطوف أو المنافق المزيف». بمعنى أنه لا يقصد عموم رجال الدين، وإنما يقصد فقط فئة معينة مرائية لا علاقة لها بالدين إلا بشكل سطحي ظاهري.
يقول أحد المثقفين المعاصرين؛ لقد كانت تلك معركة كبرى من أجل حرية التعبير والتفكير في وقت كانت فيه هذه الحرية ضيقة ومحصورة جداً في فرنسا. كانت معركة من أجل الإبداع الفني والمسرحي. فهي تروي لنا قصة الضغوط القمعية التي كان الكهنة يمارسونها على المبدعين والفنانين. وهي ضغوط كان يمارسها الأصوليون المسيحيون على عموم الكتاب والمثقفين. ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية كانت قوية جداً آنذاك، بل في أوج قوتها وجبروتها. نحن في القرن السابع عشر. وكانت هي التي تخلع المشروعية الإلهية على الملوك. فإذا بشخص صعلوك يدعى جان باتيست بوكلان الملقب بموليير يجيء لكي يستهزئ بها ويتحداها بواسطة هذه المسرحية الهزلية التي تسخر من الكهنة ورجال الدين. ومعلوم أن موليير كان شخصاً متحرراً من التزمت الديني كلياً. كان مسيحياً بطبيعة الحال كبقية الفرنسيين، ولكن ما كان ملتزماً بالطقوس والشعائر بحذافيرها وبشكل حرفي. ولهذا السبب فإن الأصوليين المتشددين كانوا يعتبرونه «فاسقاً داعراً»، أو «زنديقاً ملحداً». وقد احمرت أعينهم عليه وهموا بتصفيته لولا أن الملك تصدى لهم.
بعد أن شاهدوها على مضض، اعتبرها رجال الدين من أدبيات التجديف والكفر. وهددوا صاحبها مباشرة. بل هددوا كل من يذهب إلى المسرح لمشاهدتها بفتوى التكفير والفصل من الكنيسة. وكان مطران باريس هاردوان دو بيريفكس على رأس المناهضين لهذه المسرحية. وأصبح العدو اللدود لموليير. ويمكن القول إن موليير نجا من المحرقة بأعجوبة. ومعلوم أن محاكم التفتيش كانت لا يزال أوارها مشتعلاً آنذاك. وما كانوا يحرقون كتبك أو مؤلفاتك فقط وإنما كانوا يحرقونك أنت شخصياً معها أيضاً. كان يكفي أن يشعلوا النار في الساحة العامة بباريس ويلقوك فيها أنت وكتبك طعمة للنيران. لم تكن السلطات الدينية تمزح في مثل هذه الشؤون الحساسة جداً. وهذا ما فعلوه قبل صدور مسرحية موليير بسنتين عام 1662 عندما حرقوا في الساحة العامة أمام أنظار المارة والمشاهدين شاعراً شاباً بتهمة التجديف والكفر والاستهزاء بالمقدسات. هذا الشاعر المسكين الذي التهمته النيران كان يصرخ ويزعق أمام أنظار المشاهدين الباريسيين وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره فقط. وكان يدعى كلود لو بتي. وبالتالي فليحسد موليير نفسه؛ لقد نجا من المحرقة بأعجوبة وفي آخر لحظة.
قلنا سابقاً إن لويس الرابع عشر استخدم موليير كرأس حربة ضد الأصولية والأصوليين، ضد التزمت والمتزمتين. فبعد أن لاموه كثيراً على تصرفاته الشخصية وعدم تقيده بالتقاليد المسيحية أراد توجيه رسالة معينة لهم من خلال موليير. وهي رسالة تقول لهم ضمنياً ما معناه؛ خففوا من تزمتكم وغلوكم في الدين. الدين يسر لا عسر. على هذا النحو أصبح الفن سلاحاً فعالاً في معركة الفكر والحريات، وأصبح الملك ذاته بحاجة إلى موليير.
على أي حال، عندما منعوا المسرحية أو أوقفوا عرضها انزعج موليير جداً وشعر بأنهم قمعوه وأهانوه، ولذلك صرخ قائلاً؛ أنا فنان، أنا حر! نقول ذلك وبخاصة أن موليير لم يهاجم الدين ولا رجال الدين عموماً وإنما هاجم فقط فئة معينة منافقة تتظاهر بالدين أو بالتدين الكاذب، وهي أبعد ما تكون عن التقى والورع الحقيقي. لهذا السبب احتلت هذه المسرحية مكانة هامة جداً، ليس فقط في حياة موليير ذاته، وإنما في تاريخ فرنسا كلها.
أخيراً فالسؤال المطروح هو التالي؛ ماذا سيفعل موليير لو خرج من قبره الآن وعاش في القرن الحادي والعشرين بدلاً من القرن السابع عشر؟ أولاً لن يصدق ما يراه بأم عينيه في باريس. لن يصدق أن فرنسا تخلصت كلياً من الرقابة القمعية الأصولية المتزمتة إلى مثل هذه الدرجة. لن يصدق أنه لم يعد أحد يخاف من رجال الدين في فرنسا إذا ما كتب أو نشر أو أبدع أو عبّر عن رأيه. بل ربما شعر بأن الآية أصبحت معكوسة؛ بمعنى أن رجال الدين أصبحوا هم الخائفون، المقموعون، المرعوبون. وسوف يفرك عينيه تعجباً ولن يصدق ما يشاهده على شاشات التلفزيون عندما يراهم يستهزئون ليس فقط برجال الدين وإنما بالبابا ذاته، حتى بقدس الأقداس المسيحية! ولا أحد يعاقبهم أو يحاسبهم حتى يسائلهم. وربما قال؛ لقد زادوها «شوية» في الاتجاه المعاكس...
أخيراً ينبغي العلم أن الفن كان مكروهاً جداً في عصر موليير. كانوا ينظرون إلى الممثلة وكأنها مومس أو داعرة. ولذلك كانوا يرفضون تقديم المباركة الكنسية لها عند الموت إلا بعد أن تتنكر لمهنة التمثيل أمام الصليب وتتبرأ منها. وهذا ما حصل لموليير ذاته أيضاً. فعندما جاءته لحظة الموت طلبوا له كاهناً لكي يعطيه البراءة الكنسية الضرورية لكي يحظى بمرضاة الله ويدخل الجنة ويرحل مطمئناً سعيداً عن هذا العالم. ولكن الكاهن الأول الذي طلبوه رفض المجيء قائلاً إن هذا الشخص كافر، نجس، لا يستحق. وكذلك فعل الكاهن الثاني. ثم عثروا على كاهن ثالث قبل على مضض بأن يعطيه «مسحة المرضى» أو الشعائر النهائية، ولكن المشكلة هي أنه وصل متأخراً بعد أن كان موليير قد مات «وطلعت روحه».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.