«يوليسيس» و«الأرض اليباب»... 100 عام على انقسام العالم الأدبي إلى «ما قبل» و«ما بعد»

جيمس جويس وتي إس إليوت نشرا عمليهما «الصاعقين» في وقت متقارب

جيمس جويس
جيمس جويس
TT

«يوليسيس» و«الأرض اليباب»... 100 عام على انقسام العالم الأدبي إلى «ما قبل» و«ما بعد»

جيمس جويس
جيمس جويس

قبل مائة سنة، في فبراير (شباط) من عام 1922، غامرت مكتبة «شكسبير آند كومباني» في العاصمة الفرنسية، بطبع رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، كاملة، للمرة الأولى، بعدما رفضها كل الناشرين في بريطانيا وآيرلندا. وكان الفضل في ذلك لصاحبة المكتبة سيلفيا بيتش (1882- 1962)، هذه المرأة الطليعية الشجاعة التي هاجرت من أميركا إلى باريس، وأسست المكتبة عام 1919، وكان من أصدقائها مجموعة من أشهر كُتاب وكاتبات القرن العشرين: أرنست هيمنغواي، وأزرا باوند، وتي إس إليوت، وغيرترود ستاين، ومينا لوي. ومن الكتاب الفرنسيين: أندريه جيد، وبول فاليري.
عبر هذه المكتبة التي ظلت مفتوحة حتى 1941 حين أغلقها المحتلون النازيون، استطاعت بيتش أن تربط أميركا وبريطانيا وآيرلندا معاً، حسب تعبير الكاتب الفرنسي أندريه تشامسون. والمفارقة أن النازيين أغلقوها بسبب جيمس جويس نفسه. ففي ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، دخل المكتبة أحد الضباط النازيين، طالباً شراء نسخة من رواية «يقظة فينيغان» لجويس، الأكثر تعقيداً من «يوليسيس»، واستغرقت كتابتها 17 عاماً. ولكن بيتش رفضت أن تبيعه النسخة الأخيرة التي تملكها، فهددها بأن يغلق المكتبة كلها في اليوم التالي.
نقلت بيتش كتبها في اليوم نفسه إلى شقة في الطابق العلوي، وأقفلت المكتبة. وكان عقابها 6 أشهر في معتقل نازي في باريس! كما تنقل لنا في مذكراتها المعنونة باسم المكتبة «شكسبير آند كومباني» التي نشرتها عام 1959.
والآن، تعود المكتبة لتحتفل بـمرور مائة عام على إصدارها «يوليسيس»، إصدارها الأول والوحيد في تلك الفترة الذي غير المشهد الروائي العالمي للأبد، هو و«الأرض اليباب» التي غيَّرت المشهد الشعري العالمي بالقوة نفسها، والتي صدرت بعد «يوليسيس» بثمانية أشهر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1922.
احتفال مكتبة «شكسبير آند كومباني» مختلف هذه المرة. فهناك 80 كاتباً وفناناً وممثلاً وموسيقياً، سيتناوبون على تسجيل «يوليسيس» كلها، ومنهم الروائية الكندية مارغريت آتوود، والممثل الكوميدي البريطاني أدي إيزارد، والروائي البريطاني ويل سيلف، والروائي والشاعر النيجيري بين أوكري. وتبدأ هذه الفعالية الكبيرة يوم 2 فبراير، وهو اليوم الذي انطلق فيه ليوبولد بلوم يجوب شوارع دبلن، والذي عُرف بشكل واسع في الأوساط الثقافية والأدبية بـ«يوم بلوم». وهدف إحياء مئوية «يوليسيس» هو «تسليط الضوء على الرواية لإيقاظ الرغبة لدى الجمهور لقراءتها».
ولكن من يستطيع من «الجمهور» أن يقرأ «يوليسيس» إذا كان معظم المثقفين الإنجليز والآيرلنديين أنفسهم عاجزين عن ذلك؟
قبل سنوات، أجرت صحيفة «الغارديان» البريطانية استفتاء موسعاً بين الكتاب، حول قراءة «يوليسيس»، والنتيجة كانت أن 300 كاتب فقط قرأوا الرواية، وبعضهم «يشعر بالذنب»؛ لأنه لم يقرأها، أو لم يستطع إكمال قراءتها. هل السبب «سوء القراءة»، كما يعتقد ريتشارد أولمان الذي قدم للرواية في طبعة دار «بنغوين» البريطانية عام 1986؟ وقال: «إن ثيمة جويس في (يوليسيس) سهلة. وهو يستدعي أكثر الأساليب سعة لتقديمها. إنه -مثل كل الكتاب العظماء- يشعر بأن الأساليب المستخدمة في الأدب السابق لم تعد كافية. إن الشخصية الساردة في الروايات السابقة التي تدور بالقارئ حول الحدث قد اختفت، وحلت محلها في (يوليسيس) سلسلة من الساردين، وهم عادة غير محايدين، ويظهرون ويختفون، من دون أن نحدد هوياتهم، كما أن السرد فيها غير مشخص أحياناً؛ بل تدور العين –الكاميرا- بشكل عشوائي في أنحاء دبلن، مركزة على مواضع تبدو لا رابط بينها».
هل تنبع من هنا صعوبة قراءة «يوليسيس»؟ ربما، هذه المواضع التي لا رابط بينها كما يبدو، حين لا نقرأ العمل كله، أو فلنقل حالة التشظي، هي أيضاً من أبرز ما يميز «الأرض اليباب» لإليوت، وأدب الحداثة عموماً، وهي نتاج واقع خلفته الحرب العالمية الأولى المدمرة، والتي هي بدورها نتاج عالم بدا يتداعى منذ نهاية القرن الـ19، إذا استعرنا تعبير دبليو بي ييتس، في قصيدته «العودة الثانية» التي يتحدث فيها عن «قوة اضطراب جديدة تجتاح العالم» فـ«تتداعى الأشياء»، إنه عالم بدأت تسوده الفوضى، ويجتاحه «مد مغموس بالدم»، راسماً بذلك أجواء جهنمية لما يمكن أن يقود إلى خراب العالم.
ولم تُترجم هذه الرواية الصعبة إلى العربية إلا بعد 60 سنة من صدورها، وأنجزها المترجم المصري الدكتور طه محمود طه. وأكثر من ذلك، قدَّم لقراء العربية عملاً ضخماً عن أعمال الروائي وسيرته، سماه «موسوعة جيمس جويس»، وقد قضى 20 عاماً في تأليفه. والترجمة الثانية كانت للدكتور صلاح نيازي، وصدرت عن دار «المدى».
عاصفة «الأرض اليباب»
«الأرض اليباب» هي أيضاً عبارة عن قطع متناثرة، يبدو أن لا علاقة ظاهرية بينها، ولا نمواً عضوياً ينتظمها؛ لكن يوحدها، في النهاية، الموضوع العام عن الخراب والجدب، روحياً ومادياً، وانهيار القيم في أوروبا ما قبل وبعد الحرب الكونية، حسب رؤية إليوت التي يختلط فيها الديني بالميتافيزيقي، والفلسفي بالأخلاقي، والذي توحي به القصيدة عبر استخدام ما سمَّاه إليوت نفسه «المعادل الموضوعي»، ويعني به أنه لا ينبغي على الشاعر الحديث -بعكس الشاعر الكلاسيكي والرومانتيكي- التعبير عن عواطفه بشكل مباشر؛ بل عبر إيجاد مجموعة من الأشياء، ووضع سلسلة من الأحداث التي ينبغي أن تكوِّن الصيغة الفنية لهذه العواطف. ولذلك لا بد من فهم القصيدة كلها فهماً دقيقاً؛ خصوصاً أنها تستند في بنيتها إلى مصادر أنثروبولوجية وفلسفية وثقافية وشعرية من التراث الإنساني كله، في كل سطر منها تقريباً، وتتناص مع الأساطير القديمة، اليونانية والرومانية والشرقية، مع إدخالها في النص مفردات من لغات أخرى، كالإغريقية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية، وتحضر فيها التوراة والإنجيل والأسطورة الآرثرية والكأس المقدسة وبوذا وأوفيد ودانتي وشكسبير وجيرار دو نيرفال وبودلير، وسواهم. لكنها -مع ذلك، وعلى العكس من «يوليسيس»- حظيت بمقروئية واسعة، في أماكن كثيرة من العالم، وكذلك بترجمات ودراسات لا تزال مستمرة.
وكان كتاب «قصائد تي إس إليوت» لكريستوفر ريكس وجيم ماكيو -وهو سفر ضخم صدر بمجلدين عام 2015 في أكثر من 2000 صفحة- قد نفد من الأسواق خلال أقل من شهر، مما يدل على أن قارئ القرن الحادي والعشرين، ابن التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الهائلة، لا يزال يجد نفسه في هذه القصيدة، رغم مرور ما يقرب من قرن على صدورها، ومئات الدراسات التي صدرت خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة.
ومن الملاحظ، حسب بيانات دور النشر البريطانية، أن الإقبال على قراءة «الأرض اليباب» قد ازداد بعد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب رواية «1984» لجورج آرويل، وكأن الظروف التي يمر بها البلد الآن هي تقريباً الظروف نفسها التي مر بها في بداية القرن العشرين، وقت نشر القصيدة عام 1922: القلق، وعدم الشعور باليقين تجاه أي شيء، والمستقبل الغامض، وأخيراً صعود التيار الشعبوي الذي لا يمكن أن ينتج سوى العنصرية والفاشية، كما تعلمنا تجربة الحرب العالمية الثانية.
ترجمة هذه القصيدة للعربية قد تأخرت أيضاً، فقد ترجمها الشاعر توفيق صايغ عام 1953، أي بعد أكثر من 30 سنة من صدروها؛ لكنها بقيت مخطوطة إلى أن أصدرتها دار «الجمل» قبل سنتين. وأول ترجمة منشورة كانت ترجمة مشتركة لأدونيس ويوسف الخال نشرت في مجلة «شعر» عام 1958، وتلتها ترجمة لويس عوض، 1968، وترجمة يوسف سامي اليوسف، 1975، وترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، 1980، ثم ترجمة الدكتور ماهر شفيق فريد، 2013. وأخيراً ترجمة كاتب هذه السطور عام 2021 التي قدَّم معها دراسة مقارنة للترجمات الست السابقة، بالإضافة إلى ترجمات كثيرة متفرقة.



بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو
TT

بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو

بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، من دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ حسب قوله يقول الناقدُ المغربيُّ عبد الفتّاح كيليطو في أحد استجواباتهِ الصحافية إنه لم يرَ نفسَهُ جديراً بالخوضِ في الأدبِ الفرنسي. وهكذا حين ناقشَ، في إطارِ شهادةِ الدراساتِ العليا، رسالتَهُ عن رواياتِ فرنسوا مورياك، سنحتْ لهُ فرصةٌ ثمينةٌ لنشرِها، لكنه رفضَ لأنها بدتْ لهُ ضعيفةً جدّاً مقارنةً بكتبِ النقدِ التي كان قد اطّلعَ عليها في ذلك الوقت (رولان بارت، شارل مورون...). بعد مدةٍ من الترددِ قامَ بتسجيلِ «المقامات» موضوعاً للدكتوراه.

بنعبدالعالي

ومن المعلومِ أن مقاماتِ الهمذانيِّ والحريريِّ تُعدُّ من نماذجِ النثرِ الفنّي، الذي اشتغلَ عليهِ «الدكاترة» زكي مبارك في منتصفِ الثلاثينات من القرن المنصرم، في أطروحتهِ «النثرِ الفني في القرنِ الرابع الهجري» في جامعةِ السوربون تحتَ إشرافِ المسيو ميرسيه. وقد اختلفَ تلميذُهُ الحادُّ الطبعِ والنبرةِ مع أستاذهِ المتمركزِ أوروبياً حولَ نشأةِ النثرِ عند العربِ، دونَ أن ينصاعَ لأمرهِ الأكاديميِّ بحذفِ ما كتبَهُ مبارك حولَ هذه النشأةِ، رغمَ نصيحةِ بعضِ الأساتذةِ الفرنسيين المستشرقين، وفي طليعتهم ماسينيون. ومع ذلك فقد رضخَ الأستاذُ لرغبةِ الطالبِ الحادة!.. لقد أخبرَهُ ماسينيون بعدَ الانتهاءِ من حصولهِ على الدكتوراه بأن «ميرسيه لا يحبُّك لكنه لا ينساك».

وقد ترجمَ الدكتور مبارك أطروحتهُ بنفسهِ إلى اللغةِ العربية. مبارك لم يكن بعيداً عن قضيةِ الفلسفةِ في أطروحتَيه الأخريين «الأخلاق عند الغزالي» و«التصوف الإسلامي».

طه حسين

يبدو أن كيليطو عاشقٌ للسانينِ، كما يكتبُ عنهُ صديقهُ عبد السلام بنعبدالعالي في كتابهِ الأخير بعدَ كتابهِ الأولِ «الأدب والميتافيزيقيا» باللغتين العربيةِ والفرنسيةِ، وكأنه بمخاطبتهِ العربَ والفرنسيينَ أسواريٌّ جديد! نعم، يبدو كيليطو هو الآخرُ يحاولُ التخلّصَ من تأثيرِ المركزيةِ الأوروبيةِ، وقد اشتغلَ - خصوصاً في أحدِ مؤلفاتِه الأولى (الكتابةُ والتناسخ) الذي ترجمَهُ بنعبدالعالي من الفرنسيةِ إلى العربيةِ - على إعادةِ قراءةٍ نقديةٍ مبدعةٍ لنصوصٍ تراثيةٍ، مستلهماً رولان بارت في أطروحتِه عن «موت المؤلف»، حيثُ ركّزَ فيها كيليطو على الجاحظِ، الذي قدّمَ في أدبِهِ الموسوعيِّ شارل بيلا كتاباً رائعاً، بدّدَ سأمَهُ من دراسةِ الأدبِ العربي. وهذا ما فتحَ عينَ كيليطو على براعةِ الجاحظِ، ومنها ما ذكره الجاحظُ في كتابِهِ «البيانِ والتبيين» عن موسى سيار الأسواري الذي «كان من أعاجيبِ الدنيا، كانت فصاحتُهُ بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِهِ بالعربية، وكان يجلسُ في مجلسِهِ المشهورِ به، فتقعدُ العربُ عن يمينِهِ، والفرسُ عن يسارِهِ، فيقرأُ الآيةَ من كتابِ الله، ويفسّرُها للعربِ بالعربيةِ، ثم (يحوّل) وجههُ إلى الفرسِ، فيفسّرُها لهم بالفارسية. فلا يدري بأي لسانٍ هو أفصح».

محمد عابد الجابري

لكن هل هذا هو شأنُ عبد الفتّاح كيليطو وهو يُطلُّ على القراء العرب - بعدما تَكَوَّن في تعليمه المزدوج - متعوداً ألا يقرأَ إلا النصوصَ التي كُتِبَت بالفرنسية أو بالفصحى - قارئاً ومدوّناً - مستمتعاً بلذةٍ «بارتيةٍ» في قراءةِ النصوص الأدبية؟ هذا اللسانُ المفلوقُ - كما يُعبر كيليطو - هو بصورةٍ أخرى ما أصبح عليه دارسُ الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ القديمةِ والفرنسيةِ المعاصرة. صديقُهُ د. عبدُ السلامِ بنعبدالعالي أستاذُ الفلسفةِ بجامعةِ الملكِ محمد الخامس، متتلمذاً على يدي محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري. ما زلتُ أتذكر لقائي ببنعبدالعالي في صيفِ الرباطِ سنة 1993 - بعد يومينِ من وفاةِ الحبابي - حيث عرفني على زميليهِ الراحلينِ سالم يفوت ومحمد وقيدي، وكذلك من أصبحَ يكتبُ معه «بيدينِ» محمد سبيلا، وقد أصبحَ بنعبدالعالي اليومَ ملءَ السمعِ والبصر، اسماً لامعاً وألمعياً في فضاءِ التأليفِ الفلسفيِّ وترجمتِه. محاولاً النزولَ بالفلسفةِ من عليائها المطلقِ وتجريداتِها الذهنيةِ، إلى أرضِ الواقعِ المغربيِّ والعربيِّ الملتبس - لا أريدُ هنا مشابهتَهُ بأستاذِ الفلسفةِ المصريِّ مراد وهبة، في أطروحتهِ ومؤتمرِه عن الفلسفةِ ورجلِ الشارعِ في القاهرةِ سنةَ 1983... خشيةَ إعادةِ سجالِ المشرقِ والمغربِ جذعة! بعد أطروحةِ أستاذهِ الجابري، في برهانيةِ المغربِ الرشديةِ وعرفانيةِ المشرقِ السينية، التي جاءت إليهِ عبرَ ابنِ عربي الأندلسيِّ من المغرب! حيث لا يزالُ من تلامذةِ الجابري من يذهبُ إلى أن حفريةَ المعنى مخصوصةٌ بمتفلسفي المغربِ، والتاريخُ للأفكارِ في شكلِ العلاقةِ بين العربيِّ والفلسفةِ محدودٌ بمتفلسفي المشرق!

على أيِّ حالٍ فإن د. بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ - حسب قوله - فلم يسبق له - غالباً - أن تبنَّى أيَّ أطروحةٍ، ما دامَ لا يشعرُ بامتلاكِه القدرةَ على صياغةِ عملٍ مرتبٍ (أكاديمياً)، وإنما هو يستلهمُ المفاهيمَ سواءً من دولوز أو غيرِه من فلاسفةِ فرنسا وألمانيا. فالمفهومُ الفلسفيُّ بالنسبةِ إليهِ آليةٌ لإعمالِ الفكرِ في اللامفكَّر فيه، متفاعلاً مع متغيراتِ الحياةِ وفوائضِ المعرفة - في جملةٍ من كتبِه (المقالية) العديدة ذات الصفحاتِ القليلةِ المكثفةِ الرشيقة - تأليفاً وترجمةً - نائياً بكتاباتهِ المثيرةِ للأسئلةِ عن مطولاتِ باحثي الفلسفةِ ومنظريها المشارقةِ والمغاربة. بل إنَّهُ يثورُ على نَسَقهِ الجينيالوجيِّ من آبائهِ (الحبابي والعروي والجابري)، وإن كان يبدو أقربَ إلى مؤلفِ «النقد المزدوج» و«الاسم العربي الجريح» تلميذِ رولان بارت عبدِ الكبيرِ الخطيبي بـ«ذاكرتهِ الموشومة»، مستخلصاً - بنعبدالعالي بجرحهِ وتعديلِه - من تجربةِ الخطيبي في النقدِ الأدبيِّ المتفلسفِ والكتابةِ الاجتماعيةِ والتاريخيةِ، ما جعلهُ يتماهى معه ويختلفُ معهُ في آن.

محمد رضا نصر الله

وإذ يشتغلُ بنعبدالعالي بعالمِ الفلسفةِ وكونيةِ الأدبِ والترجمةِ بتاريخِها المثقلِ بترجمةِ النصوصِ متعدّدةِ اللغاتِ، يقوم بمحو فعل الترجمة، نصّاً لا تشتم فيه رائحة اللغة الأخرى، بوصف الترجمة عملاً تراكمياً منعشاً... أو كما يُعبرُ كيليطو في مقدمتهِ المنبهرةِ بكتابِ صديقهِ «انتعاشةِ اللغة»، فلأنَّ تاريخَ الفلسفةِ هو في العمقِ تاريخُ الترجمة، كما هو ابنُ رشدٍ في ترجمتِه أرسطو، معتمداً على ما قامَ بهِ السريانُ العربُ المسيحيونَ من قبل، في ترجمةِ كتبِ أرسطو، خاصةً كتابيهِ «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفِهِما كتابينِ في المنطق. إذ عكف السريانُ على نقلِها لاستخدامها في مجادلاتِهم الدينية، التي «انتعشت» على أفكارهما، فقامَ تراجمتُهم وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمةِ كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكّكَ أبو سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفةِ المقتدر، بأنَّ متى لا يُحسنُ الترجمةَ من اليونانيةِ، رغم وجودِ رواياتٍ عن ترنُّمِ متى (منتعشاً) بأشعارِ هوميروس بأصلها اليوناني. وبسببِ تسلُّلِ المنطقِ الأرسطيِّ إلى بغدادَ العباسيةِ في ذروةِ انفتاحِها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي - لبنعبدالعالي أطروحةٌ لافتةٌ في فلسفتهِ السياسيةِ المدنية - يهتمُّ بالفكرِ اليونانيِّ ويؤلفُ عن «فلسفةِ أرسطوطاليس» و«الجمعِ بين الحكيمين» أي أفلاطونَ وأرسطو، وهما كتابانِ عُني بهما أستاذُ كرسي الدراساتِ العربيةِ بجامعةِ هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية».

هذا... وقد نفختِ الترجمةُ الحياةَ في نصوصِ الأغارقةِ، لتسري إلى الغربِ الأوروبي القروسطي، ممزقةً الظلامَ الكنسيَّ بنورِها المتثاقفِ المنعش، عبر الرشديةِ اللاتينيةِ حسبَ وصفِ إرنست رينان في كتابه الشهير «ابن رشد والرشدية». يقول بنعبدالعالي في كتابه «انتعاش اللغة» (لا تعني كونيةُ الآدابِ تطابقاً يذيبُ الآدابَ المحليةَ في وحدةٍ ميتافيزيقية، وإنما وعي الذاتِ بأن الآخر مكوّنٌ من مكوّناتها، فعندما «تذبل» الآدابُ القوميةُ «تنتعش» وترى الحياةَ من جديدٍ عن طريق الآخر).

نعم.. وهاك شعراء التفعيلة - مثلاً ساطعاً - فمنذ ترجمَ علي أحمد باكثير «روميو وجولييت» سنة 1936 من الإنجليزية إلى العربيةِ على وزنِ وحدة التفعيلة، خارقاً بمغامرتِه الجريئةِ جدارَ الوزنِ الخليليِّ التاريخي الصلب. ووجدنا الشعرَ العربيَّ المعاصرَ ينتعشُ على آثارِ تداعياتِ الحربِ العالمية الثانية، مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة متثاقفين - مباشرةً أو مترجمين - مع نصوصِ شكسبير وت. س. إليوت وأديث ستويل وغيرهم، مشكلين بإبداعهم الشعري نقيضاً موضوعياً لجثوم الاستعمارِ الأوروبيِّ المثلثِ بلغاتِه وآدابه، على مشرقِ العالمِ العربي ومغربِه. وكان اللبنانيُّ أمينُ الريحاني قد ألقى إلينا قبلهما من مهجرهِ الأمريكي - مبدعاً ومترجماً - بقعةَ ضوءٍ غيرَ معهودةٍ بقصيدة النثر، متأثراً بخطى الشاعرِ الأميركي والت ويتمان.

أما السيّاب فقد ألهبَ ذائقةَ المستعربِ الفرنسي جاك بيرك، وهو يُلقي قصيدة «أنشودة المطر» بلسانهِ الفرنسي على أبناءِ قريته، فوجدهم يبكون - كما أخبرني في لقاءٍ متلفز - وكأنَّه «جعلَ الغريبَ ضيفاً على دارهم»، كما يعبر بنعبدالعالي في كتابهِ، حيث تفاعلَ فلاحو القرية الفرنسية بعدما «أنعشتهم» ترجمةُ القصيدة، وكأنهم وجدوا في أجواءِ قصيدةِ السيّابِ قريتهِ جيكور ونخيلها وأشجارها ونهيرها الصغير... وجدوا فيها قريتهم مؤتلفين إنسانياً مع فلاحي جيكور، رغم بُعد المسافةِ بين ضفتي لغتهم.

إذن فالترجمةُ كما يقول بنعبدالعالي عبورٌ وحركةُ انتقالٍ عبر جسرٍ يأتي بالضفتينِ إليهما، متوسلاً بتعبير هايدغر الألماني «أن التعددية ليست تساكناً بين عدةِ أشكال، حيث لا ترمي الترجمةُ إلى توحيدِ اللغاتِ وإلغاء الاختلافِ بينها، وإنما إلى بعثِ الغرابة»، وهو ما يُمثِّله بنعبدالعالي عن ترجمةِ الشاعرِ والمترجم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام، حيث أعطى عمر الخيام مكاناً خالداً بين الشعراء العظام في فضاءِ الإنجليزية الثقافي. وكذلك فإن الشاعر الغنائي المصري أحمد رامي - هو الآخر - أعطى رباعيات الخيام عبر صوتِ أم كلثوم، بإعادةِ كتابتها مكاناً مؤثراً في الذوق العربي العام، بترجمتها من الفارسيةِ مباشرةً، وقد تعلَّمها في معهد اللغات الشرقية بباريس سنة 1924، سابقاً بها ترجمةَ أحمد الصافي النجفي العراقي، وإبراهيم العريض البحراني الأدق من الفارسيةِ مباشرةً، لتصبحَ هذه الترجمات لغةً ثالثةً، ذات طاقةٍ تأويليةٍ هائلةٍ في النص الخيامي المترجم.

غير أن السؤالَ المنتصب - هنا - يدورُ حول ترجمةِ النصوص عبر لغةٍ وسيطة، حيث قامَ سامي الدروبي - مثلًا - بترجمةِ رواياتِ تولستوي وديستويفسكي الروسية من الفرنسيةِ إلى العربية، ليكتشفَ المترجمُ المغربي إدريس الملياني الضليع في اللغةِ الروسية أخطاءً جسيمةً وقعت فيها ترجمات الدروبي.

أما حينما يستشهدُ بنعبدالعالي ببروست القائل «إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كُتبت بلغةٍ أجنبية»، فإنَّه يجعلني أتذكرُ على الفور مقولةَ عبد الفتّاح كيليطو (الكافكوية) في كتابه «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية»، مخاطباً القارئ العربي «أن تمرَّ عبر البعيد لتعرفَ القريب وتعترفَ به»، مستشهداً بما كتبه د. عبد الله العروي في كتابه «خواطر الصباح» حول كتابةِ أطروحتهِ المبكرةِ عن «الآيديولوجية العربية المعاصرة» التي لقيت اهتماماً عربياً، بسبب كتابتها بالفرنسية قبل ترجمتها إلى العربية.

لكن أليسَ ذلك يُشكل عقدة نقصٍ ثقافية؟

يُجيب كيليطو في نفس مورد كلامهِ أنها «لعنةٌ تثقل كاهلَ العربِ منذ أكثر من قرن».المعروف أن جهاتٍ فرنسيةً رسمية أصبحت تتبنى نشرَ بعض النصوصِ الروائية (المغاربية) المكتوبةِ باللغةِ الفرنسية، باعتبارها إبداعاً «فرانكفونياً»، خصوصاً حين يجدون في معالجاتها ما يدعم الصورةَ النمطية المقلوبة عن المجتمعاتِ العربية المرسومة (استشرافياً) في مخيلاتهم الأوروبية.

الكاتبةُ والمخرجةُ الجزائرية آسيا جبار التي قابلتها في فندق الوحدة بالجزائر صيفَ سنة 1978، واجهتْ هذه الصورةَ الاستخذائيةَ الذليلة، وقد جاءتني تحمل أحد مؤلفاتها المسرحية «عند احمرار الفجر» عن الثورةِ الجزائرية مترجماً من الفرنسية إلى العربية، فقد عجز - وقتذاك - لسانُها عن الحديث بالعربية، رغم استشهادها في مسرحيتها بأبياتٍ من الشعر العربي القديم، فما كان منها إلا أن ترقرقت دمعةٌ متحسرةٌ في مآقي عيونها، وهي تغادرني معتذرةً عن إجراء لقاء تلفزيوني إلى دارها.

هل لهذا اندلعت الخصومةُ القديمةُ الشهيرة بين طه حسين وزكي مبارك المتخرجينِ في فرنسا، وقد أخذ مبارك على طه حسين أنه خضع لأستاذه كازانوفا، بينما أصرَّ هو على الاختلاف مع أستاذه مرسيه، وهما يناقشان أطروحتيهما، مراهنين على ما نجح فيه بعدهما عبد الفتّاح كيليطو بمهارة، وهو يسعى في كتاباته النقدية الآسرة المبهرة «ألا يكتبَ كالأوروبيين وأن يختلفَ في الآن نفسه عن الكتاب العرب».

فيا ترى، هل هو نفسُ الرهانِ الصعب الذي يُحاوله بنعبدالعالي، وبندول أطاريحه يتراوحُ منذ عقودٍ، بين قطبي الفلسفةِ العربيةِ الإسلامية القديمة والفلسفة الأوروبية المعاصرة - مؤلفاً ومترجماً، محاولاً خلخلة الثقافة النمطية والمفاهيم السائدة؟