الشغف بالتاريخ والوفاء للمكان

عاد الكاتب والإعلامي قيس حسن في كتابه الجديد «فاروق وهالينا... أيام المسرة وسنوات الحرب» الصادر عن دار «نابو» البغدادية للنشر والتوزيع ديسمبر (كانون الأول) 2021، ليقدم لنا، وجبة جديدة من السيرة الذاتية «الغيرية»، أو الأحرى، ليواصل شغفه بالتاريخ والسيرة، لكنها ليست سيرته هو، إنما سيرة شخوص عرفهم خلال حياته، وذلك أمر اعتدنا عليه، نحن قراؤه من خلال كتابين أصدرهما في سنوات سابقة، الأول بعنوان: «تحت سماء الشيطان»، (طبع شتاء) 2013. وآخر عنوانه: «جبنة في علبة كبريت»، (طبع خريف 2016).
معظم الذين عرفوا قيس حسن واطلعوا على كتبه الثلاثة، يعرفون وبدقة ربما، أنه مسكون في أمرين أساسيين خلال فعل الكتابة الذي يقترفه: الأول شغفه بالتاريخ، والآخر شعوره العميق بالامتنان للمكان وللرفاق والأصحاب. ومن دون عناء كبير ربما، يمكننا أن نكتشف شغف قيس بالتاريخ وما يمثله بالنسبة لأبطال كتبه من خلال عبارة للكاتب توماس مان التي افتتح فيها كتابه الأخير «فاروق وهالينا»، تقول: «لا يعيش الفرد حياته الشخصية فحسب، بل حياة عصره وحياة جيله».
باكورة مؤلفات حسن الأولى «تحت سماء الشيطان» كانت عبارة عن «بورتريهات» مكثفة لقصص الأصدقاء والأصحاب الذين اختبروا أفظع الظروف وأكثرها شناعة في حقبة حزب «البعث» وحكم الديكتاتور الراحل صدام حسين. لكن قيس لم يقف عند ضفة كتابه الأول المليء باللوعة والذكريات الأليمة، وعبر ثانية إلى ضفة حياة أخرى، تزيدها ربما، ألماً وقسوة جسدها كتاب «علبة في جبنة كبريت»، الذي دون فيه حياة ثلاثة رجال وقعوا أسرى في الحرب.
في «سماء الشيطان» لم يستمع قيس إلى «شهادات الشهود»، إنما كتب ما اختزنته الذاكرة عن مواقف أصدقائه ورفاقه التي ربما لم تكن متطابقة بالضرورة مع ما كتبه، إنما رأى مآسيهم على تلك الشاكلة، ومن منا يؤاخذ خيال كاتب؟!
أما في «الجبنة»، فقد استمع لشهادات ثلاثة جنود كانوا قد وقعوا أسرى في الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) وتعرضوا لصنوف الحرمان والتعذيب في تلك السجون الرهيبة هناك، فدونها بأمانة!
ربما تكون خلفية ما كتبه قيس حسن في مؤلفين سابقين ضرورية وتمثل مدخلاً مناسباً للحديث عن كتاب «فاروق وهالينا» الذي نحن بصدد الحديث عنه، لكن قبل ذلك، يجدر التذكير، بأن شعور قيس المجرد بالامتنان والمحبة للأصدقاء لم كافياً على الدوام للكتابة، إنما يمكن أن نضيف لذلك سبباً آخر يتعلق بالطبيعة المأساوية والغريبة لقصة هذا الصديق أو ذاك وصلتها الوثيقة بظروف زمانها المر! وإلا فهو لم يكتب عن جميع الأصدقاء الذين عرفهم. ومع ذلك يبدو انحيازه وامتنانه لمكانه الأول في الكتاب شيء من الصعب التساهل معه. فغالبية أبطال وشخوص كتبه تحدروا من حي الكمالية الشعبي شرق العاصمة بغداد التي ولد وعاش فيها معظم سنوات حياته، والكتاب الأخير يكرس وجهة النظر هذه مثلما حدث في الكاتبين السابقين.
ففاروق بطل الكتب الجديد، هو معلم الرياضة النموذجي الذي شغف به قيس في سنين دراسته الأولى في مدرسته ابن كثير الابتدائية في الكمالية.
يتوزع الكتاب على نحو 20 فصلاً، ويبدأ في لحظة التطبيع المصري الإسرائيلي عام 1977. وما تلاه من هيجان عام في العراق والمنطقة العربية، وهكذا نكتشف أن قيس منذ اللحظة الأولى يحيلنا إلى لحظة تاريخية فارقة ربما ليس لها علاقة وثيقة بالمعلم، رغم أن في حياة فاروق بالنسبة لقيس «بعض من قصتنا بوصفنا أفراداً وبوصفنا مجتمعاً». ولا يفوت قيس في فصول الكتاب المتعاقبة فرصة أو لحظة من لحظات معلمه إلا وربطها في حادث أو تاريخ سياسي، انطلاقاً من سيرة عم المعلم فاروق الذي عمل في معسكر للإنجليز بعد دخولهم العراق عام 1914. ومروراً بالعهد الملكي ومشاهدة فاروق لبعض أعمال العنف و«السحل» التي ارتبطت بلحظة الانقلاب الجمهوري عام 1958.
ثم يستمر قيس بسرد سيرة معلمه وارتباطها بما جرى من أحداث جسيمة في العراق لأكثر من نصف قرن وصولاً إلى لحظة ما بعد 2003، التي فقد فيها شقيقه نتيجة أعمال العنف العبثية التي ضربت البلاد.
إذن أين الشيء الخاص في المعلم فاروق الذي دفع قيس للكتابة؟ لا شك أن قصة ارتباط فاروق بفتاة بولندية عام 1977، مثل الأساس والثيمة التي ارتكز عليها الكتاب وعنوانه. فقد سافر فاروق إلى أوروبا الشرقية وزار أكثر من دولة هناك عام 1976. وخلال ذلك التقى بالفتاة البولندية هالينا التي أحبها وتزوجها في العام التالي ثم عاد لبلاده على أمل العودة إليها بعد بضعة أشهر، لكن، ومثلما جرت العادة دائماً تجري رياح البلاد غالباً ضد سفن مواطنيها، منع فاروق بقرار رسمي من العودة بذريعة انتمائه للحزب الشيوعي، وهي تهمه ينفيها، وبعد 40 عاماً (2016)، وقبل نحو شهر من وفاة هالينا، تمكن فاروق من اللقاء بابنه الوحيد من هالينا (آدم) في إقليم كردستان.
وخلال الأربعين سنة تزوج فاروق في العراق وأنجب أولاداً وبنات وتقلبت به الظروف البلاد العسيرة صعوداً ونزولاً.
قدم لنا قيس في تجربته الأخيرة وفي التجارب التي سبقتها ومثلما كتب الراحل أحمد المهنا في المقدمة التي كتبها لكتاب (تحت سماء الشيطان): «ثمرة شقية وممتعة بما تضمنته من صور وأحداث وحفريات وشخصيات مختلفة عاشت جحيم المتر المربع المظلم، لأنها تلقي أضواء مهمة على تاريخ العراق الحديث والمعاصر».
ويرى الروائي الفائز بجائز «البوكر» العربية أحمد السعداوي أن «كتابة قيس حسن تقف في منطقة خاصّة، لا نجد فيها نصوصاً كثيرة مشابهة، فهو يستثمر التجربة الحياتية، الشخصية والعامة، لكتابة نصوص سردية ذات طابع سيري وتوثيقي. قياساً بمتن سردي صار كبيراً في زمننا هذا ومحجوز للاشتغالات السردية الفنية، الرواية بالذات».
ويقول السعداوي في حديث معنا: «إن قيس حسن لا يستثمر القصص التي عايش أحداثها أو سمعها من آخرين لتأثيث نصّ أدبي خيالي، وإنما لصناعة وثيقة عن مرحلة وزمن وتجربة عامة. لأن قيس يعتقد ربما، أن واقعية هذه التجارب التي يسطّرها ويحكيها لنا فيها دهشة أكبر مما لو تم تذويبها في النسيج الخيالي للنصوص الأدبية».