يساريون من دون يسار في تونس

صراع محتدم بين تياريهم «الاجتماعي» و«الآيديولوجي»

يساريون من دون يسار في تونس
TT

يساريون من دون يسار في تونس

يساريون من دون يسار في تونس

تابع الرئيس التونسي قيس سعيّد تعيين شخصيات يحسبها البعض على «اليسار الراديكالي» أو «اليسار الآيديولوجي» في مواقع استراتيجية في الدولة، رغم انتقادات خصومه ومعارضيه الذي يتهمونه بـ«الانقلاب على الدستور» و«احتكار كل السلطات التنفيذية التشريعية» و«محاولة السيطرة على القضاء والمجتمع المدني» منذ 25 يوليو (تموز) الماضي. وأشرف الرئيس أخيراً في قصر قرطاج على موكب رسمي لتنصيب محافظ العاصمة التونسية الجديد كمال الفقي، الذي اتهمته أوساط من المعارضة بالانتماء إلى «اليسار الآيديولوجي المتطرف» (مجموعة الـ«وطد»)، على غرار زوجته الناشطة اليسارية سنية الشربطي التي تزعمت الحملة الانتخابية لسعيّد عام 2019 مع شخصيات شيوعية معروفة بينها رضا شهاب المكي. وفي المقابل، يوجه تيار من رموز «اليسار الاجتماعي الديمقراطي» انتقادات حادة للرئيس سعّيد وانخرطوا بدورهم في جبهة معارضي قرارات 25 يوليو و22 سبتمبر (أيلول) الماضيين، التي أدت إلى تعليق الدستور وحل البرلمان والحكومة التي نالت ثقته العام الماضي.
فما حقيقة وضع اليسار التونسي في ظل المتغيرات التي تشهدها البلاد وتعمق التناقضات بين «اليسار الاجتماعي» و«اليسار الآيديولوجي»؟ وهل ينجح النشطاء اليساريون في تعديل المشهد السياسي مجدداً، تفاعلاً مع دعاة تشكيل «كتلة تاريخية» بمفهوم أنطونيو غرامشي -الزعيم اليساري الإيطالي مطلع القرن الماضي- الذي دعا إلى «تحالف قيادات اليسار من شمال البلاد مع قيادات الكنيسة في الجنوب»... أم تُستنزف طاقاتهم بسبب حدة صراعات قياداتهم على المواقع ومأزق «الزعاماتية»؟
رأى الزعيم الحقوقي واليساري عز الدين الحزقي، أحد مؤسسي حركات اليسار ومنظمات حقوق الإنسان في تونس منذ 50 سنة، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن أولوية الأولويات بالنسبة لليسار يجب أن تكون دعم الحريات وحقوق الإنسان. وأورد أنه «لا بد من التمييز بين صنفين من اليساريين في تونس وفي كامل المنطقة: اليسار الحقوقي الديمقراطي والاجتماعي من جهة، واليسار الآيديولوجي المتطرف من جهة أخرى».
واعتبر الحزقي، الذي كان من مؤسسي «رابطة حقوق الإنسان» التونسية أواخر السبعينات من القرن الماضي، أن «اليساريين في تونس والعرب لعبوا دوراً كبيراً خلال السنوات الخمسين الماضية في النضال من أجل الحريات العامة والفردية والحوار مع كل التيارات والشخصيات الوطنية والقومية والإسلامية». واستدل الحزقي بأسماء شخصيات ديمقراطية من رفاقه السابقين مثل نور الدين بن خذر وجلبار النقاش وخميس الشماري وأحمد كرعود والهاشمي الطرودي... وقد انفتحوا جميعاً على كل التيارات اليسارية والوطنية والإسلامية المعتدلة. إلا أنه تابع فاتَّهم بعض قيادات اليسار التونسي الجديد بـ«الانحراف» وبـ«الابتعاد عن القيم الديمقراطية الكونية والتحالف مع حكومات الاستبداد» خلال العقود الماضية ثم مع حكومة «الانقلاب» الحالية -حسب تعبيره- «لأسباب آيديولوجية حيناً، وخدمةً لمصالح شخصية ضيقة حيناً آخر».
- انقسامات خطيرة...
في السياق نفسه توقف المحامي الحقوقي والزعيم اليساري عبد الرؤوف العيادي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عند تعقيدات «العلاقة بين أزمة اليسار التونسي والعربي وانخراط قيادات يسارية في معارك آيديولوجية عقيمة تسببت في تحالفهم مع خصومهم، أي مع حكومات الاستبداد منذ 40 سنة، وتناسوأ السنوات التي أمضوها بدورهم في السجون وزنزانات التعذيب، بمجرد أن تلك الحكومات قمعت خصومهم السياسيين والآيديولوجيين، خصوصاً منهم بعض المحسوبين على «التيار الإسلامي» أو «تيارات الهوية».
وأورد العيادي، الذي كان من أبرز مؤسسي حركتي «العامل التونسي» و«اليسار الماركسي التونسي» في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، أن اليساريين التونسيين منقسمون اليوم مجدداً بين مجموعتين «لأسباب آيديولوجية». إذ تساند المجموعة الأولى قرارات قيس سعيّد يومي 25 يوليو و22 سبتمبر الماضيين وتعدّها «حركة تصحيحية» وتطالب الرئيس بـ«عدم التراجع عنها» وبحل الأحزاب والمجموعات السياسية المعارضة لها، ومنها حزب حركة «النهضة الإسلامية»، وحزب «حراك تونس الإرادة» الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، وأحزاب «المبادرة الديمقراطية» اليسارية بزعامة أحمد نجيب الشابي، وحركة «مواطنون ضد الانقلاب» بزعامة الجامعي اليساري جوهر بن مبارك والأكاديميين الحبيب بوعجيلة وزهير إسماعيل. أما المجموعة الأخرى فلا تتورط في «المعارك الآيديولوجية» وترى أن أولوية الأولويات بالنسبة إلى اليسار الاجتماعي - الديمقراطي هو الانحياز للطبقات الشعبية وللعمال ولضحايا القمع والاستبداد، ولكن في الوقت نفسه لا بد أن يعارض «الانقلاب على الدستور باستخدام القوة العامة»، على حد قوله.
في ظل هذه «الانقسامات الخطيرة» رأى الرئيس المؤسس لحزب التيار الديمقراطي الوزير السابق محمد عبو، أن «من بين غلطات الرئيس قيس سعيد، وبعض الأحزاب والمنظمات المحسوبة على اليسار منذ منعرج 25 يوليو ما كان لها مفعول عكسي، وأجهضت خطة محاسبة الفاسدين وأحزاب المنظومة التي حكمت البلاد منذ مطلع 2011 –حسب عبو- وبينها قيادات أحزاب (النهضة، وقلب تونس، ونداء تونس، وتحيا تونس)».
كذلك، اتّهم قياديون متشددون من اليسار الماركسي والقومي زعيم حزب العمال الشيوعي حمة الهمامي ورفاقه بالتحالف مع «حركة النهضة» ومع «الأحزاب البرجوازية» بسبب تصريحاته التي عارض فيها قرارات 25 يوليو و22 سبتمبر الماضيين واتهم خلالها رئيس الجمهورية بـ«الانقلاب على الدستور وعلى الديمقراطية اعتماداً على قوات الأمن والجيش».
- يساريون من دون يسار
في سياق متصل، يرى زعيم اليسار الطلابي السابق علي بالمبروك المهذبي أن «من بين معضلات البلاد تشرذم اليساريين منذ أكثر من خمسين سنة بين مجموعات سياسية وحزبية ومنظمات قانونية وغير قانونية بالجملة متنافرة، إلى جانب تورط بعض زعمائهم ورموزهم في توظيف النقابات العمالية والطلابية والمنظمات الحقوقية خدمةً لمصالح شخصية»... ويضيف: «هذا أفقد معظمهم الكثير من مصداقيتهم» رغم نجاح بعضهم في تسلم حقائب وزارية ومسؤوليات عليا في الحكومة وفي قصر الرئاسة وعلى رأس المؤسسات الإعلامية والثقافية والسياسية والدبلوماسية إبان عهدي بورقيبة وبن علي»... وكان –وفق المهذبي- من بينهم ماركسيون وماويون (نسبة إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ) ممن أسسوا الحركات اليسارية «آفاق» و«العامل التونسي» و«الشعلة» و«حزب الوطنيين الديمقراطيين».
وما يجدر ذكره هنا أن بين «الزعماء اليساريين» الذين تقلدوا مسؤوليات حكومية عليا في عهد زين العابدين بن علي الخبير القانوني محمد الشرفي، وعالم الاجتماع المنصر الرويسي، والخبير الاقتصادي أحمد السماوي، والأمين العام السابق لاتحاد الطلبة سمير العبيدي.
في المقابل، عدّ الإعلامي والكاتب اليساري منجي الخضراوي في سلسلة من المقالات نشرها في الصحف التونسية أنه رغم «احتلال اليساريين بعد ثورة 2011 مواقع مهمة» في الدولة وعلى رأس النقابات ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية فإنهم ظلوا «يساريين من دون يسار». وقال الخضراوي إن اليساريين بقوا مشتتين بين مجموعات من الشخصيات والنشطاء السياسيين «التقدميين» المنشقين عن عدة حركات وأحزاب من دون أن ينجحوا في تشكيل هيكل يساري كبير يوحّد بين تحركاتهم... ونقطة ضعف هؤلاء أنهم ليسوا مؤهلين لتحريك الشارع خارج سياق النقابات. وكانت التجربة اليسارية الموحدة القوية الوحيدة بعد «ثورة 2011» هي «الجبهة الشعبية» التي وحّدت أكثر من 10 أحزاب يسارية وبعثية وقومية وتزعمها حمة الهمامي وشكري بلعيد في 2013، إلا أن نقطة ضعف تلك «الجبهة»، حسب تصريح الزعيم اليساري السابق أبو السعود الحميدي لـ«الشرق الأوسط»، أنها لم تتفق على «بديل للحكومات والنظام السياسي الحاكم» بل وضعت على رأس أولوياتها «محاربة الآخر»، وبخاصة قوى «الإسلام السياسي».
وهنا لا بد من الإشارة إلى تزايد تأثير هذه «الجبهة» السياسية بعد اغتيال زعيميها شكري بلعيد ومحمد البراهمي وفوزها في انتخابات 2014 بـ15 مقعداً في البرلمان. أيضاً فاز مقربون منها بعضوية البرلمان وبمواقع حكومية بعد انخراطهم في حزب «نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السبسي وتحالفهم معه ومع «المنظومة القديمة» في الانتخابات الرئاسية ضد منافسه المنصف المرزوقي. لكن كلفة ذلك التحالف كانت باهظة، إذ مُني مرشحو اليسار و«الجبهة الشعبية» و«حزب نداء تونس» بخسارة جسيمة في انتخابات 2019 أدت لخروجهم من البرلمان.
كذلك، أسفرت الانتخابات الرئاسية عن هزيمة مدوية لرموز «اليسار» الذين تقدموا إليها متنافرين بينهم حمة الهمامي وعبيد البريكي ومحسن مرزوق وناجي جلول ومنجي الرحوي وإلياس الفخفاخ ومحمد عبو وزهير المغزاوي. وكانت تلك الهزيمة مدخلاً لتحالف بعضهم بعد ذلك مع أنصار الرئيس قيس سعيّد الذي عيّن «الديمقراطي الاشتراكي» إلياس الفخفاخ رئيساً للحكومة الأولى مطلع 2020، ولقد عيّن أيضاً شخصيات يسارية وحقوقية ونقابية بارزة في حكومته أو في فريق مستشاري قصر الرئاسة في قرطاج كان من بينهم الطبيب فتحي التوزري والمحاميان العياشي الهمامي ومحمد عبو والإعلامية رشيدة النيفر وشخصيات قومية ناصرية وبعثية ولم يكن غريباً أن يتصدر المشهد الحكومي والبرلماني والسياسي قوميون ويساريون سابقون انخرط بعضهم منذ 2020 في حملات وتحركات للمطالبة بحل البرلمان والأحزاب. ونظم يساريون آخرون حملات في نفس الاتجاه من خارج الحكومة بينهم الوزيران والنقابيان اليساريان السابقان ناجي جلول وعبيد البريكي. ثم مهّدت تلك التحركات لتحالف قطاع من «اليسار الآيديولوجي» مع الرئيس سعيّد وأنصاره بعد «حركة التصحيح في 25 يوليو».
ومقابل ذلك، انحاز عدد من رموز «اليسار الاجتماعي والديمقراطي» ضدهم، وأسسوا جبهات سياسية وصفت نفسها بأنها «معارضة للانقلاب»، انفتحت على شخصيات من مرجعيات فكرية وسياسية مختلفة... بين هؤلاء عبد الرؤوف بالطبيب السفير والمستشار السابق للرئيس قيس سعيّد، ورضا بالحاج المحامي اليساري والوزير المستشار السابق في رئاسة الجمهورية في عهد الباجي قائد السبسي، وعصام الشابي وعبد اللطيف الهرماسي ورفاقهما في «الحزب الجمهوري»، وشخصيات معتدلة من حزب «حركة النهضة» بينهم أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية العجمي الوريمي والبرلمانية فائزة بوهلال.
- ورقة اليسار النقابي
إلا أن الورقة الأهم اليوم بالنسبة إلى اليسار «الاجتماعي الديمقراطي» هي ورقة اتحاد نقابات العمال، حسب الأكاديمي والقيادي السابق في الحزب الديمقراطي التقدمي اليساري الحبيب بوعجيلة. فقد أورد بوعجيلة -الذي يتصدر هيئة حركة «مواطنون ضد الانقلاب» مع شخصيات يسارية وليبرالية وحزبية متعددة الألوان- في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الحركة تعد أمين عام نقابات العمال نور الدين الطبوبي، وغالبية قيادات اتحاد الشغل، مستقلين عن كل الأحزاب أو من بين المساندين لليسار المعتدل والاجتماعي. وأردف أن الطبوبي وغالبية رفاقه يتمسكون بالعودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني، وأنهم يعارضون «الانقلاب على الدستور وعلى البرلمان المنتخب وعلى الحكومة التي منحها ثقته بأغلبية الثلثين أكثر من مرة» رغم انتقاداتهم لحزب «حركة النهضة» وللمنظومة السياسية السابقة.
- «حركة تصحيح»
لكن ماذا عن مواقف قياديين بارزين في اتحاد الشغل ممن ساندوا قرارات 25 يوليو ووصفوها بـ«حركة تصحيح» مثل سامي الطاهري وسمير الشفي والأسعد اليعقوبي ورفاقهم «القوميين والبعثيين والتروتسكيين والماركسيين»؟
الحبيب بوعجيلة يرى أن الديمقراطيين الذين تجمعوا حول حراك «مواطنون ضد الانقلاب» و«المبادرة الديمقراطية» يعدّون الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي «الناطق الرسمي القانوني الوحيد» للنقابات. وهم يثمنون مواقفه الديمقراطية ويتعاملون مع معارضيه داخل النقابات بصفتهم الحزبية والآيديولوجية سواء كانوا من أقصى اليسار «الشيوعي» أو «الماركسي اللينيني» أو من بين البعثيين والقوميين «العروبيين» أو من بين الإسلاميين...
لكن من بين المعضلات التي يعاني منها اليسار التونسي منذ عقود -حسب عبد الرزاق الهمامي ومحمد العربي عزوز ونعيمة الهمامي ونخبة من مؤسسي «حركة الشعلة» اليسارية ومجموعات «الوطنيين الديمقراطيين»- أن بعض رموز «اليسار الراديكالي» لم يتصالحوا مع ثقافة مجتمعهم... بل دخلوا في صراعات آيديولوجية لها علاقة بـ«المتغيرات الدولية في الأحزاب الشيوعية والاشتراكية العالمية» وانفجار الخلافات بينها حول تقييمها لسياسات قيادات الاتحاد السوفياتي والصين وألبانيا وكوبا وبقية الدول المحسوبة على الاشتراكية والشيوعية و«القوى التقدمية». لكن بعض رموز اليسار النقابي الراديكالي السابقين، مثل أحمد الكحلاوي، قاموا بمراجعات منذ تسعينات القرن الماضي وأصبحوا يتهمون اليسار التونسي والعربي «التقليدي» بـ«الانحياز للاستعمار ضد الحركات الوطنية» خلال مرحلة الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي والبريطاني. كما اتهموهم بالوقوف ضد حركات التحرر الوطني الفلسطينية «لأسباب آيديولوجية».
في هذه الأثناء، يتهم خصوم الرئيس التونسي بأنه يسعى وأنصاره إلى كسب ود «اليسار الآيديولوجي» وتوظيفه في معركته ضد معارضي «حراك 25 يوليو» لا سيما «حركة النهضة» وحزب «قلب تونس». وهذا في حين دخل مئات من المثقفين من تيارات مختلفة في سلسلة تحركات وإضرابات الجوع والاعتصامات لتوسيع الجبهة المعارضة لمسار 25 يوليو وتشكيل «جبهات توافق حول المشترك الاجتماعي والديمقراطي والوطني». وهو ما يفتح باب التساؤلات عمن ستكون له الكلمة الفصل؟ ومن سيكسب ورقة التحالف مع «اليسار الاجتماعي» وكوادر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعد لعقد مؤتمره الوطني الدوري الشهر المقبل؟
- عز الدين الحزقي... يساري عارض حكم بورقيبة وبن علي ويتزعم معارضي سعيّد
> برز أخيراً على الساحة الإعلامية والسياسية التونسية المناضل الحقوقي اليساري عز الدين الحزقي (78 سنة) الذي كان قد سُجن في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي بسبب أنشطته المعارضة منذ أواخر الستينات من القرن الماضي.
الحزقي، الذي أصبح يتصدر المؤتمرات الصحافية وإضرابات الجوع والمسيرات، من أبناء محافظة صفاقس وسط البلاد (270 كلم جنوبي العاصمة تونس) ونشأ في منطقة جبنيانة التي خرج منها طوال العقود الماضية عشرات المعارضين والنقابيين. ولقد سُجن الحزقي أواخر الستينات ثم في السبعينات من القرن الماضي بسبب أنشطته السياسية المعارضة ضمن حركتي «آفاق» و«العامل التونسي» اليساريتين.
وفي عهد زين العابدين بن علي قدم ترشحه للانتخابات الرئاسية في 1989 لكنّ طلبه رُفض، فتابع التعبير عن مواقفه المعارضة بحدة مما تسبب في إيقافه وسجنه مراراً.
لقد كان الحزقي من بين مؤسسي «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» أواخر السبعينات ثم بقي عضواً في مجلسها الوطني. وبعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 أسّس جمعية «دستورنا» التي ترأسها بعده نجله أستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية جوهر بن مبارك. وطوال العشرية الماضية شارك الحزقي في اعتصامات ومسيرات ضد كل الحكومات. وبعد قرارات 25 يوليو الماضي الرئاسية أصبح يتزعم حراك «مواطنون ضد الانقلاب» الذي يضم شخصيات من عدة تيارات سياسية ومستقلين. وأخيراً نشير إلى أن عز الدين الحزقي دوّن مذكراته السجنية في كتاب قدم فيه شهادات طريفة اختار له عنواناً «نظارات أمي»...



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».