فصول من سيرة احتضار بيروت وانهيارها الكبير

جولات في شوارع العاصمة التي أصبح وسطها التجاري «مدينة أشباح»

الظلام يخيّم على بيروت (أ.ف.ب)
الظلام يخيّم على بيروت (أ.ف.ب)
TT

فصول من سيرة احتضار بيروت وانهيارها الكبير

الظلام يخيّم على بيروت (أ.ف.ب)
الظلام يخيّم على بيروت (أ.ف.ب)

بيروت تحتضر وتسير إلى موتها وسط الآم مبرحة. يصعب تحديد موعد دقيق لبداية نهاية العاصمة اللبنانية مقابل اتفاق عام على تاريخ نهوضها وتألقها.
في السطور التالية حصيلة جولات على القدمين وبالسيارة، ليلاً ونهاراً في بعض شوارع بيروت، ومنها ما لا يتناوله الإعلام غالباً، وخلاصة أحاديث مع عشرات من المقيمين والمكابدين للعيش هنا. ولا تزعم الكلمات هذه الإحاطة بكل وجوه حياة البيروتيين ولا معاناتهم اليومية. لكنها شهادة جزئية عما يدور في منأى عن اهتمامات السلطة.
اختيار المدينة عاصمة لولاية بيروت العثمانية مترامية الأطراف بعد حرب 1860 وإنشاء المتصرفية في جبل لبنان في أعقاب المجازر الطائفية هناك، ثم افتتاح المرفأ الكبير في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، تاريخان مميزان استكملا إعادة اكتشاف إمكانات المدينة التي بدأها إبراهيم باشا أثناء حملته في بلاد الشام. بداية الحرب الأهلية في 13 أبريل (نيسان) 1975 موعد مرجح لمسيرة الأفول العظيم. يومذاك انتهت بيروت كمختبر للثقافة العربية وملجأ للحريات، كما خسرت دورها كمركز مالي واقتصادي وسياحي.
اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 2005 موعد آخر لمرحلة جديدة من التراجع. حطّم الاغتيال الانتعاش الذي شهده لبنان في التسعينات ومشروع أحياء وسط بيروت على الرغم من وقوع المشروع هذا ضمن التصورات النمطية لرجال الأعمال والمقاولين. وأدخل البلاد في أزمة سياسية ظلت تتفاقم حتى بلغت الانهيار الكبير في 2019. إزاحة رفيق الحريري كانت عملية دقيقة لتغيير التوازنات السياسية في لبنان والإمساك به وعدم السماح له بأي قدر من الاستقلال. وبالاغتيال هذا وبسلسلة من عمليات القتل والتفجير المدروسة، فقدت بيروت الكثير من دورها كمركز سياسي لمصلحة أحزاب يمت أغلبها بأكثر من صلة ونسب إلى العصبيات الريفية وسياسات الثأر والانتقام وكراهية المدينة وحياتها وقيمها المرذولة في عرف القوى المذكورة الآتية إلى السياسة من الحرب والقتل والاغتيال. اجتياح بيروت في السابع من مايو (أيار) 2008 كان تكريساً لما رمى إليه إقصاء الحريري ذاك الإقصاء الدموي والعنيف عن المشهد العام.
أزمة النفايات في 2015 أشارت إلى تعمق الحس المناطقي من خلال الإصرار على رفض فتح مكبات لنفايات العاصمة خارجها وقصور القائمين على شؤون بيروت على تدبر حل لهذه المسألة في معزل عن عقلية الفساد السائد بينهم. وإذا كانت بيروت عاصمة لكل لبنان وحاضنة لمؤسسات الدولة ولكبرى الجامعات والمستشفيات والمدارس، فإن ذلك لا يعني في تصور السلطة اللبنانية بأشكالها وتعابيرها المختلفة، أن يكون من حق المدينة تصدير نفاياتها التي يتشارك في إنتاجها كل اللبنانيين المقيمين فيها، إلى خارج نطاقها الإداري. لا شك في أن عوامل عدة أوصلت إلى النتيجة هذه، منها تخلف الخطاب والممارسة السياسيين لأصحاب الأكثرية النيابية في بيروت. وهذه من المآسي المسكوت عنها إلى اليوم.
سنة 2019 كانت نهاية مرحلة العلاج بالمسكنّات التي اعتمدها التحالف الحاكم منذ 2005. انكشف حجم الخداع الذي مارسته أحزاب وتيارات التحالف وظهر لبنان كبلد «دُفع عمداً» – بحسب تقرير للبنك الدولي - إلى واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في العالم منذ 1857. كان وقع الكارثة ساحقاً على العاصمة. توقفت إشارات السير واختفى عناصر الأمن الداخلي الذين تبخرت رواتبهم تبعا لانهيار قيمة الليرة مقابل الدولار الأميركي. وساد شعور أن البلد متروك من دون مرجعية قانونية تنظم الخلافات من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً. أنه اقتراب من «الحالة الطبيعية» بتعبير هوبز. حالة حرب الجميع ضد الجميع. اللجوء إلى السلاح والعنف العاري مؤجل فيها، إلا أن التهديد به واستخدامه موضعياً، مثل اغتيال ناشط معارض، لا يتوقفان.
لم تكن الحياة وردية قبل نزول آلاف الشبان إلى شوارع وسط بيروت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. كان الفساد والرشوة والاستقواء بالسلاح قد أصبحت كلها من المظاهر اليومية. كما كانت حياة المدينة الثقافية والاجتماعية تتراجع طرداً. أقفلت صحف عريقة. أعلنت أخرى وصولها إلى حد الإفلاس. تراجعت إصدارات الكتب وانحدر مستواها. وتفاقم انسداد سبل الاستثمار الاقتصادي حيث لم يبق غير التجارة في العقارات، وخصوصاً الشقق الفخمة في وسط العاصمة وبعض الأحياء المطلة على البحر وتوظيف الأموال في سندات الخزينة اللبنانية؛ ما سيكون له عواقب هائلة في تدمير الاقتصاد وانهيار القطاع المصرفي.
من مظاهر الفساد السابقة على «17 تشرين» كان الاستيلاء على جزء من شاطئ الرملة البيضاء وبناء فندق فخم عليه من قِبل أشخاص محسوبين على جهة ميليشياوية نافذة. وعبر مجموعة من الألاعيب والبهلوانيات القانونية شارك فيها كبار القوم واستفادوا منها، نهض الفندق على الشاطئ العام وما زال هناك كصفعة على وجه القانون وبيروت. ولم يتورع المقاول المنفذ للمشروع والمحسوب بداهة على عائلة السياسي المعني، عن إلقاء حمولات من الإسمنت في مجاري الصرف الصحي لتحويل مصباتها بعيداً عن الفندق؛ ما أدى إلى انفجارها وفيضانها على الشوارع المحيطة. وعلى بعد مئات من الأمتار استولى سياسي آخر على واحدة من الفسحات النادرة للنزهة في المدينة هي ما يسمى «مينة (ميناء) الدالية» وأقفلها أمام العموم، ووضع فيها مئات المكعبات الإسمنتية بذريعة شرائه الأرض ضمن سلسلة لا تقل حصافة عن بهلوانيات زملاء في الرملة البيضاء. السياسيان المستوليان على الملك العام في المكانين ينتميان إلى طائفتين وتيارين متنافسين في العلن، لكنهما متفقان في السر على نهب المال العام.
في الوقت والسياق ذاتيهما، هُدمت حديقة المفتي حسن خالد وقُطعت أشجارها. وتحولت إلى مساحة فارغة ضمن مشروع لبناء مواقف سيارات تحت أرضها. بيد أن التمويل توقف بسبب الأزمة وضياع المخصصات المرصودة. الحديقة اليوم عبارة عن قطعة أرض رملية مقفلة. لا يمكن لسكان المنطقة المحيطة دخولها بسبب خلوها من المقاعد والمنشآت وألعاب الأطفال التي اقتلعت من قبل تحالف الفساد والسياسة. وها هي علامة على انحطاط المدينة وتفريغها من دورها والخلفية التي يأتي منها سياسيو العاصمة الذين لا قيمة تعلو عندهم على قيمة الربح السريع مهما كان مشبوهاً.
- «المصارف المدرعة»
بعد اندلاع مظاهرات «17 تشرين» واتضاح دور المصارف في الانهيار والاستيلاء على أموال المودعين وحجبها عنهم، عمد أصحاب المصارف ومديروها إلى تحصينها وتصفيحها وزيادة صعوبة إجراءات الدخول إليها. في الأشهر الأولى للأزمة، كانت المصارف مراكز صدام يومي بين المودعين والإدارات الممتنعة عن إعادة الأموال إلى أصحابها. وانتشرت العديد من المقاطع المصورة على وسائل التواصل يظهر فيها موظفو المصارف وحراسهم يعتدون على المطالبين بحقوقهم. ولا مفر من القول إن المصارف ومن دون استثناء وقفت موقفاً معادياً للصغار من زبائنها في حين تواطأت في تهريب أموال كبار المودعين والسياسيين إلى الخارج. ثمة تقاطع لا يُنكر بين السياسيين وأصحاب الودائع الضخمة. تقاطع يصل إلى حد التماهي، حيث يتجسد الفساد والسطوة السياسية على شكل وديعة مصرفية دسمة.
انحازت الدولة بأجهزتها إلى جانب المصارف ومنعت القضاء من النظر في الدعاوى التي تقدم بها أصحاب الودائع. وباتت فروع المصارف المدرعة مشهداً مألوفاً في بيروت، حيث غابت الواجهات الزجاجية البراقة والإعلانات عن تسهيلات في منح القروض والفوائد المرتفعة، وأشكال بطاقات الائتمان الملونة التي تستهدف مختلف شرائح السكان، ليحل مكانها اللونان الرمادي أو الأسود لصفائح فولاذية سميكة يكفي مظهرها لردع من تسول له نفسه المطالبة بحقه أو بتحويل مصروف ابنه أو ابنته اللذين يدرسان في الخارج.
- الوسط التجاري
منذ الطلقات الأولى للحرب الأهلية، كان وسط بيروت التجاري مركز كل الصراعات والحروب. بعد الحرب شهد الوسط صراعاً من نوع آخر حول كيفية بنائه وحقوق قدامى المالكين والمستأجرين وحل المشكلات القانونية العويصة التي تراكمت أثناء مدة الحرب. كما شهد الوسط خلافاً عميقاً حول هويته العمرانية والسكانية وأهمية استعادة دوره كمصهر حقيقي للهوية اللبنانية التي تفرقت على معازل ونواحٍ لا تعرف الاختلاط والتنوع الطائفي والثقافي وتعلي من قيمة الانعزال والنقاء.
معلوم أن توجهاً راهن على إحياء وظيفة لبنان الاقتصادية السابقة للحرب الأهلية كمركز للوساطات التجارية ومقر للشركات العالمية، هو الذي انتصر في نهاية المطاف من دون أن يأخذ في الاعتبار التغيرات الجذرية التي شهدها الشرق الأوسط في سبعينات وثمانينات القرن العشرين. تغيرات وتبدلات لم تأخذ في الاعتبار الدور اللبناني السابق ولم تحفل بمحاولات العودة إلى إشغاله من دون إعادة نظر في وظيفة لبنان الاقتصادية الإقليمية ولا في دوره السياسي المنكمش بفعل الوصاية السورية ولا بتراجع الحياة الثقافية والصحافية فيه؛ نظراً إلى تدهور أوضاع الحريات فيه.
احتلال وسط بيروت بين 2006 و2008 من قِبل «حزب الله» وأنصاره لإرغام الحكومة الموالية لقوى 14 آذار في ذلك الحين على التخلي عن مشروع المحكمة الدولية المولجة بمحاكمة المسؤولين عن اغتيال رفيق الحريري، انتهى إلى إفقاد الوسط الأهمية التي كان يسعى إلى اكتسابها في العقد الأول من الألفية. العشرات من المطاعم والمقاهي والمؤسسات السياحية أقفلت في حين راهنت أخرى على استئناف نوع من النشاط التجاري تتصدره محال السلع الفاخرة.
تركز المظاهرات بعد «17 تشرين» في الوسط لاحتوائه على مقر رئاسة الوزراء في السراي الكبير وعلى المجلس النيابي في ساحة النجمة، برر للسلطة إطلاق عملية تحصين شاملة. مداخل الوسط اليوم تبدو كالقلاع. الحواجز الإسمنتية تمتد من مقر الأمم المتحدة في مبنى «الإسكوا» وتحيط بساحة رياض الصلح وتغلق شارع المصارف. وعلى جميع المفارق ترتفع جدران إسمنتية عالية تعلوها أسلاك شائكة. وتحيط الجدران هذه بالقسم القريب من مجلس النواب بما فيه شارع المعرض والمسجد العمري وشارع المصارف. وتسري شائعات - لا تخلو من الصحة - أن رئيس المجلس النيابي تعمد فرض هذا النوع من الإغلاق الخانق على جزء كبير من الوسط التجاري؛ أملاً في الحصول على حصة من شركة «سوليدير» التي تدير الأعمال العقارية في الوسط وما زالت تخضع لنفوذ آل الحريري.
الجزء الشمالي من الوسط التجاري الواقع بين شارع ويغان والطريق البحرية، لا يبدو أفضل حالاً. هذا الجزء الذي نجا من الإغلاق المتعمد الذي قتل الجزء الجنوبي والذي يضم أسواق بيروت وعدداً من صالات السينما والمقاهي، يبدو أثناء جولة نهارية خالياً تماماً. متاجر قليلة تفتح أبوابها. الأغلبية إما مقفلة على بضائع أو فارغة. في بعض المحال ما زال حطام الزجاج والديكور المدمر جراء تفجير الرابع من أغسطس (آب) 2020 موجوداً مثلما تركه أصحابه. في حين تعمل رافعة وحيدة في المبنى الذي كان يعرف باسم «الاوريان لوجور». مبنى زها حديد الذي أصابه حريق كبير في الأسابيع التي تلت تفجير المرفأ يشهد حركة ترميم خجولة بعدما تُرك عامين يحمل وشماً أسود على جدرانه.
الشق البيروتي، إذا جاز التعبير، من انتفاضة «17 تشرين»، تركز في وسط بيروت، وخصوصاً بين ساحتي رياض الصلح والشهداء، ثم في شارع ويغان والمداخل الشمالية لساحة النجمة. وبين الساحتين، في موقف اللعازارية، نصبت عشرات الخيم للمجموعات «الثورية» وأقيمت مئات الندوات والحوارات واللقاءات، بل وقعت صدامات بين أتباع الأحزاب المهيمنة والمتظاهرين. وعلى الحد الجنوبي للوسط، كان تقاطع الرينغ ساحة دائمة لهجمات رعاع السلطة وميليشياتها على المتظاهرين. مصهر الهوية اللبنانية، كاد أن يستعيد دوره لولا أن أُجهضت الحركة الشعبية العارمة على أيدي التحالف المعروف.
وباستثناء بعض الواقفين أمام شركة لتقديم تأشيرات السفر قرب ساحة الشهداء وعدد من المحال القريبة من مبنى بلدية بيروت، يبدو الوسط التجاري وكأنه مدينة اشباح. مرة جديدة تشكل هذه المنطقة من بيروت بارومتر للضغط السياسي في البلاد. فيتكثف فيها كل الشلل والعجز الذي أصاب لبنان. انتظار طويل لشيء لا يعرف أحد ما هو أو إذا كان سيحصل أصلاً.
- الحمراء
لشارع الحمراء ومنطقة رأس بيروت خصوصية في التركيبة المدنية. الشارع الذي دبت الحياة فيه أواسط ستينات القرن الماضي مع افتتاح دور السينما التي كانت تبحث عن أماكن أقل صخباً من وسط العاصمة، وانتقال مراكز الصحف إليه ثم انتشار المقاهي على جوانبه، تحول إلى شريان الحياة الثقافية في لبنان لفترة طويلة. وليس المقصود بالحياة الثقافية جملة الثرثرات والنمائم في المقاهي، بل المغامرة الكبيرة التي خاضها مئات من ألمع المثقفين العرب لصوغ مستقبل عربي بريء من الاستبداد ومستجيب لضرورات العصر. يمكن الزعم من دون مبالغة أن بعض أكثر فصول هذه المغامرة إثارة جرى في شارع الحمراء في بيروت.
دُور النشر والصحف والمسارح بحثت عن مواطئ حضور في الشارع. وسرعان ما استقبل المكتبات ومحال الألبسة العصرية من دون أن يبخل على الباحثين عن الوجبات السريعة والعصائر والمثلجات. ونزولاً من الحمرا في اتجاه البحر كانت المطاعم الفاخرة وبعض الفنادق. أما شماله فالجامعة الأميركية وطلابها الموزعون على محال شارع مميز آخر في رأس بيروت هو شارع بلس.
بعد إقفال الوسط التجاري في اعتصام 2006 – 2008، انتقل عدد من المطاعم والمقاهي إلى الحمرا ومتفرعاتها. وبدا أنها تستعيد ألقاً سابقاً على الحرب. الثورة ثم الحرب في سوريا حملتا الكثير من الشبان السوريين، المعارضين في أغلبهم، إلى هذا الشارع قبل أن تتولى مضايقات الأجهزة اللبنانية إبعادهم إلى منافٍ جديدة. رغم ذلك شهد الشارع افتتاح متاجر لمتمولين سوريين أحضروا معهم بعض أطايب الشام من مكسرات وفاكهة مجففة. انتهى كل ذلك بعد الانهيار الذي أعاد الحمرا شارعاً لتجارة السلع الرخيصة وحقائب السفر ومحال الصرافين المنتشرة قرب فروع المصارف المدرعة. وليس نادراً مصادفة أصحاب المحال يقفون عند «أبواب أرزاقهم» مكتوفي الأيدي علامة على جمود الأحوال واندثار الأشغال.
ويشكل المرور في الحمراء ليلاً تجربة لا يود المرء تكرارها. العتمة هناك تترك أضواء السيارات لترشد السائرين على الأرصفة ساعين ألا يتعثروا. ومع الظلام الدامس يحل الشعور بانعدام الأمان والخشية من التعرض للسرقة أو الاعتداء. فيترافق الخوف مع الكآبة المريرة وتحضر المقارنات السوداوية مع ماضٍ لم يكن نزهة في البرية، لكنه كان أفضل من حاضر لا يحول ولا يزول.
هنا أيضاً يظهر وجه آخر للأزمة. الحركة التجارية التي تضمحل تترك المجال لنوع من الأعمال القائمة على الخدمات السريعة والبضائع الرخيصة وسط أعداد لا تحصى من المتسولين والشباب المتسكعين.
- «شارع المظاهرات»
من ساحة البربير يتفرع شارع النويري ليصل إلى البسطة الفوقا ثم التحتا والباشورة قبل أن يصل إلى مدخل الوسط التجاري قرب مقر «الاسكوا» الحالي. هذا الشارع اكتسب اسم «شارع المظاهرات» في ستينات وسبعينات القرن الماضي. كانت الحشود تلتقي في البربير قرب المستشفى المهجور حالياً، حيث ترفع اللافتات ويتجمع الشباب وينظمون الصفوف لينطلقوا صعوداً في النويري فالبسطة وصولاً إلى ساحة رياض الصلح. مئات، بل ربما آلاف المظاهرات مرت في هذا الشارع وكانت وراء الطرفة التي رواها الكاتب الراحل مُنح الصلح في تعريفه للمظاهرة البيروتية. حيث يقول، إن «المظاهرة في بيروت هي جمهور شيعي يسير وراء قيادة مسيحية ودرزية في شارع سني ويهتف بشعارات فلسطينية».
من آخر المظاهرات التي شهدها الشارع ربما كانت المظاهرات المناهضة للغزو الأميركي للعراق أواخر 2002 وبداية 2003. أما مظاهرات «17 تشرين» فنقلت أماكن انطلاقها إلى منطقة مار مخايل وبالقرب من مؤسسة كهرباء لبنان لتصل إلى مقر جمعية المصارف ثم تدخل إلى شارع الأمير بشير المفضي إلى ساحة رياض الصلح.
للحق، يتشارك هذا الشارع مع العديد من شوارع بيروت التي تضم أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة بضآلة التغير الذي أصابه جراء الأزمة. في القسم القريب من ساحة البربير العديد من محال الصاغة التي تضع لافتات عن شرائها « أنواع الذهب والمجوهرات كافة بالدولار نقداً». ويقول اقتصاديون محليون، إن ما يجري في واقع الأمر هو عمليات شراء واسعة لمصاغات ومجوهرات عائلية تضطر الأسر التي أصابتها واقعة الأزمة إلى بيعها لتوفير متطلبات العيش. الارتفاع الصاروخي للأسعار وجمود المداخيل على مستويات ما قبل الكارثة جعل العائلات تبحث في مقتنياتها عما يصلح للبيع من أجل دفع أقساط مدرسية أو جامعية أو تهيئة أحد أفراد الأسرة للسفر.
الجدير بالملاحظة، أن هذه الشوارع لم تشهد تغيرات كبيرة خلافاً للحمراء والوسط التجاري. ربما أقفل بعض المتاجر أبوابه. بيد أن قسماً كبيرا ما زال يعمل. ربما بوتيرة أخف من السابق وبحجم مبيعات أقل. لكنه ما زال عاملاً. يرجع السبب في ذلك إلى أن قسماً وازناً من المتاجر في هذه الشوارع، يديرها أصحابها الذين لا مصدر دخل آخر لهم. عليه، لا مهرب أمامهم من التكيف ولو بقسوة وشدة مع إملاءات السوق.
استمرار الحركة التجارية وإن بزخم أضعف من السابق، يمكن رصده كذلك في شوارع الطريق الجديدة وعائشة بكار والاستقلال - الجزائر وزقاق البلاط وبرج حمود. فتركيز المتاجر هنا على السلع الأساسية من غذاء وخضراوات وألبسة زهيدة الثمن وهواتف خلوية وما شابه، خفف من الصدمة التي أصابت المستثمرين والتجار الذين كانوا يتداولون سلعاً أغلى ثمناً وأضيق جمهوراً. الطريف، أن محال تخصصت في الحلويات الشرقية على سبيل المثال، وبعضها الأشهر يقع في منطقة الطريق الجديدة قرب جامعة بيروت العربية، وضعت لافتات على مداخلها تعتذر من الزبائن وتدعو إلى توجيه اللوم إلى من يقف وراء ارتفاع الأسعار. كذلك الأمر بالنسبة إلى محال الفول والفلافل الشهيرة التي تتخذ من الشوارع المتوسطة والفقيرة مقرات لها.
تتفاوت، إذن، أشكال الاستجابة للأزمة بين فئة اجتماعية وأخرى وإن اجمع كلها على التعبير عن برم شديد بما آلت إليه الأمور والافتقار إلى تمثيل سياسي يتناسب مع هول الفاجعة. وهو ما يفاقمه إحساس بالفراغ على عتبة الانتخابات النيابية في مايو المقبل؛ ما يبرر الاعتقاد أن معركة بيروت الانتخابية قد تكون فرصة لتغيير وجه العاصمة السياسية تغييراً نهائياً.
بكلمات ثانية، نزلت الكارثة الاقتصادية - السياسية على لبنان، وخصوصاً على بيروت نزول الصاعقة. أرجعت مستويات الحياة فيها عقودا إلى الوراء وأصابت بناها التحتية إصابات تحتاج إلى مليارات الدولارات وسنوات عدة لإصلاحها. الأهم من ذلك، أن الأزمة الحالية جلبت ما لا يحتمل من معاناة وآلام إلى ملايين البشر، الكثير منها ظل طي الصدور والنفوس خوفاً من الفضيحة والاستغلال والتشهير. عائلات تحطمت وآمال خُنقت وأحلام وئدت. ومستقبل بات رهينة المجهول والقدر الغاشم. كل هذا من دون أن يظهر بصيص أمل في آخر نفق الفناء والاحتضار هذا. ومن دون أن يكون في الأفق تفكير في استعادة دور بيروت بما يزيد على كونها تجمعاً لأناس مكلومين ومظلومين.
الكلام الإنشائي عن تحمل بيروت للأحلام والكوابيس العربية، قد يكون اليوم بعضاً مما يتذكره المقيمون في بيروت بمرارة. احتضار المدينة وخسارتها أدوارها، هما في واقع الأمر انعكاس لحقائق أقسى يعانيها منها العرب الذين، مثل بيروت، يبحثون عن ضوء في آخر النفق.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».