صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في العام 1954، ولم تزل تشكل أحد المراجع المهمة في تناول هذه الفترة الملتبسة في تاريخ الفكر الإنساني. أخيراً أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدار نسخة جديدة من «فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» للعلامة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني الذي قام بجهد مؤسس في الرجوع إلى النصوص الأصلية لفلاسفة اليونان الأوائل فأخضعها للبحث والتدقيق ومقارنة منجز كل فيلسوف بالذي جاء قبله والذي يليه، ثم ترجم منها ما يفيد فكرته ورسم صورة قوية واضحة للتراث الفكري الذي خلّفه أساتذة سقراط وأرسطو دون أن يحظوا بالشهرة والذيوع التي حصل عليهما التلميذان النجيبان.
المعروف أن المؤرخين درجوا على تقسيم الفلسفة اليونانية إلى ما قبل سقراط وبعده؛ لأنه كما يقال «هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض» وحوّلها من البحث في الطبيعة الخارجية للأشياء إلى البحث في النفس الإنسانية باعتبار أنها مصدر المعرفة.
ويرى الدكتور الأهواني، أن فجر الفلسفة الإغريقية يعود إلى هوميروس الذي اختلف المحدثون في شخصيته: أَوجِد حقاً أم كان شخصاً خرافياً؟ ولم يعن اليونانيون بمثل هذا البحث؛ فقد كان الرجل بالنسبة لهم شاعر الأمة ومعلمها ولسانها الناطق وهو صاحب الإلياذة والأوديسا، كسجل تاريخي يعرفون منها حضارة أجدادهم في ذلك العصر الذي يسميه المؤرخون العصر الهوميري والذي يقع بين القرن الثاني عشر والقرن العاشر قبل الميلاد.
وتعد حرب طراودة أخطر حوادثه، حيث استمرت عشر سنين. ويذكر الكتاب، أن أخطر ما في «الأشعار الهومرية» من أثر فلسفي هو فكرة القضاء والقدر وفكرة الضرورة، وقد تسربت الفكرتان جميعاً إلى فلاسفة اليونان وأخذوا بهما في تفسير الموجودات الطبيعية والأعمال الإنسانية، صورت الإلياذة الإنسان بطلاً من الأبطال وقللت من شأن الآلهة حتى أصبح موقفها أشبه بشخصيات الشعراء وليست أرباباً يقدسها البشر ويعبدونها، فكان ذلك التصور الديني للآلهة بداية للحركة العلمية التي نشأت في القرن السادس الميلادي.
وحول فكرة نشأة العالم، يشير الكتاب إلى أورفيوس، وكان شاعراً وموسيقياً وواعظاً دينياً، وفي الأقاصيص القديمة أنه كان مغنياً صاحب صوت جميل تنقاد إلى أنغامه وموسيقاه جميع الكائنات كأنها واقعة تحت تأثير السحر، ويستطيع استئناس الوحوش الضارية في هذا العالم والقوى المخيفة في العالم الآخر.
ومن أبرز أسماء الفلاسفة اليونانيين في مرحلة ما قبل سقراط، طاليس الذي يعده القدماء حكيماً وسياسياً وعالماً وفلكياً أيضاً. وقد خدمت مخترعاته الفلكية الملاحين، يقال إنه وضع تقويماً يعد أقدم ما عُرف من نوعه. وتقوم نظريته الأساسية على أن أصل الأشياء هو الماء، وهذا السبب في قوله «إن الأرض تطفو فوق الماء»، ولا شك في أن الذي أدى به إلى هذا الاعتقاد ملاحظته أن جميع الأشياء تتغذى من الرطوبة، وأن الحار نفسه ينشأ عنها ويحيا بها. آثر طاليس القول بوجود مادة أولى عنها تنشأ جميع الموجودات فهو «واحدي الفلسفة»، فقد كانت ظروف الحياة في بلاد اليونان كالحال في صحراء العرب تعتمد على وجود الماء؛ فليس من الغريب استنتاج أن يكون الماء علة الحياة.
عرف طاليس بما له من براعة في التنجيم، ومن الطرائف في سيرته التي يذكرها الكتاب، إن كان الوقت شتاء لكنه تنبأ أن موسم الزيتون في العام المقبل سوف يكون وفيراً، وكان عنده قدر قليل من المال فدفعه «عربوناً» لاستئجار جميع معاصر الزيتون في مدينته والمدن المجاورة بثمن بخس ولم ينافسه أحد، فلما جاء وقت الحصاد وأقبل جميع الزراع على المعاصر دفعة واحدة أجّرها كما يشاء؛ فجمع بذلك مالاً كثيراً. وهكذا أثبت طاليس للناس كيف يمكن للفلاسفة أن يغتنوا بسهولة إذا شاءوا، ولكن مطامعهم من نوع آخر!
ومن فلاسفة ما قبل سقراط، أنكسمندريس الذي يقدم تفسيره الخاص لنشأة العالم، بانفصال الحار والبارد عن كتلة الوجود، ثم تبع ذلك سائر الخلق، ثم تميز الحار عن البارد بأن أحاط به في دائرة كلحاء الشجرة، ثم احتوى البارد في داخله على طبقة من الهواء. وكانت الأرض في البدء رطبة، ولكنها جفت بتأثير الحار الذي أخذ يجتذب منها الرطوبة شيئاً فشيئاً، أما بقية الرطوبة فقد ملأت فجوات الأرض وأصبحت البحار ولا تزال الأرض في سبيل الجفاف بالتبخر حتى يأتي يوم تصبح فيه يابسة تماماً! وعلى هذا النحو تكونت أربع طبقات الحار (النار) والبارد (الماء) والرطب (الهواء) واليابس (الأرض)، ثم انشقت طبقة النار فأصبحت ثلاث دوائر تحيط بالأرض كالعجلة في العربة. هذه الحلقات هي مدار الشمس والقمر والنجوم وليس في استطاعتنا رؤية جميع الحلقات لأن الهواء يغلفها، وأبعد الحلقات في هذه الحلقة هي الشمس ويوجد فيها ثقب أو فتحة واحدة تظهر الشمس منها أو يظهر منها لهب مضيء على قدر الشمس. والحلقة الثانية أقرب إلينا وفيها ثقب يخرج منه لهب أضعف من الأول وهو القمر، والحلقة أو الدائرة الثالثة أشد قرباً منا وبها ثقوب في غاية الصغر هي النجوم والكواكب وضوؤها ضعيف باهت يغشاه البخار الذي يملأ الفضاء بين الأرض والسماء. والأرض في وسط هذه الآلة الضخمة هي كالقرص أو كالأسطوانة ولا تستند إلى شيء على عكس طاليس الذي تصور الأرض قرصاً يطفو فوق الماء ووجود الأرض وسط العالم خاضع لحكم الضرورة ولكنه لم يفسر ما هذه الضرورة بالضبط!
مدرسة فيثاغورث
ويتوقف الدكتور الأهواني بكثير من التفصيل عند واحد من أهم فلاسفة اليونان قبل أرسطو وهو فيثاغورس، مشيراً إلى الاضطرابات السياسية التي قلبت موازيين الحكم في الدول المعروفة حينذاك، وهي الفرس وبابل وآشور واليونان ومصر، حيث اشتد ضغط الفرس غرباً، وهبّت الدول تدافع عن نفسها وتنفض عنها غبار الضعف وتأخذ في طريق النهضة. وخضعت في أواخر الأسرة الخامسة والعشرين لحكم الآشوريين فنهض إبسماتيك ابن الملك نخاو يدافع عن استقلال مصر بمعونة من الجند المرتزقة من اليونانيين والأيونيين والكاريين، ونجح في طرد الغزاة واستقل بالبلاد نحو قرن من الزمان حتى خضعت مرة أخرى لحكم قمبيز ملك الفرس عام 525 ق.م. وأحدث إبسماتيك نهضة جديدة في الفنون والآداب ووفد اليونانيون إلى شمال الدلتا بمصر، بل كان لهم حي خاص في مدينة منف، حيث استفادوا من علم المصريين وفنونهم وأديانهم. وفي ذلك الوقت أيضاً اشتد ضغط الفرس على آسيا الصغرى فآثر أحرار الفكر الهجرة غرباً واستقر كثير منهم في جنوب إيطاليا، وبذلك أفل نجم الفلسفة في أيونيا وانتقلت إلى الغرب تلتمس الأمن، ومن هؤلاء الذين هاجروا وطنهم الأول فيثاغورس الذي ذاعت شهرته قديماً وفي العصر الوسيط.
وتعد مدرسة فيثاغورس أول مدرسة أفسحت المجال لاستقبال المرأة وتعليمها فوضع بذلك مبدأ مشاركة المرأة قبل أفلاطون بقرنين من الزمان واشتهرت المرأة الفيثاغورية في الزمن القديم بأنها أفضل نساء الإغريق. وتنهض المدرسة الفيثاغورية على نظام من الأخوة كأنها دير أو معبد؛ فجميع الطلاب يلبسون زياً واحداً هو البياض ويعيشون معيشة زهد وبساطة ولا ينتعلون الأحذية، بل يمشون حفاة الأقدام وكانوا لا يسرفون في طعام ولا شراب ولا يحلفون بالآلهة ولا يكثرون من الضحك أو الإشارة أو الكلام، وكانوا يحاسبون أنفسهم آخر النهار على ما فعلوه فيسأل كل واحد منهم عن الشر الذي ارتكبه والخير الذي قدمه والواجب الذي أهمله.
ولم يكن التعليم كتابة، بل سماعاً وتلقيناً وشفاهة عن الأستاذ ولم يؤثر عن فيثاغورس أنه ألف كتابا، وكانت تعاليم المدرسة سرية يعاقب من يفشيها بالطرد وقد التزموا السرية التزاماً دقيقاً. ومن آداب المدرسة أيضاً الصمت حتى لقد ذهبوا إلى أن التلميذ الجديد مطالب بالصمت لمدة خمس سنوات، فهم يريدون بذلك قبول التعليم بغير أسئلة أو جدال.
ويلفت الكتاب إلى أنه من الصحيح أن العلم الرياضي لم يصبح علماً بمعنى الكلمة له مبادئه وأصوله إلا على يد إقليدس في القرن الثالث قبل الميلاد، ولكن فيثاغورس هو الذي وضع حجر الأساس في هذا العلم ليصبح فيما بعد خاضعاً للحس والتجريب.
يقع الكتاب في 308 صفحات من القطع الكبير بتقديم الدكتور عاطف العراقي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، والذي أثنى على أستاذه الأهواني وجهده الدؤوب، بعد ما يقرب من سبعين عاماً على صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب المؤسس.