ثمة أسئلة كثيرة يمكن تداولها عن أزمة كازاخستان، أسبابها وأبطالها ومآلاتها، وفي الموازاة يجب أيضاً طرح أسئلة عن الدور الروسي في المعالجة، أو بالأحرى في مقاربة الوضع في هذه الدولة الشاسعة المهمة جداً في آسيا الوسطى ومن حيث موقع روسيا في العالم، وذلك من أجل فهم ما يريده فعلاً فلاديمير بوتين بشكل عام.
صحيح أن قوات حفظ السلام الروسية العاملة ضمن قوات «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» غادرت كازاخستان بعد إنجاز المهمة التي طلبها الرئيس قاسم جومارت توكاييف، لكن الأزمة السياسية في الدولة التي تقع في آسيا الوسطى والغنية بالنفط واليورانيوم لم تنتهِ على الأرجح، وبالتالي لا يمكن روسيا أن تقف مكتوفة اليدين خشية أن تخسر كازاخستان سياسياً وأمنياً بعدما خسرتها اقتصادياً إلى حد كبير عندما كانت تتفرج على تغلغل الاستثمارات الصينية والأميركية فيها.
إذاً، بعيداً عن ارتفاع أسعار الغاز وغضب الكازاخيين، وموقفهم من توكاييف وريث نور سلطان نزارباييف، الرئيس الوحيد الذي عرفته البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي و«رمز الأمة»، يجدر النظر ملياً في ما يريده فلاديمير بوتين المنشغل على جبهات عدة في المحيط المباشر والمدى غير المباشر لروسيا.
هل صحيح أنه القيصر الروسي الجديد الذي يحلم بأمبراطورية تستعيد التاريخ؟
هناك من يرى أن بوتين سيسعى إلى تحويل اضطرابات كازاخستان إلى فرصة ليرسخ الحضور/النفوذ الروسي هناك، طبعاً بعد أن يصوّر أن ما حصل في الدولة المجاورة ما هو إلا مؤامرة غربية بقيادة أميركية لإكمال الطوق حول بلاده، وقد قال في هذا الصدد بعد أيام من اندلاع اضطرابات كازاخستان ان لا ثورات ملوّنة في آسيا الوسطى، بمعنى أنه لن يسمح بتكرار ما حصل في أوكرانيا عام 2004، تماماً كما منع «سقوط» بيلاروسيا.
في أي حال، لا يمكن إغفال أن بوتين بدّل أسلوبه قبل سنوات، وتحديداً عندما قرر إرسال قوات و«استعادة» شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، وحشد 100 ألف جندي على حدود الجارة الكبيرة، وطبعا التدخل العسكري في سوريا، وسوى ذلك.
*عودة إلى الماضي؟
أدرك بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أن التخلص من تلك الأمبراطورية المكلفة واعتماد اقتصاد السوق هما السبيل إلى تحقيق الازدهار للبلاد وإخراج الشعب من دوامة الفقر. ولعله لم يدرك أن الرجل الذي تسلم السلطة من بعده عام 1999، فلاديمير بوتين، كان يملك ربما رؤية مختلفة. وفي حين أن بوتين لن يسعى على الأرجح لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ويعيد إنشاء الأمبراطورية، فإن ثمة مراقبين يرونه مندفعاً باتجاه فرض الهيمنة الروسية على بعض الدول السوفياتية السابقة. وهذا بالطبع أمر مكلف، لأن بناء القوة العسكرية وتحديثها وصيانتها أمور تتطلب الكثير، خصوصاً مع تمركز القوات الروسية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المنفصلتين عن جورجيا، ترانسنيستريا المنفصلة عن مولدوفا، أرمينيا، ناغورني قره باغ لإحلال السلام بين أذربيجان وأرمينيا، قيرغيزستان، بيلاروسيا، طاجيكستان، وسوريا.... الجهد العسكري استنزف الموارد السوفياتية سابقاً، وهذا ما لم يتردد بوتين في الإقدام عليه وزيادة الموازنة العسكرية السنوية باطّراد.
لا جدال في أن روسيا تملك قوة عسكرية ضخمة وأن سلاحها النووي يشكل درع ردع تعطيها قدرة على المناورة والتحرك المدعوم بالأسلحة التقليدية. لكن لا جدال أيضاً في أن الاقتصاد الروسي لا يوازي القوة العسكرية هذه ولا يستطيع تحمّل أكلافها طويلاً. فالناتج المحلي الإجمالي لا يفوق تريليوناً و700 مليار دولار وفق أفضل التقديرات – مقابل نحو 21 تريليوناً للولايات المتحدة و14.7 للصين – مما يضع روسيا في المرتبة الحادية عشرة عالمياً في هذا المجال.
مشكلة الاقتصاد الروسي هي عدم التنوع في المقام الأول والعقوبات المختلفة المفروضة على موسكو ثانياً. إنه اقتصاد يعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط والغاز ويواجه في هذا المجال سلسلة من المشكلات الجيوسياسية، وآخرها التجميد الفعلي لمشروع «نورد ستريم 2» الذي سينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا دون المرور بأوكرانيا، وذلك لأسباب سياسية. وبعدما حقق الاقتصاد الروسي انتعاشاً قوياً عام 2021 ، مع نمو بنسبة 4.3 في المائة بفضل الآثار الإيجابية لما بعد الإغلاق على المستوى العالمي وارتفاع الطلب على مصادر الطاقة، من المتوقع أن يتباطأ النمو عامي 2022 و 2023 إلى 2.4 و1.8 في المائة على التوالي، وفقًا لأحدث تقارير البنك الدولي.
*الواقع والبراغماتية
بالنظر إلى الواقع الحالي للاقتصاد الروسي والحصار الناجم عن العقوبات الناجمة بدورها عن سياسة موسكو حيال أوكرانيا وبيلاروسيا وسواهما، لا يبدو أن روسيا ستتحول إلى عملاق اقتصادي يوازي قوةً العملاق العسكري. ولا ريب في أن فلاديمير بوتين يدرك هذا الواقع بما يملك من براغماتية وتمرّس جناهما خلال عمله الاستخباراتي والسياسي الطويل.
لذلك نرى «القيصر» يوجه رسائل الحزم واللين بالتساوي إلى واشنطن، فيحشد 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا وينخرط في الوقت نفسه في مفاوضات مع الأميركيين في جنيف تتناول مخاوفه وضمانات أمنية يطلبها لدرء خطر تحول أوكرانيا قاعدة «أطلسية» تهدد الأمن الروسي في العمق. ولذلك لم نره يحرك قواته الموجودة في قاعدة عسكرية في أرمينيا لنصرة هذه في حرب آرتساخ – أو ناغورني قره باغ – بمواجهة جيش أذربيجان المدعوم من تركيا في الخريف الماضي. بل اكتفت موسكو بالتنسيق مع أنقرة لإرساء سلام هشّ في هذه المنطقة الحساسة من القوقاز، واضطلعت القوات الروسية بدور مراقبة السلام بعد حرب منيت فيها أرمينيا بهزيمة عسكرية وسياسية صريحة.
بالعودة إلى كازاخستان، يبدو أن بوتين حمل أيضاً ميزان البراغماتية وتصرّف بحكمة. فقد أرسل قواته إليها لإعادة الاستقرار، لكنه لم يُبقها هناك خشية استعداء الشعب الغاضب على حكامه لكن غير العدائي بالضرورة تجاه روسيا. ولعل تحركه السريع وقوله إن «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» (روسيا ، أرمينيا ، كازاخستان ، قيرغيزستان ، طاجيكستان ، وأوزبكستان) لن تسمح بالانقلاب على حكومات دول المنطقة رسما حدود اللعبة هناك، أقلّه في المستقبل القريب. ومؤدّى هذا الكلام هو أن موسكو لن تقبل بفتح «جبهة جديدة» في آسيا الوسطى تشكل مصدر قلق يضاف إلى متاعبها الأخرى.
في الخلاصة، تخوض روسيا مفاوضات ولعبة شد حبال مع الغرب في شأن أوكرانيا، وتعمل على ضبط الإيقاع في بيلاروسيا الملاصقة لحدود الاتحاد الأوروبي، وتواصل الاضطلاع بدور الشرطي في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وتتخذ تدابير احترازية مضبوطة في كازاخستان، وتبقى في سوريا على تنسيق دائم مع واشنطن وأنقرة...
هل إن فلاديمير بوتين، في ظل هذه المواقف الدفاعية، هو «القيصر» الجديد الذي سيتجاهل دروس الماضي؟ أم إنه الرئيس البراغماتي الذي يدرك الحدود القصوى للمناورة ويسعى للمحافظة على المواقع وإن اتّبع سياسة توحي بالهجومية؟
بغض النظر عن الجواب، يجدر التذكر أن الشعب الروسي يفضّل حتماً التمتع بمقوّمات العيش الهانئ على تحقّق الطموحات السوفياتية التي بلغت أعالي الفضاء ونسيت واقع الأرض إلى أن انهار البنيان...