العناصر الأربعة وخيارات الكينونة

بيتهوفن
بيتهوفن
TT

العناصر الأربعة وخيارات الكينونة

بيتهوفن
بيتهوفن

لكل منا كتابه السري غير المنشور؛ وللطبيعة هي الأخرى كتابها السري. قد نقرأ في مقدمته تقديماً يدمجنا بمشروعها الأزلي: إبداعات الحياة
- النار
قبل انتهاء القرن الماضي بعامين أو ثلاثة، استقبل الفلكيون في مراصدهم ضيفاً قادماً من عالم اللانهاية، وما كان هذا الزائر سوى شعاع جديد لنجم سبق له أن مات منذ ملايين السنوات، ولكي تصلنا ومضاته الضوئية، احتاج إلى كل هذا الزمن المديد، ومعها استطاعت تلك المراصد أن تلتقط صورة ذلك النجم، مومضاً ببريقه المتوهج، فارشاً نثار مسحوق ضوئه بين ثنايا القبة السماوية، حاله حال ملايين الشموس المنبثة كحبات الرمل على ساحل لا متناهي الأرجاء.
في لحظة استقبالنا تلك النار المقدسة، كان المصدر عدماً. ملايين من السنوات تمر بعد ذلك الفناء وصورة ناره تنتقل عبر مساحات الكون الأزلية، قاطعة طريقاً طويلاً، لتصل إلينا أخيراً، ولتبقى معنا عصوراً تقدر بملايين الأعوام. كم نستقبل ونحن على مشارف قرن جديد أضواء قادمة من قرون سابقة، نجوماً قد ماتت منذ زمن بعيد، وما بقي منها سوى تلك النار التي يستطيع البعض منا تلمسها، التدفؤ أو التطهر بها، الاحتراق فيها. كأنها تلك النار المقدسة التي سرقها برومثيوس من الآلهة، ومنحها لبني البشر فأخرجهم من الكهوف المظلمة، الباردة، الرطبة، إلى عالم الدفء والنور.
أليس ممكناً اعتبار أناس فانين كموزارت وشكسبير ودوستويفسكي أشباهاً لذلك النجم الذي شغل الفلكيون أنفسهم في رصده؟ ألا تختفي وراء ابتسامة «الموناليزا» تلك الحزمة الضوئية التي أرسلها ليونارد دافنشي إلينا قبل أكثر من أربعة قرون؟
كأن أمام الفنان أحد خيارين رئيسيين: أن يكون مماثلاً لذلك النجم النائي، المتوحد، المنكب على صناعة ناره، والمحترق أخيراً فيها، أو كصانع الألعاب النارية الخلابة للأبصار، التي تبعث البهجة في النفس، لكنها تنطفئ سريعاً، مخلفة وراءها عدماً…
- الماء
ذلك المشهد الأزلي للبحر والساحل: يندفع الموج من أطراف الأفق متدفقاً صوب رمال الشاطئ السوداء، الرمادية، البيضاء، دون هوادة، حتى ينبسط فوقها، متحولاً إلى رغوة بيضاء، وكسر كريستالية ناعمة، ينبجس منها بريق الضوء الفضي، ثم يسحبها البحر إلى أحشائه، عابثاً بالرمل المستسلم له كيفما يشاء، مرسلاً بجيش جديد من الموج الأبيض المتلع رأسه صوب الساحل. وحينما تكون الجبال محاذية للبحر، فموجاته ترتطم بحافة جرفها، عنيفة، غاضبة، مدوية، منفلعة قنابل عنقودية عليها. وتظل الجبال صامتة، صلبة أمام البحر، ويظل البحر مواصلاً إرسال موجاته، اللدنة، الهشة، دون كلل أو ملل إليها، ثم ها هو زمن يمر لا يقاس إلا بمساطر الآلهة الخالدين، وإذا بتلك الجبال الصامتة، الصلبة، الصخرية، العنيدة، قد تحولت إلى رمال ناعمة مفروشة أمام سيدها الأقوى، الأبدي: الماء.
- التراب
تسمق شجرة الزان العملاقة عالية، أعلى من الأشجار الأخرى، يتفرع جذعها دون انتظام إلى أغصان طويلة، متراخية، بشتى الاتجاهات، تغطيها أوراق داكنة الخضرة، شبيهة بأكف مفتوحة، تترجرج فوقها بقع ضياء الشمس، منعكسة على الظل المستلقي فوق الشارع العريض، نقاطاً من اليورانيوم المتوهج. وكلما يمر الوقت، تزداد طولاً، ويزداد جذعها متانة وسمكاً، وتتسع مساحة الفضاء الذي تحتله، ومساحة الظل الذي تخلقه.
وحينما يقف الناظر أمامها مندهشاً، لا تراوده الرغبة برؤية جذورها المنغرزة في الأرض، عروقاً داكنة، متغضنة، متلفعة بالأشنات والطين والماء. وهناك في تلك الظلمة، المطلقة، الرطبة، يمسك التراب بمخلوقه بكل حنو، يمنح الجذور النسغ المتصاعد إلى أعلى، تتصل الشجرة عبر أوراقها بالشمس والهواء فتصنع غذاءها.
والتراب في عمله الدؤوب لا يستطيع رؤية ما ينتجه، عدا تلك الجذور المشدودة إليه، لكأنه صانع النبيذ المقيم دوماً في قبو مظلم منكباً على عمله بدأب كلي، فلا يستطيع رؤية مواسم الفرح التي تخلقها جران خمره المعتقة فوق الأرض… برغم ذلك، يظل التراب مردداً لمن حوله: أعطني بذرة فقط أُعْطِك خضرة وظلالاً.
- الهواء
برغم غيابه الدائم، فهو حاضر في كل مكان، يحتاج إليه الماء والنار والتراب، لكنه ليس في حاجة إلى أحد. لا يبحث عن أمجاد، لا يفتش عن جذور تشده إلى الأرض. لا بريق النار يغريه، لا اتساع ممالك الماء يجذبه، ولا أحد يستطيع رؤيته، لكنه حاضر في كل مكان، خلف تلك الغيوم المنساقة جنوباً، قادمة من البحر؛ بين ثنايا الشجر المرتعش، وحفيف أوراقه، في شدو العنادل الليلي هو حاضر.
- حوار
قال الماء: أنا أقواكم.
قال التراب: بل أنا أقواكم.
قالت النار: أنا الأقوى فيكم.
ثم قال الهواء ضاحكاً: وأنا أضعفكم.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.