حين يكتب لقمان سليم عن اسكندر رياشي

لقمان سليم
لقمان سليم
TT

حين يكتب لقمان سليم عن اسكندر رياشي

لقمان سليم
لقمان سليم

بين اسكندر رياشي المولود في 1890 ولقمان سليم المولود في 1962 زمن يتعدى العقود السبعة، نشبت خلاله حربان عالميتان، وانهارت إمبراطوريات، ونشأت بلدان، في عدادها بلدنا، واندثرت أخرى، كما حصل من الهزات والتحولات، الوطنية منها والعربية والكونية، ما لا تتسع لذكره مجلدات.
هكذا يبدو لوهلة أن من الصعب انضواء الاثنين في مزاج واحد، أو اشتراكهما في حساسيات تعبر ذاك الزمن العريض وما انطوى عليه من شؤون وشجون.
مع هذا، فقد فعلا.
هذا، على الأقل، ما نستشفه من المقدمة التي كتبها لقمان عن اسكندر رياشي، والتي تشبه محاولة في البعث أو في الاستعادة، كما تنطوي على حنين لمن لم يعرفه شخصياً صاحبُ الحنين، ولا كان ممكناً أن يعرفه.
لكنْ بعثُ ماذا بالضبط، والحنين إلى ماذا؟
لقد أعطى لقمان لمقدمته عنواناً أوحى أنه يلخص رأي رياشي الضمني في أحوال الدنيا. أما ذاك العنوان فليس سوى عبارة «الباطل يحرركم». وهي، كما نعلم، معارضة صريحة لعبارة المسيح الشهيرة في إنجيل يوحنا: «الحق يحرركم». أي أننا هنا، مع رياشي، وفق تأويل لقمان له، نسبح في عالم اللاصواب، سياسياً كان الصواب أم غير سياسي. وكيف يُطلب إتيان «الصواب» من «تائه»، عملاً بالوصف الذي اختاره اسكندر رياشي لنفسه ولجريدته، «الصحافي التائه»؟
إذاً نحن حيال شخص يلعب ويلاعب المخيلة والأخيلة، يسلي ويتسلى، ويجرب بنفسه وبسواه غير مكترث بما يقود إليه ذاك التجريب. إنه تائه عن «خط التاريخ» وعن «حتمياته» و«ضروراته»، لكنه أيضاً تائه عما قد يحصل بعد ربع ساعة، أو فيما وراء أكمة أو ينبوع ماء. ومع هذا الرحالة والكاتب والصحافي الذي كانه رياشي، نرانا نتعامل مع كائن يتعاطف، أو يدعي التعاطف، مع أعمال وأقوال يستحيل التعاطف معها، أو أن الجميع تواضعوا، تبعاً لثقافة ما، على أن التعاطف معها غير ممكن ولا مقبول. ولقمان الذي كان على بينة من ذاك «التيه» عن «الحق» و«الصواب»، كان يدرك أيضاً ما يختبئ في تضاعيف السلوك والقول الرياشيين، فكان في نقله أخبارَ الرجل وأقوالَه يحتاط بتدخل اعتراضي متكرر: «على ذمته»، أو بتحفظات أخرى من هذا القبيل. أبعد من هذا أن رياشي كان يهتك المقدس، ولم يدعِ مرة أنه قويم أو شريف، ولم ينسب إلى ذاته صفات محمودة، بل لم يتردد في سرد أخبار عن نفسه تضر بسمعته وتؤذيها. فهو من أولئك الذين لم يحملوا أشخاصهم على محمل الجد، مكتفين بحمل شغلهم على ذاك المحمل.
والحال أن الذين رثوه تعمدوا «التستر والتستير على كل ما كان هو، طوال حياته، يُشهره»، فنسبوا إليه أخلاقاً غير أخلاقه، وجردوه من أخلاق كانت أخلاقَه، كما «تستروا» على مواقف له كان فيها، مثلاً لا حصراً، مُحبذاً للانتداب الفرنسي. ذاك أن أموراً كهذه غير محمودة أخلاقياً وسياسياً، وفق الموقف «القويم» المُجمَع عليه، والذي يكرر مرة بعد مرة الوصف نفسه الذي يُسبغه على سائر الموصوفين «الشرفاء» المجعولين شخصاً واحداً. ولأن رياشي، كما كتب لقمان، «لا يصلح أن يُرفع في محل «المفخرة الوطنية» (...) [و] لا أن يُنصب مثالاً أعلى يمكن لطائفته أن تنابذ به رصيفاتها»، فإن بعثه أو إحياءه جاء يحررانه من مداحيه الذين صادروه ثم زوروه وكذبوه إنقاذاً منهم لما توصف به الأخلاق والوطنية.
إذاً هناك فيما أقدم عليه لقمان الكثير من احترام الراوي الأصلي من خلال اعتماد روايته عن نفسه وعن أشيائه، وهذا ينزع التفخيم بالضرورة ويعيد الاعتبار للحياة الفعلية كما عِيشت، وكما قال رياشي، غير هياب، إنه عاشها.
ويصعب القول إن خفة ما هي التي دفعت لقمان إلى هذه المهمة، وهو الذي أوغل في الجِد حتى الموت اغتيالاً بعدما كرس نفسه لما اعتقده جليلاً يستحق الموت والحياة. لكن عبارة كتبها في مقدمته هذه تكشف ذاك اللغز المحير. فقد أثاره في اسكندر رياشي، على ما أظن، «ما تلونتْ به حياته من ألوان». وإذا صح هذا الظن كانت «الألوان» ما أغرى الكاتب بالمكتوب عنه. ذاك أن لبنان الملون، ممثلاً بصحافينا التائه عن الصواب، هو ما كان يخاطب كاتبَ المقدمة الذي فتح عينيه على الدنيا فيما بلده لونٌ واحد يصارع لوناً واحداً، وراوية عارفة واحدة تناهض رواية عارفة واحدة أخرى.
هو إذاً الحنين إلى لبنان الذي سمع عنه لقمان من أبيه ومن مُجايلي أبيه قبل أن يقرأ عنه بنفسه. وهو بالتأكيد سمع أو قرأ أن السياسة والصحافة في هذا البلد عرفتا أسماء تلعب وتسخر وتتسلى حين كان لبنان «القديم» يسمح بذلك ويتيحه. فأسماء كسامي الصلح ومارون عبود وسعيد فريحة وسليم اللوزي والمحامي إميل لحود، وآخرُ حبات هذا العنقود، منح الصلح، كان أصحابها يضحكون ويُضحكون ويتسلون بالمقدسات ويسلون بها، وهم لم يروا أن الحياة تُختزل إلى سياسة فيما تُختزل السياسة إلى عنف وجريمة. حتى القوميون السوريون، الذين جاؤوا من مصدر آخر يستسهل العنف، جرهم لبنان اللاهي إلى أن يتباهوا بما يظنونه ظرفاً في سعيد تقي الدين.
وهذا ما شرعت تغيره الحرب. فكم كان بليغاً مثلاً أن تعبير «شعراء الجنوب» الذي كان يُطلَق على شعراء، في عدادهم رجال دين، يداعب أحدهم الآخر بالأهاجي الساخرة والودودة، إذا صح الوصف، بات هو نفسه تعبيراً يصف الدعوات الموزونة أو المقفاة إلى إحراق الأرض وقتال العدو حتى الرمق الأخير.
وليس صدفة أن الحرب إنما ترافقت مع سطوع نجم السياسي اليابس الذي يتزعم عدداً من المقاتلين ممن يناظرونه يباساً، يحضهم على القتل والقتال. وكم هو دال أن قادة القتال ومؤسسيه في أواسط السبعينات كانوا رئيس جمهورية لا يطيق المدينة كسليمان فرنجية، ورمزاً من رموز صوفية الأرض هو بيار الجميل، وزعيماً لم تَكْفِه صوفياتنا المحلية فاستعان بصوفيات الهند ككمال جنبلاط، فضلاً عن رجل دين كانه موسى الصدر! مذاك لم يكف اليباس عن النمو وصولاً، في يومنا هذا، إلى تربع حسن نصر الله، متجهماً صارخاً في وجوهنا، في منصة اليباس الأعلى.
ومثلما ضاق قاموس الأفعال ضاق قاموس الكلام، فبات وصف «الشرفاء» يطلقه المحازبون على قادتهم وعلى رفاقهم وصفاً أوحد، غير عابئين بما فعله ماكيافيلي قبل نيف وخمسة قرون حين فصل عالم الشرف عن عالم السياسة.
هكذا كان لقمان، وهو يحتفل باسكندر رياشي، إنما يحتفل بلبنان الملون، فكأنه كان يحدس بأن اللون الواحد والرواية الواحدة يقتلان. وبالفعل ما لبث هذان الواحدان أن انقضا على لقمان نفسه.



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».