«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

مقتل المنظّر إبراهيم الربيش ألقى حجرًا في بركة التنظيم المترهّل

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة
TT

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

ليس من قبيل المصادفة أن يُصاب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بانكسارات عميقة بعد تراجع سطوته في الداخل عقب قيام «أنصار الله» الحوثيين باجتياح مناطق جنوبية كانت تعبث بها «القاعدة»، وبعدما تخلّت الأطراف المنتفعة من بقاء التنظيم لصالح تقويض الدولة اليمنية.
إلا أن هذا الانهيار الوشيك لا يمكن تفسيره بعوامل خارجية فحسب، بل يمكن القول إن مزاحمة «داعش» لـ«القاعدة»، وانتصاراتها على الأرض وسحقها مقاتلي «القاعدة»، يرافقه الآن حملة تحوّلات هائلة لنقل «البيعة» من أيمن الظواهري إلى خليفة «داعش» المزعوم أبو بكر البغدادي.
في السياق ذاته تراجعت الحرب الأهلية بين الفريقين في مناطق التوتر على حدود العراق وسوريا بهزيمة ساحقة لتنظيم داعش. إلا أن الحرب الفكرية بدأت بين الدواعش وبقايا تنظيم القاعدة الذين فقدوا رموزهم الفكرية وانفرادهم بشرعية التنظيم السابقة، والتي ما عادت تغري الشبّان الجدد الطامحين إلى انتصارات - ولو معنوية - بعدما تحوّلت التنظيمات المسلحة من مرحلة «الحور العين» إلى «التمكين في الأرض» وبناء دولة الإسلام. ويمثل مقتل إبراهيم الربيش «المنظّر الشرعي» والقائد الميداني المقدّر عند المتعاطفين مع التنظيمات المسلحة، والقادم من خلفية شرعية أكاديمية حيث ذهب أول مرة في أفغانستان للعمل الإغاثي قبل أن ينتقل إلى فكر «القاعدة» بعد اعتقاله ونقله إلى غوانتانامو، مفصلاً مهمًا.
الربيش، ولد عام 1401هـ (أو 1399) / 1980 م (أو 1978 م)، في مدينة بريدة بالقصيم في المملكة العربية السعودية، وكان ملازمًا لبعض طلاب العلم. ولقد درس الشريعة في الجامعة قبل أن ينتقل إلى أفغانستان في مرحلة موجة «النصرة» الثانية التي جاءت عقب الضربات الأميركية لطالبان عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وهذه الموجة عادة أسست مجموعة من المرتكزات الفكرية والعسكرية والسياسية، كانت مختلفة عن إرث وثقافة «القاعديين» القدامى أبرزها الانفصال التام عن مرجعيات غير جهادية حتى على سبيل الفتوى والاستئناس، وهو ما يفسر ترقّي الربيش في التنظيم بناءً على ثقافته الشرعية.
مرحلة العودة من غوانتانامو مع 16 عائدا يوم 23 من ذي القعدة عام 1427 هـ (2006 م) كانت نقطة تحوّل عند الربيش، إذ خرج بعد إكمال «برنامج المناصحة» وقرّر إكمال الدراسات العليا في الشريعة. إلا أن ذلك الوضع لم يطل كثيرًا، إذ انتقل إلى اليمن في أبريل (نيسان) 2009م وانضم لصفوف ما يسمى بـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن بقيادة المطلوب ناصر الوحيشي. ثم ظهر في تسجيل صوتي عبر شبكة الإنترنت يتحدث فيه عن جريمة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية - حينذاك - يوم 27 أغسطس (آب) 2009 م.
«التنظير الشرعي لثقافة الاغتيال» كان الجسر الذي عبر به الربيش من ضفة «الكوادر المقاتلة» إلى مصاف «القيادات العليا» في التنظيم وبينهما فوارق كثيرة على مستوى القيمة والحماية والتأثير. ومن هنا لم يتردّد المتابعون لتحولات «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في الجزم بأن الربيش هو «المنظّر» الجديد لـ«القاعدة» الجديدة على غرار فارس بن شويل، الذي يحاكيه من حيث الخطوط العريضة للتجربة، وإن كان الربيش أكثر التصاقًا بـ«القاعدة» بسبب المدة الزمنية التي مكثها في الميدان. وكانت الفكرة التي سوقها الربيش لنفسه في عهده الجديد كـ«منظّر» فكري لـ«القاعدة» هو تأسيس «ثقافة اغتيال أعداء الإسلام» بسبب تأثيراتها الدعائية البالغة، وارتدادها بفوائد كثيرة على التنظيم أهمها: خلخلة الأمن، واستهداف شخصيات ذات تأثير رسمي.
وعلى مستوى آخر أسهم الربيش في سابقة في نقد الإسلام السياسي في السعودية، بجناحيه «الإخوان» والسرورية، معتبرًا أن كل من ندّد بأحداث 11 سبتمبر من رموز «الصحوة» إنما هو جزء من «جريمة الحملة الصليبية على بلاد الإسلام». كذلك انتقد طوائف من القوميين والصحافيين ومحللي السياسة وصولاً إلى إيران. وحذر المجاهدين من «الوقوع في فخ الرافضة»، كما يقول في إشارة إلى الجدل الذي ولد في داخل أروقة التنظيم حول الاستفادة من ملاذات إيران الآمنة، التي كانت تقدمها سلطات طهران لـ«القاعديين» آنذاك.
الربيش، في الواقع، لم يختلف كثيرًا عن منظّري «القاعدة» من خلفيات شرعية وأبرزهم: عيسى بن سعد العوشان، الذي قتل على أيدي قوات الأمن السعودية في الرياض يوم 21 يوليو (تموز) 2004 م، وخلفه عبد الله الرشود «فقيه» تنظيم «القاعدة في بلاد العراق والشام» الذي كان يتمتع بصلات جيدة مع أبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى فارس بن شويل الزهراني، المكنَّى «أبو جندل الأزدي» المعتقل منذ أغسطس 2004.
«القاعدة» في اليمن الآن تعيش أزمة وجودية دفع بالكثير من خلاياها إلى الانتقال لمربع «داعش»، وهذا مع أن «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» كان أكثر نسخ «القاعدة» كفرًا بـ«داعش» وتشكيكًا في خليفتها المزعوم. وحتى عندما بدأ الخلاف بين البغدادي وأبو محمد الجولاني لم يصدر أي تعليق من «القاعدة» في اليمن، كما لم يصدر الوحيشي، «أمير» التنظيم، أمرًا للمقاتلين اليمنيين في سوريا بالانضمام إلى إحدى الجماعتين. لكن انهيار البناء الشرعي والتنظيمي لـ«القاعدة»، ورحيل أغلب الرموز المؤثرة، وتراجع سلطة الظواهري على التنظيم - التي كانت شكلية ودعائية لا أكثر - عوامل أسهمت في تخفيف حدة نقد «داعش»، وصولاً إلى انشقاقات بدأت منذ اندلاع الأوضاع في اليمن مع بداية 2014. عند هذه النقطة صدرت تسجيلات كثيرة لـ«قاعديين» محليين لنصرة دولة «داعش» كان من أبرزها تسجيل صوتي لمأمون حاتم، أحد قيادات «القاعدة» في بمحافظة أبين تحت عنوان «النصرة اليمانية للدولة الإسلامية». تضمنت دفاعا عن «دولة البغدادي» والهجوم على دول المنطقة، وبالأخص المملكة العربية السعودية. والملاحظ أن الهجوم على السعودية استحوذ على الجزء الأكبر من التسجيل في إشارة إلى إمكانية تمدّد «داعش» في الداخل اليمني عقب انهيار الأوضاع. وهذه الإمكانية وإن كانت مستبعدة تبقى واردة، خاصة إذا ما قرأنا خصوصية التجربة «القاعدية» في اليمن، واعتمادها على العناصر المحلية وبعض العناصر الخليجية، واستبعادها أي خلايا وافدة من الخارج حفاظًا على الطابع المحلي والقبلي الذي مكّن «القاعدة» من الاستمرار.
الصراع «القاعدي» – «الداعشي» في اليمن اشتد أواره في بدايات 2014 أيضا بعدما أصدر التنظيم بيانًا مكتوبًا وصوتيًا بعنوان «رسالة مفتوحة لمجاهدي الشام» قرّر فيها إحجام الجماعة عن الدخول على خط الخلاف بين الجماعات المقاتلة في سوريا، واستعداد «القاعدة» في اليمن للدخول كوسيط لكن بشروط كثيرة، أهمها:
> الحفاظ على بيعة «القاعدة» العامة، أي التنظيم الأم، الذي يقوده الظواهري، خلفًا لابن لادن.
> حماية كوادر التنظيم في الصراعات بين «النصرة» و«داعش»، وهو ما فسّر في ذلك الوقت بحرص «قاعدة اليمن» على الاستقلال والحفاظ على شرعية تاريخ «القاعدة» وإرثها، الذي لا يمكن تسليمه لجماعة مشبوهة في تأسيسها وأهدافها.
لم يكن أكثر حظًا هناك من إبراهيم الربيش وهو يؤسس المرحلة الجديدة لـ«قاعدة اليمن» عبر استقلالها عن بقية التنظيمات، حين أصدر فيديو معالج بشكل دعائي وفني عال بعنوان «مسؤولية الكلمة» حث فيه أتباع التنظيم على احترام العلماء وهيبة الشريعة، في إشارة إلى خلو قيادات «داعش» من أي رموز مقدرة علميًا. كما ركّز على أهمية حفظ فضل «القاعدة» وتاريخها أو ما سماه «أفضلية السبق»، في إشارة إلى رفض هجوم «داعش» على منظّرين ورموز «قاعديين» سابقين أبرزهم أيمن الظواهري وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وآخرين من الجيل القديم الذي تحفّظ عن «داعش» في البداية وانفصل عنها لأسباب تتصل بانفراد «داعش» بالمشهد العنفي وليس للاختلاف في الآراء والمفاهيم.
الحفاظ على إرث «القاعدة» الذي قاده الربيش مكّن التنظيم من التقاط الأنفاس والعودة إلى العمل الميداني وتجنيد المزيد من الكوادر من خارج اليمن، وبالتالي، ضرورة تكثيف العمليات الإرهابية، واستهداف مواقع وأشخاص لهم تأثيرهم بهدف إعادة ترويج رمزية عنف «القاعدة» وتأثير ضرباتها ذات الطابع المعولم. وكان من آثار هذه العودة العملية الفاشلة لاقتحام نقطة «الوديعة» الحدودية السعودية والهجوم الإرهابي على مبنى المباحث في بلدة شرورة.
ومن طرائف تحولات «القاعدة» الجديدة، واضطرابها حول «داعش» وبقية الجماعات العنفية، أن أصدر واحدا من أهم منشدي «القاعدة» تسجيلاً إنشاديًا يمتدح فيه «دولة البغدادي» وخليفتها المزعوم وكانت قصيدة «دولتنا منصورة» لأبي هاجر الحضرمي واحدة من الأعمال الإنشادية الذائعة الصيت، قبل أن يتراجع أبو هاجر ويصدر نشيدًا آخر يمتدح فيه جبهة النصرة بعنوان «جبهتنا منصورة». وهو ما يعيد السؤال مجددًا: ما هي «القاعدة» حقًا نشأة وفكرًا وتحولاً ومآلا؟
سؤال كهذا لا يُطرح بغرض سفسطائي بقدر ما يلمح إلى أن ثمة الكثير من التحولات في سياق الإرهاب وعوالمه التحتية وبناه التنظيمية لا يمكن محوها بجرة قلم أو حتى بقنابل طائرات من دون طيار.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟