«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

مقتل المنظّر إبراهيم الربيش ألقى حجرًا في بركة التنظيم المترهّل

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة
TT

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

ليس من قبيل المصادفة أن يُصاب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بانكسارات عميقة بعد تراجع سطوته في الداخل عقب قيام «أنصار الله» الحوثيين باجتياح مناطق جنوبية كانت تعبث بها «القاعدة»، وبعدما تخلّت الأطراف المنتفعة من بقاء التنظيم لصالح تقويض الدولة اليمنية.
إلا أن هذا الانهيار الوشيك لا يمكن تفسيره بعوامل خارجية فحسب، بل يمكن القول إن مزاحمة «داعش» لـ«القاعدة»، وانتصاراتها على الأرض وسحقها مقاتلي «القاعدة»، يرافقه الآن حملة تحوّلات هائلة لنقل «البيعة» من أيمن الظواهري إلى خليفة «داعش» المزعوم أبو بكر البغدادي.
في السياق ذاته تراجعت الحرب الأهلية بين الفريقين في مناطق التوتر على حدود العراق وسوريا بهزيمة ساحقة لتنظيم داعش. إلا أن الحرب الفكرية بدأت بين الدواعش وبقايا تنظيم القاعدة الذين فقدوا رموزهم الفكرية وانفرادهم بشرعية التنظيم السابقة، والتي ما عادت تغري الشبّان الجدد الطامحين إلى انتصارات - ولو معنوية - بعدما تحوّلت التنظيمات المسلحة من مرحلة «الحور العين» إلى «التمكين في الأرض» وبناء دولة الإسلام. ويمثل مقتل إبراهيم الربيش «المنظّر الشرعي» والقائد الميداني المقدّر عند المتعاطفين مع التنظيمات المسلحة، والقادم من خلفية شرعية أكاديمية حيث ذهب أول مرة في أفغانستان للعمل الإغاثي قبل أن ينتقل إلى فكر «القاعدة» بعد اعتقاله ونقله إلى غوانتانامو، مفصلاً مهمًا.
الربيش، ولد عام 1401هـ (أو 1399) / 1980 م (أو 1978 م)، في مدينة بريدة بالقصيم في المملكة العربية السعودية، وكان ملازمًا لبعض طلاب العلم. ولقد درس الشريعة في الجامعة قبل أن ينتقل إلى أفغانستان في مرحلة موجة «النصرة» الثانية التي جاءت عقب الضربات الأميركية لطالبان عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وهذه الموجة عادة أسست مجموعة من المرتكزات الفكرية والعسكرية والسياسية، كانت مختلفة عن إرث وثقافة «القاعديين» القدامى أبرزها الانفصال التام عن مرجعيات غير جهادية حتى على سبيل الفتوى والاستئناس، وهو ما يفسر ترقّي الربيش في التنظيم بناءً على ثقافته الشرعية.
مرحلة العودة من غوانتانامو مع 16 عائدا يوم 23 من ذي القعدة عام 1427 هـ (2006 م) كانت نقطة تحوّل عند الربيش، إذ خرج بعد إكمال «برنامج المناصحة» وقرّر إكمال الدراسات العليا في الشريعة. إلا أن ذلك الوضع لم يطل كثيرًا، إذ انتقل إلى اليمن في أبريل (نيسان) 2009م وانضم لصفوف ما يسمى بـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن بقيادة المطلوب ناصر الوحيشي. ثم ظهر في تسجيل صوتي عبر شبكة الإنترنت يتحدث فيه عن جريمة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية - حينذاك - يوم 27 أغسطس (آب) 2009 م.
«التنظير الشرعي لثقافة الاغتيال» كان الجسر الذي عبر به الربيش من ضفة «الكوادر المقاتلة» إلى مصاف «القيادات العليا» في التنظيم وبينهما فوارق كثيرة على مستوى القيمة والحماية والتأثير. ومن هنا لم يتردّد المتابعون لتحولات «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في الجزم بأن الربيش هو «المنظّر» الجديد لـ«القاعدة» الجديدة على غرار فارس بن شويل، الذي يحاكيه من حيث الخطوط العريضة للتجربة، وإن كان الربيش أكثر التصاقًا بـ«القاعدة» بسبب المدة الزمنية التي مكثها في الميدان. وكانت الفكرة التي سوقها الربيش لنفسه في عهده الجديد كـ«منظّر» فكري لـ«القاعدة» هو تأسيس «ثقافة اغتيال أعداء الإسلام» بسبب تأثيراتها الدعائية البالغة، وارتدادها بفوائد كثيرة على التنظيم أهمها: خلخلة الأمن، واستهداف شخصيات ذات تأثير رسمي.
وعلى مستوى آخر أسهم الربيش في سابقة في نقد الإسلام السياسي في السعودية، بجناحيه «الإخوان» والسرورية، معتبرًا أن كل من ندّد بأحداث 11 سبتمبر من رموز «الصحوة» إنما هو جزء من «جريمة الحملة الصليبية على بلاد الإسلام». كذلك انتقد طوائف من القوميين والصحافيين ومحللي السياسة وصولاً إلى إيران. وحذر المجاهدين من «الوقوع في فخ الرافضة»، كما يقول في إشارة إلى الجدل الذي ولد في داخل أروقة التنظيم حول الاستفادة من ملاذات إيران الآمنة، التي كانت تقدمها سلطات طهران لـ«القاعديين» آنذاك.
الربيش، في الواقع، لم يختلف كثيرًا عن منظّري «القاعدة» من خلفيات شرعية وأبرزهم: عيسى بن سعد العوشان، الذي قتل على أيدي قوات الأمن السعودية في الرياض يوم 21 يوليو (تموز) 2004 م، وخلفه عبد الله الرشود «فقيه» تنظيم «القاعدة في بلاد العراق والشام» الذي كان يتمتع بصلات جيدة مع أبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى فارس بن شويل الزهراني، المكنَّى «أبو جندل الأزدي» المعتقل منذ أغسطس 2004.
«القاعدة» في اليمن الآن تعيش أزمة وجودية دفع بالكثير من خلاياها إلى الانتقال لمربع «داعش»، وهذا مع أن «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» كان أكثر نسخ «القاعدة» كفرًا بـ«داعش» وتشكيكًا في خليفتها المزعوم. وحتى عندما بدأ الخلاف بين البغدادي وأبو محمد الجولاني لم يصدر أي تعليق من «القاعدة» في اليمن، كما لم يصدر الوحيشي، «أمير» التنظيم، أمرًا للمقاتلين اليمنيين في سوريا بالانضمام إلى إحدى الجماعتين. لكن انهيار البناء الشرعي والتنظيمي لـ«القاعدة»، ورحيل أغلب الرموز المؤثرة، وتراجع سلطة الظواهري على التنظيم - التي كانت شكلية ودعائية لا أكثر - عوامل أسهمت في تخفيف حدة نقد «داعش»، وصولاً إلى انشقاقات بدأت منذ اندلاع الأوضاع في اليمن مع بداية 2014. عند هذه النقطة صدرت تسجيلات كثيرة لـ«قاعديين» محليين لنصرة دولة «داعش» كان من أبرزها تسجيل صوتي لمأمون حاتم، أحد قيادات «القاعدة» في بمحافظة أبين تحت عنوان «النصرة اليمانية للدولة الإسلامية». تضمنت دفاعا عن «دولة البغدادي» والهجوم على دول المنطقة، وبالأخص المملكة العربية السعودية. والملاحظ أن الهجوم على السعودية استحوذ على الجزء الأكبر من التسجيل في إشارة إلى إمكانية تمدّد «داعش» في الداخل اليمني عقب انهيار الأوضاع. وهذه الإمكانية وإن كانت مستبعدة تبقى واردة، خاصة إذا ما قرأنا خصوصية التجربة «القاعدية» في اليمن، واعتمادها على العناصر المحلية وبعض العناصر الخليجية، واستبعادها أي خلايا وافدة من الخارج حفاظًا على الطابع المحلي والقبلي الذي مكّن «القاعدة» من الاستمرار.
الصراع «القاعدي» – «الداعشي» في اليمن اشتد أواره في بدايات 2014 أيضا بعدما أصدر التنظيم بيانًا مكتوبًا وصوتيًا بعنوان «رسالة مفتوحة لمجاهدي الشام» قرّر فيها إحجام الجماعة عن الدخول على خط الخلاف بين الجماعات المقاتلة في سوريا، واستعداد «القاعدة» في اليمن للدخول كوسيط لكن بشروط كثيرة، أهمها:
> الحفاظ على بيعة «القاعدة» العامة، أي التنظيم الأم، الذي يقوده الظواهري، خلفًا لابن لادن.
> حماية كوادر التنظيم في الصراعات بين «النصرة» و«داعش»، وهو ما فسّر في ذلك الوقت بحرص «قاعدة اليمن» على الاستقلال والحفاظ على شرعية تاريخ «القاعدة» وإرثها، الذي لا يمكن تسليمه لجماعة مشبوهة في تأسيسها وأهدافها.
لم يكن أكثر حظًا هناك من إبراهيم الربيش وهو يؤسس المرحلة الجديدة لـ«قاعدة اليمن» عبر استقلالها عن بقية التنظيمات، حين أصدر فيديو معالج بشكل دعائي وفني عال بعنوان «مسؤولية الكلمة» حث فيه أتباع التنظيم على احترام العلماء وهيبة الشريعة، في إشارة إلى خلو قيادات «داعش» من أي رموز مقدرة علميًا. كما ركّز على أهمية حفظ فضل «القاعدة» وتاريخها أو ما سماه «أفضلية السبق»، في إشارة إلى رفض هجوم «داعش» على منظّرين ورموز «قاعديين» سابقين أبرزهم أيمن الظواهري وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وآخرين من الجيل القديم الذي تحفّظ عن «داعش» في البداية وانفصل عنها لأسباب تتصل بانفراد «داعش» بالمشهد العنفي وليس للاختلاف في الآراء والمفاهيم.
الحفاظ على إرث «القاعدة» الذي قاده الربيش مكّن التنظيم من التقاط الأنفاس والعودة إلى العمل الميداني وتجنيد المزيد من الكوادر من خارج اليمن، وبالتالي، ضرورة تكثيف العمليات الإرهابية، واستهداف مواقع وأشخاص لهم تأثيرهم بهدف إعادة ترويج رمزية عنف «القاعدة» وتأثير ضرباتها ذات الطابع المعولم. وكان من آثار هذه العودة العملية الفاشلة لاقتحام نقطة «الوديعة» الحدودية السعودية والهجوم الإرهابي على مبنى المباحث في بلدة شرورة.
ومن طرائف تحولات «القاعدة» الجديدة، واضطرابها حول «داعش» وبقية الجماعات العنفية، أن أصدر واحدا من أهم منشدي «القاعدة» تسجيلاً إنشاديًا يمتدح فيه «دولة البغدادي» وخليفتها المزعوم وكانت قصيدة «دولتنا منصورة» لأبي هاجر الحضرمي واحدة من الأعمال الإنشادية الذائعة الصيت، قبل أن يتراجع أبو هاجر ويصدر نشيدًا آخر يمتدح فيه جبهة النصرة بعنوان «جبهتنا منصورة». وهو ما يعيد السؤال مجددًا: ما هي «القاعدة» حقًا نشأة وفكرًا وتحولاً ومآلا؟
سؤال كهذا لا يُطرح بغرض سفسطائي بقدر ما يلمح إلى أن ثمة الكثير من التحولات في سياق الإرهاب وعوالمه التحتية وبناه التنظيمية لا يمكن محوها بجرة قلم أو حتى بقنابل طائرات من دون طيار.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.