انخفاض غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانية يدفع الناس إلى الشارع

TT

انخفاض غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانية يدفع الناس إلى الشارع

سجل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي انخفاضاً جديداً، انزلق معها لبنان إلى هاوية نقدية، إثر تداول سعر الدولار بـ33 ألف ليرة في السوق السوداء، ما يعني خسارة الليرة نحو 95.5% من قيمتها منذ خريف عام 2019 ما دفع الناس إلى الشارع.
ويعمّق هذا الانخفاض الهواجس بشأن التطورات المقبلة وسط ازدياد حدة التأزم الداخلي المتصل بمجمل الملفات. ولم تنفع التدابير التقنية والوقائية التي يتخذها البنك المركزي للحد من وتيرة انحدار سعر الليرة وسرعة التغير في التسعير مع اتساع القفزات التي يسجلها الدولار إلى الآلاف يومياً عوضاً عن المئات، فيما تنذر التداعيات في أسواق الاستهلاك بتجدد الموجات العالية للتضخم بموازاة توجه الدولة إلى رفع تكاليف الخدمات العامة (كهرباء، ومياه، واتصالات، وسواها) والرسوم الحكومية والدولار الجمركي، فضلاً عن الارتفاعات العالمية في أسعار السلع والمواد الأساسية وتكلفة الشحن والاستيراد ومشكلات سلاسل الإمداد والتوريد.
وتحفّظ مسؤولون ماليون ومصرفيون على الخوض في حيثيات التطورات النقدية، من دون إخفاء شبه الإجماع على توجيه الاهتمام إلى «الدولار السياسي» الذي بات يبسط سيطرته التامة على الأسواق الموازية للمبادلات النقدية ويحدد وجهتها عبر تطبيقات إلكترونية يتم تشغيلها من خارج البلاد وتتولى إدراج التغييرات السعرية لحظة بلحظة من دون إفصاح عن حجم حركتي العرض والطلب.
وتتفق مصادر معنية ومتابعة، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، على وصف المرحلة الحاضرة بـ«الحرجة جداً على المستوى النقدي وإدارة السيولة». وتقول إن «العوامل السياسية الشائكة والمتخمة بالصعوبات والتعقيدات على عتبة الانخراط في استحقاق الانتخابات النيابية، تستهلك بسهولة مفاعيل الإجراءات الوقائية التي يتخذها البنك المركزي بما يشمل الضخ اليومي للدولارات النقدية بمتوسط يقارب 20 مليون دولار عبر منصته الخاصة»، ثم «تتحول تلقائياً إلى ضغوط شديدة على سعر صرف الليرة وأسواق المبادلات النقدية التي تعمّها الفوضى وعشوائية التسعير خارج أي سيطرة للسلطات النقدية والقضائية والأمنية».
وتسود مخاوف جدية من تكوين مناخات مواتية لتمدد الاضطرابات إلى الاستقرار الأمني الهش في ظل الانحدار الخطير في الأوضاع المعيشية إلى درجة «إعدام» القدرات الشرائية لغالبية المقيمين بعدما تعدى متوسط الغلاء واقعياً نسبة 1000%، وتقلص الحد الأدنى الرسمي للأجور إلى 20 دولاراً شهرياً. وفي إجراء تقني جديد، أعلن مصرف لبنان أمس، أنه إضافةً إلى المفاعيل الأساسية للتعميم 161، يحق للمصارف زيادة على الكوتا التي يحق لها شهرياً سحبها بالليرة اللبنانية وأصبحت تأخذها بالدولار الأميركي على منصة (Sayrafa) أن تشتري الدولار الأميركي الورقي من مصرف لبنان مقابل الليرات اللبنانية التي بحوزتها أو لدى عملائها على سعر منصة صيرفة من دون سقف محدد.
وإذ يعوّل العاملون في القطاع العام على تحسين طارئ في المداخيل عبر المنح والزيادات في بدلات النقل والمساعدات الاجتماعية وسواها، فإن إحباطهم يزداد بفعل تأخير إقرار موازنة العام الحالي وإحالتها كمشروع قانون إلى المجلس النيابي بسبب تعذر انعقاد جلسات مجلس الوزراء، بموازاة تصاعد وتيرة هجرة العمال في القطاع الخاص في الأشهر الأخيرة.
هذا الواقع، دفع الناس إلى الشارع أمس، حيث سُجّلت تحركات شعبية وإقفال طرقات في عدد من المناطق اللبنانية احتجاجاً على ارتفاع سعر صرف الدولار وما يرافقه من فوضى في الأسعار. واستمرت أمس الاحتجاجات التي بدأت مساء الاثنين.
وذكرت «الوكالة الوطنية للإعلام» أن محتجين غاضبين أقدموا على قطع الطريق في صيدا في الجنوب بمستوعبات النفايات، داعين الجميع «للنزول إلى الشارع والضغط من أجل إيجاد حلول للأزمات المتلاحقة». ورأى المحتجون أن «الوضع بات لا يُحتمل»، مستغربين «سكوت الناس وعدم نزولهم إلى الشارع للاحتجاج والضغط من أجل إيجاد حل للأزمات المتلاحقة».
وفي بعلبك في شرق لبنان، أحرقت مجموعة من المحتجين الإطارات في وسط سوق بعلبك التجارية. وسجلت تحركات مماثلة في الشمال، حيث قطع محتجون طريق البداوي الدولي في الاتجاهين احتجاجاً على ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».