لماذا سارعت موسكو لإرسال قواتها إلى كازاخستان؟

TT

لماذا سارعت موسكو لإرسال قواتها إلى كازاخستان؟

أثار وصول مظليين روس في إطار قوة الرد السريع التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان مخاوف غربية اقترنت بحالة ترقب أعلن عنها مسؤولون في الولايات المتحدة والحلف الأطلسي.
وعزز إطلاق موسكو آلية نشطة لتعزيز حضورها العسكري الواسع في كازاخستان على خلفية الأزمة التي تفاقمت في هذا البلد، تكهنات غربية بأن موسكو سارعت إلى استغلال الأحداث الدامية من أجل توسيع حضورها العسكري المباشر في البلد الحليف الذي يحظى بأهمية خاصة في آسيا الوسطى.
وتعد هذه أول عملية عسكرية للقوات الجماعية للدول الست التي تنضوي في إطار منظمة الأمن الجماعي (روسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأرمينيا وبيلاروسيا)، وهي المنظمة التي تأسست منذ 20 عاماً لكن نشاطها لم يتجاوز منذ ذلك الحين القيام بأعمال تدريبات وإطلاق نشاطات دعائية.
وتساءلت تعليقات عن مدى شرعية التدخل السريع لقوات المنظمة في كازاخستان، لأن استخدام القوة الجماعية من دون وقوع عدوان خارجي ضد أحد أعضاء المنظمة لم يتم إدراجه في وثائق المنظمة منذ تأسيسها.
وفي أوقات سابقة تعاملت الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي مع مثل هذه الاحتجاجات بطريقة معاكسة تماماً، فقد رفضت عدة مرات مساعدة قوات محلية في أكثر من بلد على مواجهة اضطرابات أو ثورات داخلية بسبب «غياب العدوان الخارجي».
تم إنشاء المنظمة في عام 2002 على أساس اتفاقية قديمة بشأن الأمن الجماعي لبلدان رابطة الدول المستقلة، والتي تم تبنيها في عام 1992، بعد وقت قصير من انهيار الاتحاد السوفياتي.
وانسحب جزء كبير من الموقعين على هذه الاتفاقية (جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان) منها في عام 1999. وفي عام 2002، في موسكو، أنشأت الأطراف المتبقية في المعاهدة (أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان) منظمة أمنية جماعية كاملة كان من المفترض أن تشبه الناتو - أو منظمة حلف وارسو الموالية للاتحاد السوفياتي. وفي عام 2006، انضمت أوزبكستان إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي لتنسحب منها مجدداً في عام 2012.
طوال فترة وجود المنظمة، اقتصرت أنشطتها على التدريبات والأعمال المشتركة لمكافحة الاتجار بالمخدرات. في حين أنه خلال هذه السنوات العشرين، تعرض أعضاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي لحروب واضطرابات داخلية وشاركوا في عمليات حفظ السلام الدولية.
وأثار تقاعس المنظمة في مثل هذه الظروف انتقادات من أعضائها أنفسهم. إذ طلب أعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي من الحلفاء المساعدة ثلاث مرات، ولم تتم تلبية الطلب في أي منها.
خلال الثورة الشعبية بقيرغيزستان في أبريل (نيسان) 2010، أرسل رئيس الدولة آنذاك كرمان بك باكييف طلباً عبر ألكسندر لوكاشينكو لإرسال قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي لمحاربة المتمردين. ولم تلبث الاحتجاجات أن أجبرت باكييف على الاستقالة من منصبه قبل وصول الإمدادات، وشن لوكاشينكو حملة غاضبة ضد المنظمة في حينها، وقال: «أي نوع من العمل الجماعي هذا؟ وقع سفك للدماء في أحد بلداننا، وحدث انقلاب والنتيجة صفر. لماذا؟»، وخلص إلى أن «أنشطة المنظمة تبدو غير مجدية».
وبعد بضعة أشهر، تلقت منظمة معاهدة الأمن الجماعي طلباً رسمياً من السلطات الثورية الجديدة في قيرغيزستان لإرسال قوات إلى منطقتي جلال آباد وأوش في الجمهورية، حيث وقعت اشتباكات بين المجتمعات القيرغيزية والأوزبكية. رفضها الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف آنذاك، قائلاً إن أسباب الاضطرابات في قيرغيزستان داخلية. وأوضح: «معايير استخدام قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي هي انتهاك أي دولة أو كيان غير حكومي لحدود دولة عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي. بمعنى آخر، محاولة للاستيلاء على السلطة من الخارج.
في هذه الحالة فقط يمكننا التدخل». وبعد عشر سنوات عندما أصبحت هزيمة أرمينيا في الحرب مع أذربيجان في عام 2020 واضحة، لم تطلب أرمينيا رسمياً مساعدة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي. بل لمحت فقط إلى ذلك، لكن الكرملين رد بشكل سلبي مستبقاً طلباً محتملاً، وأعلن في حينها أن «معاهدة الأمن الجماعي لا تنطبق على كاراباخ، ولا أحد يهاجم أرمينيا نفسها».
في عام 2021، طلب رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إجراء مشاورات مع منظمة معاهدة الأمن الجماعي عندما شن الجيش الأذري هجوماً على الجزء المتنازع عليه من الحدود بين البلدين. رداً على ذلك، عرضت روسيا على باشينيان السعي لترسيم الحدود بشكل واضح.
وأخيراً، في 5 يناير (كانون الثاني) 2022، طلب رئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكايف، المساعدة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
وبرر الطلب بأن البلاد لم تعانِ فقط من صراع داخلي، بل تعرضت لـ«هجوم من قبل عصابات إرهابية» تدربت في الخارج.
وسرعان ما عقد رؤساء الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي اجتماعاً على الإنترنت لمجلس المنظمة، وتجاهلوا التفسيرات التقليدية لمصطلح «العدوان الخارجي»، وامتثلوا لطلب توكايف. وبعد ساعات قليلة، بدأت أول عملية «حفظ سلام» في تاريخ منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
ولم توضح موسكو ولا أي طرف في المعاهدة سبب المسارعة في تلبية الطلب. لكن الواضح أن موسكو هي التي تتحرك عسكرياً، بينما تحصل على دعم رمزي من بقية الأطراف، وهذا ما يوضحه مثلاً مشاركة أرمينيا في العملية بعشرات الجنود فقط.
كما يقول مراقبون، يبدو أن المشهد الكازاخي «أرعب الروس»، خصوصاً على خلفية الوضع في أوكرانيا وبيلاروسيا، لأن إطاحة السلطات في نور سلطان سوف يعني مباشرة إضعاف النفوذ الروسي، ليس في كازاخستان وحدها بل تدريجياً في كل منطقة آسيا الوسطى.
ويقول آخرون إنه مهما كانت نتيجة الاضطرابات الحالية، فلن يكون الوضع في كازاخستان وآسيا الوسطى كما كان في السابق. ودخول القوات الأجنبية بهذه الطريقة المتسرعة يمهد لما هو مقبل.



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».