السودان... معركة بين «القوة الناعمة» و«القوة الصلبة»

TT

السودان... معركة بين «القوة الناعمة» و«القوة الصلبة»

يعيش السودان منذ أكثر من شهرين صراعاً بين «القوة الصلبة» التي يمثلهاالجيش والقوات الأمنية المختلفة، و«القوة الناعمة» التي يمثلها المحتجون السلميون الذين يخرجون في مواكب حاشدة بانتظام مطالبين بتسليم السلطة للمدنيين، وعودة الجيش إلى ثكناته.
ويرى البعض أن تولي قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان السلطة في البلاد وحل مجلسي السيادة والوزراء في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يعتبر حدثاً مختلفاً عن جميع الأحداث السابقة التي يتدخل فيها الجيش لتولي الحكم في البلاد، فيما يسمه الناس عادة انقلاباً عسكرياً. ففي «انقلاب» البرهان خرجت مواكب الاحتجاج ضده حتى قبل أن يذيع بيانه الأول، ولم تخرج قط مواكب مؤيدة له، على عكس ما كان يحدث في الانقلابات السابقة التي كانت عادة تجد إما ترحيباً أو على الأقل عدم معارضة.
غير أن الفريق البرهان أعاد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بعد شهر من إقالته ووضعه في الإقامة الجبرية، لممارسة مهام سلطته على الرغم من حلّ حكومته، بحيث أصبح البعض يعتبر أن الانقلاب يقع بين منزلتين: «انقلاب؟ أم نصف انقلاب؟»، فيما يؤكد البرهان نفسه أن ما قام به لم يكن انقلاباً بل «إجراءات تصحيحية».
وفي الساعات الأولى للانقلاب، ومن دون تنسيق ودعوات، خرج آلاف الشباب تلقائياً قاصدين مقر قيادة الجيش للاحتجاج على توليه السلطة بهذه الطريقة، فتصدت لهم القوات العسكرية بعنف وقتلت منهم ستة أشخاص بالرصاص، ودهست عربة عسكرية السابع فأردته قتيلاً وأصابت 140 محتجاً في الحال. بيد أن العنف لم يقطع سيل مواكب الاحتجاج السلمية على الانقلاب، ولم يصب المحتجون بالرعب والصدمة.
وأعلن الفريق البرهان، الذي كان حتى لحظة الانقلاب يترأس المجلس السيادي (أعلى سلطة سيادية في البلاد)، في بيان بعد هجوم المحتجين على محيط القيادة العامة للجيش في الخرطوم، حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء، وجمّد عمل «لجنة إزالة التمكين»، وعلّق مواد الشراكة مع تحالف «قوى الحرية والتغيير» المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، وأبقى على ما تبقى من مواد الوثيقة، وتمسّك بما نصت عليه بشأن اتفاق سلام جوبا.
وقال البرهان في خطابه إنه اتخذ تلك الإجراءات لـ«حماية الثورة»، وتعهد بتشكيل حكومة جديدة في غضون أيام، وبإكمال هياكل الحكم الانتقالي بما في ذلك المجلس التشريعي، وتعيين رئيس للقضاء ونائب عام، وتشكيل المحكمة الدستورية. لكنه فشل في الوفاء بهذه الوعود على الرغم من مرور أكثر من شهرين على إطلاقها، إذ ما زال السودان بلا حكومة، فيما تم تكليف رئيس قضاء ونائب عام فقط.
كما شكّل البرهان مجلس سيادة جديداً برئاسته، واختار له، إلى جانب شركائه في المكون العسكري، ممثلي قوى اتفاق السلام الثلاثة وعضو من المجلس السابق، إضافة إلى أربعة أشخاص لم يُعرف أساس اختيارهم. لكن ضغط «القوى الناعمة» دفع أحدهم إلى الاستقالة احتجاجاً على ما سماه العنف المفرط ضد المحتجين السلميين، ولم يفلح في ملء خانة العضو الأخير الشاغرة منذ الانقلاب.
لم تقنع تبريرات قائد الجيش بأنه استولى على السلطة لحماية الفترة الانتقالية من الانقسامات السياسية التي تشكل إنذاراً يهدد البلاد، ولتمهيد الأجواء لانتخابات ديموقراطية، غالبية النخب السودانية التي واصلت التوجه إلى الخرطوم في مواكب احتجاجية استمرت طوال الفترة التي أعقبت إجراءاته، وبلغت حتى الآن 13 موكباً. ولم يكن لدى البرهان وحلفائه وسيلة لمواجهة الحشود البشرية سوى العنف المفرط والقمع الشديد، ما أدى إلى مقتل 60 محتجاً وإصابة أكثر من ألف شخص بجروح متفاوتة، بعضها خطيرة. وبجانب ذلك، دأب العسكريون على اتخاذ إجراءات متشددة لوأد الاحتجاجات، تمثلت في إغلاق الجسور الرابطة بين المدن، وإقامة حواجز حول مقر قيادة الجيش، وقطع خدمة الإنترنت والاتصالات، واستخدام قوات كبيرة من الجيش والشرطة والدعم السريع، وقوات الحركات المسلحة، إبان المواكب الاحتجاجية.
لكن العنف المفرط لم يفلح في فرض إرادة الجيش على المحتجين، بل ظلت المواكب تتواصل حتى اضطر الفريق البرهان إلى التراجع ووقع على اتفاق سياسي مع رئيس الوزراء المقال وأعاده إلى منصبه، مما حوّل «الانقلاب» إلى «نصف انقلاب»، في نظر البعض. غير أن غالبية القوى السياسية اعتبرت الاتفاق بين الرجلين «شرعنة للانقلاب»، ورفضته بشكل قاطع، ورفع البعض شعار: «لا تفاوض، لا شراكة، لا مساومة» مع الجيش.
وبعد شهر من الاتفاق قدم حمدوك استقالته في 2 يناير (كانون الثاني) الحالي، مبرراً خطوته بفشله في تحقيق توافق يقود البلاد خلال الفترة الانتقالية. لكن استقالته لم تبرّد «حمى» الاحتجاجات التي ظلت تخرج بانتظام للتنديد بالانقلاب، والمطالبة بعودة المدنية، وعودة الجيش إلى ثكناته.



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم