الاتجاهات المستقبلية 2022: المحتوى السايبيري المشترك بين الثقافات

الاتجاهات المستقبلية 2022: المحتوى السايبيري المشترك بين الثقافات
TT

الاتجاهات المستقبلية 2022: المحتوى السايبيري المشترك بين الثقافات

الاتجاهات المستقبلية 2022: المحتوى السايبيري المشترك بين الثقافات

كان لجائحة (كوفيد - 19) ارتدادات مدمرة على الصناعات الثقافية والفنية في جميع أنحاء العالم، ولا سيما ناحية الغرب حيث تفاقمت تأثيرات كابوس العزلة والإغلاق وقيود السفر على معظم المنتجين الثقافيين والمبدعين: في الشعر والمسرح والنشر وبيع الكتب، كما السينما والمهرجانات الثقافية والفن التشكيلي وحتى الصحافة. وهذا كله أدى إلى تسارع عالي الوتيرة لـ«التحول الرقمي» المستمر منذ ربع قرن تقريباً على نحو يحدث تغييرات جذرية نوعية في الطريقة التي ننتج بها الثقافة ونستهلكها.
وفي ظل هذه الخلفية المعقدة، لا بد للمعنيين بالشأن الثقافي على تنوع صناعاتهم من الإصغاء إلى ضجة ذلك التحول وقراءة الاتجاهات التي يمضي إليها، واستطلاع المترتبات التي من المرجح أن يتركها على الإنتاج والاستهلاك الثقافيين في عالم ما بعد (كوفيد - 19).
ولعل أكثر الاتجاهات إثارة للاهتمام، وتقاطعت مختلف الجهات المعنية برصد المحتوى الرقمي على استمرار تأثيرها خلال الأشهر والسنوات المقبلة، ذلك التنوع الثقافي المتزايد في المحتوى الذي يستهلكه العالم المُعاصر من خلال الفضاء السايبيري، بداية من بحث الأفراد على الإنترنت واستخدامهم لأدوات الترجمة الرقمية، إلى نوعية البرامج التلفزيونية والأفلام والموسيقى والنقاشات الثقافية والمحاضرات ومراجعات الكتب التي يتابعونها، مروراً كذلك بمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي التي قضوا أوقاتاً مضاعفة في التفاعل معها.
وبحسب غوغل – أكبر محركات البحث على الإنترنت – شهد العام الماضي استخداماً قياسياً للأدوات الرقمية التي تسمح للأفراد بترجمة النصوص من لغة إلى أخرى، واستخدمت كلمة (ترجم) كسابع أكثر الكلمات التي ترددت في البحث وأولها على الإطلاق بعد أسماء المواقع الشهيرة كيوتيوب وفيسبوك وواتساب، فيما تم استدعاء تطبيقي الترجمة اللذين توفرهما غوغل على الإنترنت ضمن أكثر عشرين كلمة تم الاستعلام عنها. وهناك تقرير لمؤسسة متخصصة بمتابعة الاتجاهات العالمية في استخدام الإنترنت يشير إلى أن واحداً من كل ثلاثة مستخدمين عبر المعمورة استعان بأداة ترجمة رقمية خلال السبعة أيام الماضية، مع ارتفاع ملحوظ في كل دول العالم، وبما يزيد على 50 في المائة مقارنة بالعام 2020 في بلاد كثيفة السكان مثل إندونيسيا والمكسيك والبرازيل وكولومبيا. وتمثل الشابات أكبر حصة من مستخدمي خدمات ترجمة النصوص عبر الإنترنت، إذ تبين أن أكثر من أربعين في المائة من اللواتي تتراوح أعمارهن بين 16 و24 عاما استخدمن هذه الأدوات خلال السبعة أيام ماضية، فيما بدت المجموعة الأكبر سناً عموماً (55 - 64 عاماً) أقل المجموعات العمرية استخداماً لها (بنسبة عشرين في المائة منهم فقط).
ولا شك أن ذلك يخلق فرصاً غير مسبوقة لانتشار المنتج الثقافي خارج الأطر الجغرافية واللغوية المعهودة رغم أن أدوات الترجمة المجانية المتوفرة غير مثالية بعد، لكنها ماضية نحو تحسن مستمر وفي طريقها لتسمح للأفراد بالوصول إلى مصادر ومواد أوسع بكثير من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. ويأتي ذلك محملاً بإمكانات هائلة لتسويق الأفكار والمنتجات الثقافية توازياً مع النمو المضطرد في التجارة الإلكترونية العابرة للحدود وتسهيلات الدفع والتوصيل، بل وتنزيل المواد لحظياً. ولربما سيمكن قريباً لقراء المحتوى المتعدد مثل الصحف والمجلات العالمية كنيوريوك تايمز أو نيويوركر من مطالعة فورية لما يرغبونه من خلال خدمة ترجمة توفرها تلك المواقع بحيث إن قاعدة المتابعين تتجاوز سقف اللغة الإنجليزية الزجاجي الذي يحددها نسبيا الآن – بعض الصحف لها طبعات مختصرة بالإسبانية أو الصينية - وما ينطبق على المقالات بالطبع سينسحب لاحقاً على كل النصوص أدباً ورواية وشعراً، بحيث يتسنى لتلميذ في الهند كمثال أن يقرأ بسهولة قصيدة تكتبها شاعرة في الأرجنتين دون الحاجة لانتظار سنوات لإنجاز ترجمات رسمية قد لا تأتي - إن أتت - بكل اللغات.
ويعزو خبراء ونقاد جزءاً كبيراً من هذا التوجه لكسر جدران اللغة ومحددات المكان الجغرافي لعبور الثقافات الأخرى إلى التطور الاستثنائي لقدرات منصات البث التلفزيوني عبر الإنترنت (نتفليكس وأخواتها العديدات) على توفير كمية هائلة من المحتوى الممتاز - تقنياً – بأسعار زهيدة. إذ يبدو أن مئات الملايين من المشتركين في خدمات هذه المنصات حول العالم يتطلعون بحماس لمشاهدة منتجات بصرية (أفلاماً كانت أو مسلسلات ووثائقيات) من إنتاجات الشعوب والثقافات الأخرى سوى اللغة الإنجليزية التي تأتي من الولايات المتحدة وبريطانيا أساساً. وبحسب أرقام نشرتها منصة نتفليكس فإن عشرات الملايين عبر العالم تابعوا خلال أسابيع قليلة مسلسلات أنتجت محلياً في كوريا الجنوبية، وإسبانيا، والدنمارك، والمكسيك، وتركيا. ومثل هذه الأعمال كانت قبل أقل من عقد واحد غير قادرة على عبور حدود دولها إلا بشكل جد محدود ومكلف ويستغرق وقتاً، لكنها الآن قريبة بدبلجات بعدة لغات عالمية وفي وقت متزامن للجمهور المعولم. وبالطبع فإن اللغة ليست العامل الوحيد الذي نحتاج إلى النظر فيه عند استكشاف تأثير التنوع الثقافي المتزايد، إذ مع عبور الأعمال الدرامية تأتي في ركابها أيضاً الموسيقى والأدب والأزياء والرقص، والطعام، وطرق التفكير، والاستهلاك. وهذه ليست بالظاهرة الجديدة، فقد كانت هوليوود تصدر الثقافة والقيم والعلامات التجارية الأميركية مع أفلامها ومسلسلاتها ومجلاتها لعقود من الزمان وتؤثر في جمهور عالمي. ومع ذلك، فإن ظهور منصات البث العالمية مثل (نتفليكس) جعلت مهمة الترويج للمحتوى أكثر سهولة بما لا يقاس، لا سيما مع تمتع الجماهير بسيطرة أكبر على ما يشاهدونه، ومتى يشاهدونه. وببساطة فإن منصات البث الرقمي تتيح اليوم للناس في أكثر من 190 دولة لمشاهدة ذات الخبرات والقصص لمنتجين ثقافيين من جميع أنحاء العالم في آن واحد. وتضيف الطبيعة المعولمة لوسائل التواصل الاجتماعي زخما إلى هذا المسار، إذ تتيح انتشاراً متشظياً لمحتوى ثقافي معين بشكل أبعد وأسرع مما كان يمكن لمنتجه أن يحلم بتحقيقه من قبل عبر وسائل الإعلام التقليدي.
ولا تقتصر اتجاهات العولمة المتفجرة على البرامج التلفزيونية والأفلام، إذ نشهد تحولات موازية في عالم الموسيقى أيضاً. والملحوظ أن جماهير عالمية التوزع تبدو أكثر حماسا للأغاني بلغات أخرى غير الإنجليزية، ولم يعد مستغرباً أن تجد أغنية لمطرب إسباني أو نيجيري أو هندي في مقدمة التصنيف العالمي للأكثر انتشاراً. وليس هناك خلاف بين المُراقبين على دور مواقع التواصل الاجتماعي – لا سيما الموقع الصيني تيك توك – في ذلك، حيث وصل عدد مشتركيه لأكثر من مليار مستخدم نشط شهرياً يمكنهم الوصول إلى محتوى معولم بحق دون الخضوع لخوارزميات دائرة الأصدقاء والمعارف كما على فيسبوك أو تويتر أو لمحددات المادة الثقافية كما على يوتيوب.
إن هذه المُرونة الفائقة في إنتاج العمل الثقافي والإبداعي – بتنوع أشكاله – وكسرها لحدود اللغة والمكان والزمان لا تعني مجرد اتساع سوق الثقافة فحسب – بكل ما يتيحه ذلك من فرص - بل وهو الأخطر، أن الثقافة نفسها تتطور أسرع بكثير مما كانت عليه قبل بضع سنوات وبالترافق مع تراجع ملحوظ في قدرة السلطات المحلية على التحكم بنوعية أو كمية المواد الثقافية المتدفقة من الخارج، وهذا يضع جمهوراً عريضاً مثل الناطقين بالعربية – 425 مليون نسمة – مفتقداً لأدوات الإنتاج الثقافي المؤثر عرضة لهيمنة أصحاب السطوة الإعلامية والآيديولوجية في العالم على المحتوى بشكل غير متوازن، الأمر الذي ستكون له دون شك نتائج هائلة لم نلمس منها بعد سوى المقدمات الظاهرة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!