جوان ديديون التي سطرت تاريخ الخلل الأميركي

كتبت على مدى نصف قرن مقالات ذات إيقاع قوي لا تخطئُه العين

الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يكرم جوان ديديون عام 2013
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يكرم جوان ديديون عام 2013
TT

جوان ديديون التي سطرت تاريخ الخلل الأميركي

الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يكرم جوان ديديون عام 2013
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما يكرم جوان ديديون عام 2013

كانت جوان ديديون في الخامسة من عمرها حين كتبت قصتها الأولى بناء على تعليمات أمها التي أمرتها بأن تتوقف عن الأنين وتدوّن أفكارها. تسلّت بوصف امرأة تتخيل أنها ستموت بالتجمد لكنها بدلاً من ذلك تموت بالاحتراق.
كتبت ديديون فيما بعد: «لا أدري ما الذي دفع طفلة في الخامسة لأن تصرّ على تخيل قصة (ساخرة) وغرائبية؟ يتضح من ذلك أن ثمة نزعة للتطرف ظلت تلاحقني حتى سن النضج».
لقد ظلت ديديون، التي تُوفيت الخميس 23 ديسمبر (كانون الأول) عن 87 عاماً، وعلى مدى نصف قرن، المتفحصة العظمى للخلل الأميركي، في مقالات ذات إيقاع قوي لا تخطئُه العين. مقالات تتمخض عن الفيضانات والحرائق.
تساءلت ذات مرة، وهي التي تنتمي إلى الجيل الخامس من سكان كاليفورنيا: «ألا تعتقدون أن الناس يتشكلون بفعل المشهد الذي نشأوا فيه؟».
كانت مشهدنا. صاغت أسلوباً مهيمناً، جذاباً، وعصياً على التخطي. قالت ذات مرة: «لست معنية بالعفوية. لست كاتبة إلهام. ما يعنيني هو التحكم التام». موضوعاتها الكبيرة –ما في الخداع الذاتي من إغراء وفساد، واختلاق السرديات السياسية– صارت الآن من ثوابت الصحافة. بطلاتها –تلك الفتيات الخرافيات الغامضات الجروح– يظهرن في كل مكان من فنون السرد المعاصر. إعجابها النشوان بذاتها في مقالات حول ممتلكاتها وطقوسها –يمكنها تصوير الصداع النصفي كما لو كان ملهماً– هي اللغة الأساس لنوع خاص من الكتابة حول الإنترنت. هي في الأساس مَن اخترع مذكرات الأسى الحديثة بكتابها «سنة التفكير السحري»، الذي استعادت فيها ذكريات زوجها الكاتب جون غريغوري دُن، الذي مات بنوبة قلبية مفاجئة عام 2003.
كانت كاتبة مشغولة بأساطير تُقلقها –حول الشباب، حول تأسيس أميركا، حول الحركات الاجتماعية، حول الستينات– وكانت موهوبة على نحو غامض حين يتعلق الأمر باختراع أسطورتها هي. إعادة سرد جذورها تُشعر المرء بأنه ينسج حكاية سحرية: القصة الأولى في الخامسة. تعلّمها الطباعة باستنساخ مهووس لجُمل همنغواي. عادتها في تخزين الخطاطات الأولى في الفريزر. طريقتها في العودة إلى بيت طفولتها لإنهاء كتبها الأربعة الأولى، في غرفة طُليت بلون القرنفل بينما تعرش على الشبابيك نباتات خضراء تسرّب الضوء...
حين كانت ديديون محرِّرة مبتدئة في مجلة «فوغ»، كتبت مقالات قصيرة وتعليقات على الصور. تلت ذلك رواياتها المحيرة، والمقالات التي رسمت معالم جيل في كتابيها «يزحف نحو بيت لحم» و«الألبوم الأبيض»، بالإضافة إلى السيناريوهات والتقارير من أميركا الوسطى والروايات السياسية المثيرة إلى جانب كتابَي مذكرات حول رحيل زوجها دُن وابنتها كوينتانا رو دُن بعد ذلك بعام. في عام 2011 توقفت عن نشر شيء جديد لكنّ مجاميع تضم ما نشرته في الصحف جاءت بعد ذلك.
لقد عبّرت ديديون عن عصرها بتقارير تأتي أحياناً من حوافّ جسدها –كما لو كانت خبيرة بزلازل النفس– مشركةً قارئها بتقارير عن حالتها النفسية («نوبة دوار وغثيان لا تبدو لي رد فعل غير مناسب لصيف 1968»).
تساءل دارسي أو براين في مراجعة لكتاب ديديون «الألبوم الأبيض»: «أليس هناك ما يبهج هذه المرأة؟» وراء المواقف المنتقدة لها، تعاليها، استغراقها في ذاتها، افتقادها لحس الكوميديا، محافظتها وتغطرسها... وصفت بولين كيل رواية «العبها كما تجدها» بقولها: «متعالية بصورة سخيفة. قرأتها بين نوبات من القهقهة وعدم التصديق». الصحافية ماريا بوستيوس كتبت تصف رواية ديديون بأنها «ممارسة لا تهدأ للتعالي الطبقي. ستصير عمّا قريب استعراضاً لا يمكن احتماله لمغنٍّ شعبي. إنها الكتاب المقدس المغلف بالجلد ذي الحواف الذهبية لنظام الجدارة في الليبرالية الجديدة».
لكن هل بمقدور أحد أن يهجو أسلوبها دون أن يتكئ عليه؟ التهجم على «سرد ديديون» وكل ما يغطيه الارتباط العاطفي بها –استهزاؤها بالتنظيم النسوي المبكر مثلاً– يعني الاتكاء على شكل من النقد كانت هي من طوّره أكثر من أي شخص آخر.
في فيلم وثائقي عن ديديون أُنتج عام 2017، أخرجه ابن أخيها غريفِن دُن ديديون تحت عنوان «لن يصمد المركز»، تتذكر ديديون المشهد سيئ السمعة من كتابها «يزحف نحو بيت لحم» حين التقت طفلة في الخامسة من عمرها اسمها «سوزان» تعيش في قلب حي «هايت أشبري» (في سان فرنسيسكو). كانت الطفلة تجلس على الأرض تقرأ كتاباً من الرسومات وقد لوّنت شفتيها بالأبيض. كانت أمها قد أعطتها (إل إس دي).
تقول ديديون لدُن متذكرةً المشهد وعيناها تلمعان: «دعني أقل لك، كان ذلك ذهباً. إنك تحيا من أجل لحظات كتلك، إن كنت تكتب نصّاً. طيباً كان ذلك أم سيئاً».
تلك الصلابة الآسرة، المزيج الغريب من الانفصال والنظرة المركزة بطريقة تثير الغضب، كانت دائماً جزءاً مما يجذب الآخرين إليها. من أبطالها جون وين وجورجيا أوكيف –«هذا الثعبان الملائكي»، بتعبيرها. وفي «سنة التفكير السحري» لاحظت بكبرياء غريبة ومتألمة أن أطباء زوجها يسمونها «زبوناً بارداً». قالت لدُن: «لا أعرف ماذا يعني الوقوع في الحب. ليس ذلك من عالمي».
لكن الحب هو ما استدعته لدى الآخرين –وليس مجرد الإعجاب. وإلا فما الذي يفسّر قدرتنا على الإمساك بكل تناقضاتها، أو استلهام تفاصيل «الدايت» الذي اتبعته كما لو كانت طقوساً سحرية (تناول كوكاكولا أولاً في الصباح، واللوز المملح، والسجائر)، وكذلك قائمة ما تحمله في السفر (سكوتش ويسكي، ثوب رقص، شال، آلة كاتبة). الخمسون ياردة من الحرير المسرحي الأصفر الغارق بالمطر والذي علقته في شقتها في نيويورك. وهو الحب أيضاً الذي يفسر تماهي القراء المحموم وتشويهاتهم. كتبت ذات مرة: «ينتمي المكان إلى الأبد لمن يطالب به بقوة تفوق غيره، من يتذكره بحنين أشد، من يعتصر المكان من ذاته، يشكّله، يصوغه، يحبه بتطرف يصل حد صياغته على صورته هو».
مع أن ديديون الشابة –التي كتبت «البارانويا المشبعة» و«أطواق الزهور»، والتي ركبت الطائرات عارية القدمين وبكت عند زفافها– تبدو مقيمة في المخيلة، فقد كانت كاتبة أكثر تنوعاً ونمواً مما يُحسب لها غالباً. غير أن خيطاً يتلوى عبر أعمالها، بشيء من الغرابة –لحظات تجلٍّ متماثلة تصل إليها باستمرار، وفي كل مرة تبدو جديدة. لقد قارنت نفسها وهي تنتقل من مرحلة الشباب براسكولنيكوف، لائمةً نفسها لأنها ظنّت أنها مستثناة من النتائج. كتبت لاحقاً عن انكسار «الإيقاع الذهبي»، ثم مرة أخرى للتنصل من «قناعة أن الأضواء ستغدو دائماً خضراء من أجلي». وخلال مشاهدتها ابنتها تكبر تشعر مرة أخرى بذلك الوعي المقلق: اختفاء «كل السحر الذي عشت تحت ظله حياتي كلها». هذه كاتبة لم تتعب من إخبار قارئها، وإخبار نفسها، بأن الحظ ينفد –ربما لأنها لم تؤمن به حقاً، حتى حين كان هناك المزيد من الحياة.
كتبت ذات مرة: «إنني لا أقول لكم أن تجعلوا العالم أفضل مما هو، لأنني لا أعتقد أن التقدم بالضرورة جزء من الصفقة. إنني فقط أقول لكم أن تعيشوا فيه. لا أن تتحملوه، لا أن تعانوا منه، وليس أن تمروا عبره، وإنما أن تعيشوه. أن تنظروا إليه. أن تحاولوا فهمه. أن تعيشوا غير مبالين. أن تغامروا. أن تقوموا بعملكم وأن تفخروا بذلك. أن تعيشوا اللحظة.
وإن سألتموني لمَ علينا أن نبالي بذلك؟ يمكنني أن أقول لكم إن القبر مكان جميل وخاص، لكن لا أحد يتعانق هناك. ولا أحد يغنّي هناك، أو يكتب، أو يجادل، أو يرى ظاهرة المد عند الأمازون، أو يلمس أطفاله. ذلك ما يمكنكم عمله والحصول عليه ما دام أمكنكم ذلك، وأتمنى لكم حظاً سعيداً».
* خدمة «نيويورك تايمز»



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.