تتواصل الفعاليات المختلفة في «مهرجان الأعشى» الذي يختتم فعالياته الأربعاء المقبل، واستذكر المهرجان قصائد الشاعر الذي بقي اسمه خالداً في سجل الشعر العربي رغم رحيله قبل 1500 عام، وألهم الشعراء السعوديين المعاصرين الذين أحيوا أمسيات شعرية يومية على مدى أسبوعين، بقصائد لهم تراوحت بين الموضوعات الوطنية والوجدانية والإنسانية والفلسفية وقصائد الغزل.
وأحيا الشاعر السعودي حمد العسعوس مساء أمس (الجمعة) أمسية شعرية خصصت له افتتحها بالثناء على المسؤولين في وزارة الثقافة في بلاده على جهودهم الرامية لتحريك جميع روافد العمل الثقافي، وتطويرها بما يتلاءم مع منطلقات وأهداف «رؤية المملكة 2030».
وبعد هذه المقدمة، أبحر الشاعر العسعوس في قراءة نماذج ومختارات من قصائده القديمة والجديدة، متخيلاً أنه قام بزيارة للأعشى في قبره، ودخل معه في حوار شعري وتاريخي عن المملكة ومؤسسها وعن اليوم الوطني، وعن النهضة التي تعيشها البلاد في جميع المجالات، والتغير الجذري الذي حدث في الحياة بعد عصر الشاعر الأعشى.
وبعث العسعوس قصيدة كتبها بهذه المناسبة بعنوان «رسالة إلى الأعشى في قبره» حازت إعجاب الحضور، وهي:
غَنّيتُ شِعركَ، واستأنستُ للطّرَبِ
فاسْكُبْ غِنَاءَكَ... يا صَنّاجَة العَرَبِ
أسْكُبْ غِنَاءَكَ ممزوجاً...؛ لأشْرَبَهُ
على ضَرِيحِكَ في كأسِ من الذّهَبِ
خمسونَ عَامَاً، وطيفُ الحُلْمِ يحملُني
لِحَي (منفُوحة) دوماً..، ويعصفُ بِيْ
أصيحُ في (شارعِ الأعشى)، فَيَصعَقُني
صوتُ لـ(مَيْمُونَ) بالتقريعِ..، والعَتَبِ
ميمونُ.. إنٌ لك العُتْبَى فقد طُمِسَتْ
للبيتِ، والقبرِ.. أطلالٌ - بلا سبب..!
ومجلسُ لكَ في الوادي.. تَجَاهلَهُ
مؤرخُ الحَي، والآثارِ، والنُسَبِ..!
مَضَتْ قرونٌ، وأهلُ الحَي ما التفتُوا
لِزَامرِ الحَيّ..، لم يخرج من الكُتبِ..!
حتى أتى من سَيَبْني من قصائدهِ
آثارَهُ..، ويضخُّ الماءَ في القَصَبِ
بَلّغْ نَدَامَاكَ... يا (ميمونُ) أنٌ لَهُمْ
أحفادَ أسْدِ أتَوا - كالغيثِ للتٌرَبِ
يُفَاخِرُونَ بماضِيهمْ...، وحاضرُهُمْ
حشدُ من المجدِ والأحلامِ والرُّتَبِ
مسافرون مَضَوا، والشمسُ وِجْهَتُهُمْ
وفي حَقَائبِهِمْ........، زادُ من الأدَبِ
تَحَرّروا من قُيُودِ الليلِ، وانطَلَقُوا
بموكبِ صَاعدِ....، للفجرِ مُنْتَسِبِ
أبا بصيرِ... رعتكَ اليومَ أفئدة
مُحِبّة؛ وأزِيْحَتْ ظُلْمَة الحُجب
وادي حنيفة، قد سَالت روافدُهُ
شِعراً، وفي ضفتيهِ ناضجُ الرٌطَبِ
فَنَمْ قريراً - بقبرِ - فوقَ تُربتهِ
غداً.. تُعَرّشُ أفوافُ من العِنَبِ
جيلُ الشبابِ تَوَلّى رَسْمَ رُؤْيَتِنَا
للاعتدالِ، ونبذِ العُنْفِ والشُّغَبِ
جيلُ الشبابِ تَوَلّى رَسْمَ رُؤيتِنَا
نحوَ التعَايُشِ، كالأشجارِ والشّهُبِ
(وَدّعْ هُرَيْرَة) يا ميمونُ..، وأتِ لنَا
وادعُ النّدَامَى، وعُدْ صَنَّاجَة العَرَبِ
هُنَا (الرياض)، وفي أحيائِها فرحٌ
على طبيعتِهَا - في سَالِفِ الحُقَبِ
(غَرّاءُ فَرعَاءُ مصقولُ عَوَارضهَا)
بالفنِّ، والشعرِ، والترفيهِ، والطّرَبِ
وجاءت القصائد التي ألقاها العسعوس منوّعة من الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، والشعر الشعبي، وتراوحت بين الموضوعات الوطنية والوجدانية والإنسانية والفلسفية.
وعلى زخات المطر التي هطلت على الرياض، استذكر المهرجان وصف الأعشى السحاب من خلال منظر قصصي بعد زيارته السرية لمحبوبته هريرة وما أبدته من خوفه عليه ومنه، حيث وصف سحاب تسحبه بروق مضيئة، استطاع الشاعر وهو الذي كان يعاني من ضعف في بصره أن يرى هذه البروق بوضوح لشدة لمعانه، ذاكرا امتداده وامتلاء جوفه بالماء الذي ينهمر ومن دون توقف وكأنه ماء يفرغ من الدلاء لقوته، وقد أشغل هذا المشهد تفكير الشاعر وهو في درنى بمنفوحة مع ندمائه.
وحضرت في الفعاليات الشعرية إحدى قصائد الأعشى التي خصصها في مدح المحلق الكلابي وانفردت بمضمون فكري، وتعمقها في ذكر خلق الملك النعمان وصولته وجولته الكبرى وسطوته المرهبة وتحكمه في أرزاق الناس وأعناقهم دون احتجاج أو تمرد من قبل المحكومين، لقد عبّر عن الظلم وخضوع الشعب البائس.
ولا الملكُ النعمان يوم لَقِيتُه
بإِمَتِه يعطي القُطُوط ويَأْفِقُ
ويَقْسِمُ أمرَ الناس يوماً وليلة
وهم ساكتون والمنية تنطق
لقد كان الملك النعمان الذي التقاه الشاعر له يوم بؤس ويوم نعمى، يوزع عطاياه وهباته على من يلتقيهم، لقد كان يقسم أمر الناس بين السعادة والشقاء والشعب ساكت لا يتكلم ولا يحتج ولا يتذمر ولا يثور، لكن مصير الديكتاتور صاحب الصولة والجولة مات في السجن، سجن ساباط، حيث حبس كسرى النعمان فيه وهو «محزرق» أي مضيق عليه.
فذاك وما أنجى من الموت ربَه
بساباط حتى مات وهو محزرقُ