الثقافة اللبنانية 2021: «معركة البقاء» رغم الجراح والخراب

إصدارات جديدة وعودة مؤسسات فنية... وأمل في معرض الكتاب

TT

الثقافة اللبنانية 2021: «معركة البقاء» رغم الجراح والخراب

نقطتان رئيسيتان حكمتا الحياة الثقافية اللبنانية طيلة عام 2021؛ الأولى تتجسد في تفاني كتاب وفنانين للتغلب على واقع استثنائي مرير، حيث بلغ الانهيار ذروته، ولم تعد الكتابة أو المسرح من الأولويات التي يجد الإنسان متسعاً للتمتع بها، ومع ذلك استمر البعض وأنتج. والنقطة الثانية هي بناء جسور ثقافية مع الخارج لإيجاد متنفسات، بحيث لم يعد الداخل وحده قادراً على إيجاد الأوكسجين الكافي للاستمرار.
ما من معرض فني أقيم أو مسرحية عرضت أو فيلم أنتج، أو كتاب خرج من المطبعة، إلا وكان فعل مقاومة شرسة ضد الموت. ففي غياب الكهرباء، وصعوبة العثور على المحروقات، والغلاء الفاحش، وما يتبع من منغصات، كان على اللبنانيين أن يثبتوا أنهم أحياء، وقادرون على الصمود. ليس بمستغرب أن يكون التعبير عن الألم، أو التحدي، من بين التيمات الأكثر تكراراً. من المباني الأثرية مروراً بغاليريات الفن، وليس انتهاء بالمسارح، الكثير منها تعرض للدمار في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) عام 2020، حيث امتدت الأضرار على مساحة 8 كلم، وطالت نحو 62 ألف وحدة سكنية و20 ألف مؤسسة. هذه السنة استمر الترميم، وعادت الحياة إلى شارع مار مخايل ومنطقة الجميزة، حيث العديد من الغاليريات، مثل «تانيت» التي استأنفت عملها بعد الإصلاحات، وكذلك «صفير – زملر» بصالاتها المحاذية لمرفأ بيروت، و«غاليري صالح بركات» التي تعرضت بدورها لضربة موجعة.

- عودة الفن التشكيلي
تعود مؤسسات فنية للعمل، ومبانٍ تراثية تستعيد حياتها بعد أن ضربها الانفجار. فمن أصل 90 مبنى تراثياً تضرر بشكل كبير، رُمم 20 في المائة، ومن أصل 102 مبنى تضررت بشكل جزئي تم إصلاح أكثر من النصف. من أشهر المباني التي عصر خرابها القلب، مبنى «متحف قصر سرسق»، وقد افتتح جزئياً هذه السنة، بانتظار عودة كاملة العام المقبل. بالقرب منه، «فيلا عودة»، التي لم تنجُ هي الأخرى، لكنها فتحت أبوابها مع مطلع العام، واستقبلت واحداً من أهم معارض السنة، تحت عنوان «الفن الجريح»، شارك فيه 35 فناناً لبنانياً وأجنبياً، من بين الأعمال، ما كان قد نجا من الانفجار بندوب وكسور. بعضها عرض بعد الترميم والبعض الآخر، ترك كما هو. سينوغرافيا جان لوي مانغي كانت كفيلة برسم مشهد جمالي لافت، يجمع بين المعافى من الأعمال الفنية، والمجروح في الصميم، وما أنجز من وحي الحدث الكبير. استعادت المعارض التشكيلية شيئاً من عافيتها، دشنت غاليري «صفير – زملر» عودتها بمعرض للفنان مروان رشماوي الذي كان يستعد للعرض قبل الانفجار، وأصيبت بعض أعماله، كذلك شهدت «غاليري صالح بركات» معارض طوال العام، متجاوزة الأحزان والصعوبات، وربما أن المهمة الأصعب كانت من نصيب «غاليري مرفا» الأقرب لمكان الانفجار، لكن صاحبته جومانا عسلي لملمت جراحها وفتحت أبوابه.
وإذا كانت المهرجانات الصيفية قد غابت للسنة الثانية على التوالي، بسبب وطأة الجائحة، واستحالة التخطيط في ظل التخبط الاقتصادي، فإن لجنة «مهرجانات بعلبك» أبت أن تستلم ونظمت حفلاً وحيداً، حضره عدد محدود من المدعوين بعنوان «شمس لبنان لا تغيب» عُرض خلاله شريط من 80 دقيقة، تضمن 10 حفلات امتدت كل منها نحو ثماني دقائق، صُورت كلها في معابد من العصر الروماني تتوزع في أرجاء منطقة البقاع، غالبيتها غير معروفة، ما أتاح للمشاهدين اكتشافها، والتعرف على مواهب شابة.

- شجاعة مهرجانات السينما
ليست المهرجانات وحدها التي غابت، بل معارض الكتب، أهمها «معرض الكتاب الفرنسي»، و«معرض الكتاب العربي والدولي». هو عميد المعارض العربية لا يزال يئن، بسبب التكاليف الباهظة التي قد تترتب على ناشرين، يناضلون لتجاوز المحنة. والأمل في أن يتمكن «النادي الثقافي العربي»، وهو الجهة المنظمة، من عقد دورة جديدة في مارس (آذار) المقبل، والسعي جارٍ لتبصر النور.
الجائحة تزن ثقيلاً على المسارح التي عرضت العديد من المسرحيات مثل مسرحي «المدينة» و«مونو»، ولم يتوقف «المسرح الوطني اللبناني» بإدارة قاسم إسطنبولي، في صيدا، عن تقديم العروض. لكن الأشجع على الإطلاق هذه السنة هم منظمو المهرجانات السينمائية. فقد شهدت بيروت «مهرجان السينما الأوروبية»، الذي بقي افتراضياً، وأطلقت بمبادرة شجاعة، النسخة الأولى من «مهرجان بيروت للشرائط المصورة»، و«مهرجان بيروت للأفلام الوثائقية»، و«أسبوع الفيلم الألماني»، و«مهرجان مسكون لأفلام الرعب والخيال العلمي»، وعاد «مهرجان الفيلم العربي القصير» ليحتفي بنسخته الخامسة عشرة، وكذلك «مهرجان طرابلس للأفلام».

- الأفلام اللبنانية تخترق
كما تمكنت الأفلام اللبنانية رغم ركود حركة الصالات المحلية، بسبب الأوضاع الضاغطة للبلاد، من أن تخترق وتبرز عربياً وعالمياً، بعضها حصد جوائز في مهرجانات، أو تصدر مواقع متقدمة، مثل فيلم «دفاتر مايا» للمخرجين جوانا حاجي توما وخليل جريج الذي نال جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي، في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي». وهو حكاية فتاة تعيش في كندا، تتلقى ليلة الميلاد، دفاتر وأشرطة، وصوراً قديمة كانت قد أرسلتها إلى صديقتها المقربة في بيروت. وارتأت عائلة هذه الصديقة التي توفيت أن تعيد إليها الأغراض التي ما إن تصل إليها حتى تفتح لها نافذة على بيروت الثمانينات التي كانت غارقة في الحرب. برز أيضاً فيلم «ع أمل تجي» للمخرج اللبناني جورج برباري، ويحكي عن مرحلة الانتقال من الشباب إلى الرجولة مع حيثيات وتفاصيل الجوانب العاطفية، وفيلم «قلتلك خلص» لإيلي خليفة يطرح كيفية تحكم المنتجين والممولين بكتاب السيناريو والمخرجين. وفيلم لارا سابا «ع مفرق طريق» حصد جائزة «مهرجان مالمو» في السويد، من كتابة جوزفين حبشي، يتناول قصة رومانسية كوميدية تدور في لبنان. وحظي فيلم المخرج إيلي داغر «البحر أمامكم» بعرضه في «مهرجان كان السينمائي 74» ضمن تظاهرة أسبوعي المخرجين، متنافساً لنيل الكاميرا الذهبية.
ورشحت وزارة الثقافة فيلم «كوستابرافا» لتمثيل لبنان في مسابقة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي. الفيلم شارك في مهرجانات عالمية منها «سينيميد» و«البندقية» و«تورونتو»، إخراج منية عقل، وتؤدي الممثلة والمخرجة نادين لبكي دور البطولة فيه إلى جانب صالح بكري.

- نجدة فرنسا والمغتربين
لبنان في الاختبار الصعب، ليس وحيداً، تضافرت الجهود الثقافية، لدعمه من جهات عدة، «اليونيسكو» تجمع التبرعات لترمم المباني الأثرية، «متحف سرسق» وجد تمويله أيضاً. مغتربون محبون للفن لم يبخلوا بدعم سخي. فرنسا قامت بجهد كبير. معرض «أنوار من لبنان» أقيم في «معهد العالم العربي» دعماً وتضامناً، أرّخ لسبعة عقود من الفن التشكيلي اللبناني بمختلف تياراته وأجياله منذ عام 1950 إلى اليوم. 100 عمل لـ55 فناناً، من ثلاثة أجيال بينهم لبنانيون، وعرب وفرنسيون، رسموا في لبنان ومن وحيه. في «معهد العالم العربي» أيضاً أقيمت أمسية موسيقية، بعنوان «بعلبك يا حبي» بمبادرة من عازف البيانو سيمون غريشي «بهدف جمع التبرعات» لـ«مهرجانات بعلبك الدولية».
حضر لبنان في المعرض الدولي السابع عشر للعمارة - بينالي البندقية، من خلال مشروع يحمل اسم «سقف للصمت» للفنانة المعمارية العالمية هلا ورده. ونظمت على هامش العرض، حملات توعية، بإعادة تأهيل التراث المعماري والثقافي المتضرر في بيروت.
ويشارك لبنان في «البينالي الدولي للفن المعاصر» في البندقية عام 2022، رغم كل الصعاب، بفضل معونة «الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية»، وتحت إشراف وزارة الثقافة حيث أعلن عن اختيار الفنانين الموهوبين، أيمن بعلبكي المقيم في لبنان ومنى ربيز المغتربة، ليمثلا بلديهما، بجناحين في هذه المناسبة.
مؤسسة بوغوصيان، اللبنانية - الأرمينية الأصل في بلجيكا، نظمت بدورها معرضاً، يستمر حتى فبراير (شباط) المقبل بالشراكة مع «مركز بومبيدو»، يعقد حواراً بين مجموع الأعمال الاستثنائية التي بحوزتها وقطع لفنانين لبنانيين من جميع الأجيال، تم إنتاجها في السنوات الأخيرة، لفتح بعض الآفاق المحتملة.

- روايات وترجمات وشعر
كتب عديدة صدرت. الوضع الحرج لم يمنع «دار الآداب» من متابعة إصدار ترجماتها لروايات عالمية: ماريز كزندي «انتظار الطوفان»، وهاروكي موراكامي «يوميات طائر الزنبرك»، ويوكو أوغاوا «شرطة الذاكرة»، وجيمس جويس «صورة الفنان في شبابه»، وإيزابيل الليندي «صورة عتيقة»، وروايات أخرى. كما أصدرت لجوخة الحارثي «حرير الغزالة»، و«ليليات رمادة» لواسيني الأعرج، وغير ذلك. «دار الجديد» مالت، إلى جانب الورقي، لنشر كتبها افتراضياً، بينها ثلاثة كتب للدكتور محمد الرميحي، و«الفظيع وتمثيله» لياسين الحاج صالح و«بعيون النساء» لعزة شرارة بيضون. وأصدرت خالدة سعيد عن «دار الساقي» «فضاءات 2» والشاعر شوقي بزيع «مسارات الحداثة» والمخرج هادي زكاك «سيلما طرابلس»، والأب جاك أماتييس السالسي «خميس مجلة شعر» موثقاً ومحللاً، وأصدرت «مؤسسة الفكر العربي»، كتابين علميين، بالعربية والإنجليزية حول «العرب وتحديات التحول نحو المعرفة والابتكار». وبمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، أصدرت «دار نلسن» ترجمة محمود شريح لدراسة كمال الصليبي «لبنان ومسألة الشرق الأوسط». وشهدنا ولادة الجزء الأول من موسوعة «الفلسفة الفرنسية المعاصرة» بإشراف الدكتور مشير عون، والرواية الأخيرة للأديب الفرنسي غيوم ميسو «الحياة رواية»، عن دار «هاشيت – أنطوان».
وفي الشعر قرأنا لشوقي أبي شقرا بعد 16 عاماً من الغياب «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى»، ولعبده وازن مختارات من شعره حملت عنوان «هكذا في الحكاية التي لم يَرْوِها أحد»، ولعباس بيضون «الحياة تحت الصفر» وعقل العويط «الرابع من آب 2020».
غيب هذا العام كباراً في الحياة الثقافية اللبنانية: الموسيقي الألمعي إلياس الرحباني، والروائي القدير جبور الدويهي، والسينمائي المناضل برهان علوية، والفنانة الشاملة ايتل عدنان، والناقد ومؤسس متحف «مقام» سيزار نمور. والكاتب الناشط لقمان سليم الذي قتل غدراً تاركاً وراءه مؤسسة «أمم» الثقافية التي تعمل على استمراريتها شقيقته الأديبة والناشرة رشا الأمير.
لم يكن العام بهيجاً، رغم ذلك فإن ما أنجز هو فعل مقاومة واستبسال، ما يجعل العاملين وراء كل كتاب أو فيلم أو مسرحية أو معرض، جزءاً من حركة إعادة ضخ الأمل في عصب بيروت. فرغم كل شيء، ستظل «المختبر الفعلي الثقافي والفني للمنطقة العربية»، بحسب الدراسة المهمة التي صدرت بالتعاون بين «المورد الثقافي» و«المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، وحررتها حنان الحاج علي وناديا فون مالتسان، تحت عنوان «نظرة حول السياسات الثقافية في لبنان».


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».