100 عام من العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية

بدأت تترسخ منذ حصول باريس على {نظام الامتيازات} من العثمانيين أيام لويس الرابع عشر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

100 عام من العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر حديثاً في باريس عن دار نشر «لارماتان» كتاب بالفرنسية تحت عنوان «فرنسا ولبنان 1920 - 2020 (مائة عام من التضامن)»، للدكتور ميشال شهدان خليفة، الذي يتناول فيه مسار السياسة الفرنسية المتبعة في لبنان منذ تأسيسه لغاية الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.
يشير الكتاب إلى أن علاقة فرنسا بلبنان بدأت تترسخ منذ حصول باريس على «نظام الامتيازات» من الإمبراطورية العثمانية، حيث عمد الملك لويس الرابع عشر إلى تعيين لبنانيين مسيحيين موارنة من أسرة آل الخازن قناصل له لدى لبنان، بهدف تشجيع المبادلات التجارية بين بلاده والإمبراطورية العثمانية، مما أدى فيما بعد إلى توثيق الروابط بشكل كبير بين مسيحيي لبنان وفرنسا.
وقد شجّع حاكم لبنان، الأمير الدرزي فخر الدين الثاني المعني الكبير، هذا التقارب الفرنسي - اللبناني؛ إذ قدَّم للتجار الفرنسيين مستودعاً كبيراً في صيدا عُرِف بـ«خان الفرنج»، لا تزال آثاره ماثلة حتى يومنا. لكن الامتيازات التي حصلت عليها فرنسا أثارت حفيظة بريطانيا، الدولة العظمى المنافسة لها، فطالبت بالحصول على امتيازات مماثلة، مما أدى، ومنذ ذلك الحين، إلى خصومة عنيفة بين باريس ولندن، لدرجة أن استقلال لبنان سنة 1943 تحقق سريعاً نتيجة هذه المنافسة.
ويوضح الكاتب أن من بين الأهداف الرئيسية لفرنسا من إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 كان الوصول إلى منابع النفط في المنطقة، بعد أن تبين لفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى حاجتها الماسة إليه، إضافة إلى رغبتها في إنشاء «كيان للأقليات الدينية والإثنية» في الشرق الأوسط، خصوصاً للمسيحيين.
ويضيف أنه خلال مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان، حصل اصطدام بين بطريرك الموارنة والمفوضين الفرنسيين الذين كان معظمهم علمانيين أدى إلى انحيازه للمعارضة السياسية التي دعمتها بريطانيا ضد فرنسا. وقد اضطر الجنرال شارل ديغول زعيم «فرنسا الحرة» إلى إعطاء لبنان استقلاله سنة 1943، بعد أن اعتبر مساعدوه مطلب الاستقلال بدعم من البطريرك بمثابة «خيانة الموارنة»، باعتباره جاء في ظروف ترزح فرنسا خلالها تحت الاحتلال الألماني.
ويلفت المؤلف إلى أن ديغول الذي عاش سنتين في لبنان ملحقاً عسكرياً خلال الانتداب الفرنسي، كان يخشى على هذا البلد من أطماع الدول المجاورة له؛ فقدم له الحماية خلال حرب 1967، وعمد بعد اعتداء إسرائيل على مطار بيروت الدولي إلى فرض حظر شامل على بيع الأسلحة الفرنسية لإسرائيل. ويلفت الكتاب إلى أن ديغول ساعد على بناء وتطوير لبنان في عهد الرئيس فؤاد شهاب عبر القروض المالية له، من أجل تحديث البنى التحتية والمؤسسات الإدارية فيه، ثم ضاعف مساعداته هذه في عهد الرئيس شارل حلو الذي كان يُعتبَر أكثر رؤساء لبنان ميلاً للفرنسيين.
بيد أن الكتاب يعد حرب أكتوبر 1973، التي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط، نقطة تحول كبيرة في سياسة فرنسا تجاه لبنان، إذ دفعت بالرئيس بومبيدو إلى اتباع سياسة انفتاح كبير على العالم العربي، لدرجة أنه خشي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية سنة 1970 وصول المرشح سليمان فرنجية المدعوم من زعماء «الحلف الثلاثي» الماروني إلى رئاسة البلاد، فحاربته باريس خوفاً من أن يسيء إلى علاقاتها مع دول الخليج النفطية؛ فقد نتج عن هذه الحرب تحوّل مهم في السياسة الدولية تجاه الشرق الأوسط، إذ إن إسرائيل التي كانت تعاني بداية من صعوبات في مواجهة القوات العربية، هددت باستعمال سلاحها النووي ضد مصر وسوريا، مما دفع بالولايات المتحدة إلى التدخل فوراً، وإرسال وزير خارجيتها إلى المنطقة، هنري كيسنجر، الذي نجح بوقف المعارك العسكرية، لكن هذه الحرب تركت انعكاسات سلبية على لبنان، إذ إن المقاتلين الفلسطينيين الذين تجمعوا فيه منذ سنة 1970، بدأوا يكثفون عملياتهم العسكرية ضد إسرائيل، في وقت تزايدت فيه الصدامات بينهم وبين الجيش اللبناني، ما ساهم لاحقاً في اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975.
يعتبر الكاتب أن الحرب اللبنانية التي استمرت حتى عام 1990، كانت تغطية لعملية السلام بين مصر وإسرائيل، وإغراق سوريا في مشكلات لبنان الداخلية، ملمحاً إلى أن الخوف الكبير للرئيس فرنسوا ميتران كان حصول حرب عالمية نووية بين واشنطن وموسكو بسبب الحرب اللبنانية، وقد تراجع نفوذ فرنسا بقوة في لبنان، بعد تفجير ثكنة للجنود الفرنسيين في بيروت. ودعم ميتران «اتفاق الطائف» سنة 1990، إذ اعتبره المخرج الوحيد لإنهاء الحرب اللبنانية التي تحولت في النهاية إلى حرب بين المسيحيين أنفسهم. أما خليفته جاك شيراك، فقد كان أكثر مَن عمل على ترسيخ الدولة اللبنانية بعد انهيارها خلال الحرب الأهلية، إذ دعم صديقه رئيس الحكومة، رفيق الحريري، في تركيز «الجمهورية الثانية»، عبر تقاسم السلطة التنفيذية مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وإعادة إعمار لبنان مع الحريري، عبر تنظيم ثلاثة مؤتمرات دولية في باريس لجمع المساعدات المالية له.
وبخلاف ذلك، فإن الرئيس نيكولا ساركوزي، على عكس شيراك الذي تقرب من المملكة العربية السعودية، مال إلى قطر التي كانت تبحث عن دور سياسي وإعلامي بارز لها في المنطقة، فتم تنظيم «مؤتمر الدوحة» سنة 2008 بتعاون فرنسي - قطري نتج عنه إعطاء الطائفة الشيعية في لبنان حصة أساسية في الحكومة عُرِفت بـ«الثلث المعطل»، مما أعطاها نفوذاً أوسع في البلاد، إلا أن الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي زار لبنان سنة 2016، وصرح بأن «أمن لبنان هو أيضاً أمن فرنسا»، عاد، فحوّل وجهة فرنسا من جديد تجاه المملكة السعودية.
يبقى أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي صرح بأن فرنسا «لن تتخلى عن لبنان»، يرفض الانحياز إلى أي طرف في أحداث لبنان، ساعياً إلى البقاء على مسافة واحدة من الجميع، ويحاول أن يلعب دور «الوسيط الحذر» بين الأطراف المتخاصمة في لبنان والمنطقة. وهذا ما يفسر رفضه المتواصل لتصنيف «حزب الله» إرهابياً، رغم ضغوط حلفائه في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا. ويرى الكاتب أن فرنسا، حامية المسيحيين في الشرق، تواجه اليوم منافسة روسية إذ ترغب موسكو في أن تكون هي أيضاً حامية الأقليات المسيحية في هذه المنطقة عبر المسيحيين الأرثوذكس المنتشرين فيها، مما أدى إلى ظهور منافسة بين باريس وموسكو على غرار ما كانت عليه سابقاً بين باريس ولندن.
وقد بدأت روسيا التي ركزت قواعد عسكرية لها في سوريا، تغلغلها فعلياً في لبنان بشكل تدريجي بدءاً من شماله، خصوصاً أن زعيم أكبر حزب مسيحي لبناني، جبران باسيل، يطالبها بأن تلعب دوراً أكبر في لبنان. وخلاصة الكتاب أن ماكرون يواجه اليوم في لبنان صراع «المجموعات الطائفية الأربع» المكونة له، وهي المسيحية والسنية والشيعية والدرزية، باعتبار أن كل طائفة تريد أن تبسط نفوذها في البلاد على حساب غيرها، مما أدى إلى شلل خطير في كل مؤسساته بات يهدد مصيره ووحدته.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.