«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

ترصد حكايات مؤلمة عن تعرضهم للاغتصاب والتعذيب والاتجار بأعضائهم

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
TT

«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)

في قرية كفر أبو نجم بدلتا مصر، كان شبح الموت يخيم على كل الأنحاء، فالأخبار الواردة من ليبيا مُغلفة برائحة الدم، والجميع يتلمس في ذعر أي نبأ عن الشبان، الذين سافروا سراً قصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ابتلعهم البحر المتوسط أمام ساحل مدينة الزاوية (غرب).
ومع مرور أيام قليلة غلب عليها اليأس والقهر، بدت الأوضاع على الجانب الآخر قاتمة ومريعة، فبعض الذين نجوا من الغرق «يُعذبون بأعواد من حديد، ويكتوون بالنار» في معسكر «بئر الغنم» لتجميع المهاجرين غير النظاميين، الواقع جنوب غربي العاصمة طرابلس.
هذه الفاجعة، التي ستتكشف تفاصيلها فيما بعد، مجرد نموذج مصغر لعشرات الجرائم التي يتعرض لها المهاجرون، الذين يتسربون داخل ليبيا عبر الصحراء المترامية، قادمين إليها من مسارات وعواصم مختلفة. البعض منهم يُقضى غرقاً، أو يصل إلى «الفردوس الأوروبي»، وإما يُغيب داخل سجون، و«كمبوهات» (عنابر ضيقة مسقوفة بألواح الخشب ورقائق الصاج) تابعة لعصابات التهريب، منتظرين مصيراً غامضاً، ربما يكون أسوأ من الموت بين طيات أمواج البحر.
ومسارات التهريب جميعها تتحكم فيها مافيا كبيرة، متشعبة محلياً وإقليمياً، وتصب داخل الحدود الليبية، ومنها إلى مدن غرب البلاد، مُطلة على ساحل البحر الأبيض، مثل صبراتة وزوارة والزاوية والقرة بوللي، إذ إن القادم من مصر والسودان والصومال قد يلتقي مع من جاء عبر تشاد والنيجر، ويلحق بهم القادم من غانا وساحل العاج، وجميعهم يظلون منذ خروجهم من ديارهم في عهدة «السمسار»، الذي يسلك بهم الدروب الوعرة إلى أن يستقروا في ليبيا، بعيداً عن أعين السلطات الأمنية. لكن إذا وقعوا في قبضة العصابات المتاجرة بالبشر، فالأمر قد يختلف كلياً لأنهم سيكونون حينها في حُكم الأموات، إذ إن كل شيء لدى هذه (المافيا) له ثمن... الحياة، وحتى دخول المرحاض، و«شربة الماء»، التي قد تضطر بعض النساء لدفع ثمنها من شرفهن، أو يتجرعن مياهاً ملوثة، لأن هناك يُجرى الاستثمار في «اللحم الحي» للمهاجرين.
وقائع هذا التحقيق جرت بين محافظات بدلتا مصر، ومناطق ليبية عدة، بقصد توثيق عملية تهريب البشر والمتاجرة فيهم، وكيف يقعون «كورقة رابحة» في قبضة ثنائي (المافيا) و(السماسرة)، ليتم المقايضة بهم، قبل أن ينالوا في أغلب الأحيان قسطاً وافراً من العذاب، والتغييب لأشهر عدة في الأقبية المجهولة و«الكمبوهات» السرية.
«الشرق الأوسط» رصدت جانبا من قصص تعذيب دامية تُرتكب داخل معسكرات للهجرة غير النظامية، تبدأ بضرب المهاجرين بالسياط والمواسير الحديدية، وتنتهي بحرق أجسادهم بالنار لإجبار أسرهم على دفع الفدية المطلوبة لإطلاق سراحهم، وقد يتطور الأمر فيخضعون للتخدير وانتزاع أعضائهم البشرية وبيعها حسب الطلب؛ وبعض هذه الجرائم يُرتكب داخل مقار رسمية للاحتجاز بطرابلس، من بينها غوط الشعال، والبعض الآخر يتم في معسكرات تشرف عليها مجموعات مسلحة، أو بمخازن سرية يُكدسون فيها انتظاراً لساعة التنفيذ.

صورة نشرها النائب العام الليبي لمهاجرين تعرضوا للتعذيب (الشرق الأوسط)

مأتم أبناء العم

كانت حرارة شهر يوليو (تموز) في مصر قد تجاوزت الأربعين درجة مئوية بقليل، وابنا العم حسن صلاح عطية (30 عاما)، وحسين حاتم عطية (19 عاماً)، يقطعان قرابة (750 كيلومتراً)، في أولى خطوات تحقيق حلمهما بالسفر إلى «الجنة الأوروبية الموعودة»، من قرية أبو نجم بمحافظة الشرقية، إلى مدينة السلوم، القريبة من الحدود الغربية مع ليبيا، ولا يحملان معهما سوى قليل من الزاد والملابس وبعض النقود.
هناك على جانبي طريق صحراوي، التقيا مع مصريين آخرين، حيث سلك بهم «سمسار الرحلة» المأجور طرقاً ودروباً لمدة خمسة أيام، تنقلوا خلالها من حافلة إلى أخرى، ومن مخزن لآخر، حتى انتهت مهمته معهم عند دخولهم الحدود الليبية. ومن هذه النقطة بدأت رحلة «شاقة محفوفة بالمخاطر والأهوال»، روتها لنا نورا سليم، ابنة عم حسن وحسين.
أخبرتنا نورا، ابنة الثلاثين ربيعا، أن ابني عميها أرادا تحسين نمط عيش أسرتيهما، كباقي أبناء كفر أبو نجم وقرى مجاورة أخرى في الشرقية عبر السفر إلى إيطاليا: «وصل إيطاليا مصريون كثيرون وهم يعملون الآن، وأصبحت أوضاع أسرهم جيدة». وأضافت بنبرة حزينة: «عائلتي تعيش حالياً أياماً قاسية؛ وتندم على ما حدث. فبعد تلقي أول اتصال هاتفي من حسن وحسين نهاية أغسطس (آب) الماضي، علمنا من مصريين في غرب ليبيا أن القارب الذي كان يقلهما مع آخرين انقلب في البحر، وغرقوا جميعهم، فأقمنا لهما مأتماً وتلقينا العزاء».
ومع حالة الحزن التي سادت قرية كفر أبو نجم لموت حسين وابن عمه حسن، الذي ترك وراءه طفلاً رضيعاً، بقي لدى أسرتيهما أمل في أن يكونا لا يزالان على قيد الحياة.
ووفقاً لبيانات وزارة الداخلية بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية، يوجد في جميع أنحاء البلاد أكثر من 575 ألف مهاجر غير نظامي، بينهم 6200 يحتجزون في مراكز للإيواء، يديرها جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية التابع للوزارة.

عصابة «الحاج حكيم»

المصير الغامض لابني العم حسن وحسين، ينطبق على آلاف المهاجرين غير النظاميين من جنسيات عربية وأفريقية عديدة، ممن يقعون في قبضة الميليشيات وعصابات المتاجرة بالبشر، فيتعرضون للتعذيب النفسي والبدني، والاعتداء الجنسي والسخرة بقصد ابتزاز أسرهم.
من بين هذه «العصابات الإجرامية»، هناك عصابة يتزعمها شخص يعرف بـ«الحاج حكيم»، تورط في خطف مجموعة من المهاجرين المصريين، وإنزال صنوف العذاب بهم، وصور «جريمته» بالفيديو لحمل ذويهم على دفع ما يطلبه من أموال. وقد أظهرت تحقيقات النيابة العامة الليبية لاحقاً أن «الحاج حكيم» يمتهن الاتجار بالبشر عبر دول مختلفة، وأنه تولى في الآونة الأخيرة تنسيق عمليات الهجرة غير المشروعة، عبر إدارة منظمة تمارس نشاطها تحت سيطرته في الداخل، ولها ارتباط مع شبكات أخرى تعمل لصالحه بدول الجوار.
ومن بين الحوادث، التي تُوصف بكونها «الأكثر دموية»، حادثة تصفية 21 مهاجراً غير نظامي من بنغلاديش في بلدة مزدة (جنوب غربي العاصمة)، على يد مواطن ليبي، كان يُكدسهم داخل مخزن تمهيداً لبيعهم، وقرر أن يُخمد غضبهم فأمطرهم بوابل من الرصاص.
وتشير بيانات صادرة عن هيئات معنية بالملف، منها «المنظمة الدولية للهجرة»، و«المفوضية السامية لحقوق الإنسان» إلى تعرض آلاف المهاجرين لعمليات تعذيب واسعة. وسبق لمديرية أمن طبرق (شرق) العثور على ثلاثة مصريين بمنطقة باب الزيتون، بدت عليهم آثار تعذيب شديد، وفارق أحدهم الحياة بعد نقلهم إلى مركز طبرق الطبي. وقالت المعلومات الأمنية، حينها، إنهم كانوا محتجزين في أحد المخازن المخصصة لتهريب الهجرة غير المشروعة، وحرموا الطعام، وتعرضوا للضرب من طرف عناصر هذه العصابة.
وتمكنت الشرطة وعناصر «الجيش الوطني» الليبي من تحرير 900 مصري، الأسبوع الماضي، وقالت الأجهزة الأمنية بشرق ليبيا وقتها إن عصابات التهريب احتجزتهم في مزرعة بمنطقة «بئر الأشهب» (74 كيلومتراً شرق طبرق)، بقصد مساومة ذويهم على دفع الأموال.

محمد صحبة والده بعد وصوله إلى مصر (الشرق الأوسط)

تعذيب في (بئر الغنم)

التعذيب لدى الميليشيات وعصابات الهجرة لم يستثن أحداً من المهاجرين، غير أن ما يحدث في مركز «بئر الغنم» من «جرائم»، نقلتها شهادات الفارين والمعتقلين في حديثهم إلى «الشرق الأوسط»، كشف عن أعمال «تعذيب وحشية ممنهجة»، وهو ما دفع حسين أبو العز، الذي يعمل معلماً للغة الإنجليزية في أحد المدارس المصرية، إلى اتهام صلاح القديري، مدير المركز، بالإشراف على تعذيب نجله محمد، بمساعدة شخصين ليبيين، يعرف الأول بـ«الهربا السفاح»، والآخر يدعى محمد الفلاح.
«الشرق الأوسط» واجهت عبر اتصالات هاتفية الأشخاص الثلاثة، الذين اتهمهم والد الضحية بتعذيب ابنه؛ غير أنهم نفوا الأمر، وأكدوا أنهم «يعاملون المحتجزين بشكل جيد».
ومحمد، الذي يدرس في كلية التجارة بجامعة المنصورة، كان من بين عشرات المهاجرين المُنتمين لقرية تلبانة بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، الذين تسللوا إلى ليبيا بقصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ألقي عليهم القبض، فنُقلوا بين سجون ومراكز عدة، من بينها غوط الشعال في طرابلس، إلى أن انتهى بهم المطاف في «بئر الغنم»، الذي يضم أكثر من ألف مهاجر.
وهرب من غوط الشعال أربعة آلاف مهاجر من جنسيات مختلفة إلى شوارع العاصمة، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانوا يحشرون في زنازين ضيقة وفي ظروف غير صحية، لكن قوات الأمن قالت إنها استعادت نحو ألفين منهم، والباقون إما ينامون في الشوارع، أو تتلقفهم عصابات التهريب.
وروى الشاب المصري، الذي سافر إلى ليبيا مطلع أغسطس الماضي، بحثاً عن مستقبل أفضل، أنه «تعرض للتعذيب بقسوة طيلة ثلاثة أشهر، قبل أن يتمكن والده من دفع 50 ألف جنيه (قرابة 3800 دولار) لأحد «السماسرة»، قصد تسهيل هروبه من المركز، بالإضافة إلى تسديد سبعة آلاف جنيه أخرى مقابل توصيله إلى قرب السلوم.
وترصد منظمة «العفو الدولية» تعرض المهاجرين في بعض مراكز الإيواء بعموم ليبيا لانتهاكات جسيمة، فضلاً عن تعرض المهاجرات المحتجزات في معسكرات الاعتقال للعنف الجنسي المروع على يد حراسه، مقابل الحصول على الطعام والمياه النظيفة، وهو ما يدفع المنظمة الدولية للهجرة لرفض إعادة أي مهاجر من البحر إلى ليبيا.
ونقلت «العفو الدولية» في تقرير لها، أصدرته في يوليو الماضي، عن عدة نساء سيدات أن «حراس معسكرات للمهاجرين يغتصبون النساء، ويجبروهن على ممارسة الجنس مقابل إطلاق سراحهن، أو حصولهن على الماء النظيف».
وروى محمد لـ«الشرق الأوسط» ما شاهده من «وحشية ترتكب مع المحتجزين» في مركز «بئر الغنم» قائلا: «كان الحراس يعذبوننا يومياً بشكل مهين، وهم يدخنون الحشيش، ويتناولون البوخة (هو مشروب مُسكر محلي الصنع)، وكنا نُضرب بأعواد الحديد، ويشرف على تعذيبنا القديري ومعه (الهِربا) والفلاح؛ ومن يشعر منا بألم أو يمرض ليس أمامه إلا انتظار الموت، لأنه لا وجود لأطباء أو علاج».
وبخصوص تكدس المعتقلين في أربعة عنابر ضيقة مع ارتفاع درجة حرارة الصيف، قال محمد: «عنبرنا كان يضم 450 شخصاً، وكان الجو حاراً جداً، مع قلة المياه والمراحيض، وكانوا يمنعوننا من الاستحمام مما سهل انتشار الأمراض الجلدية المُعدية».
وفي ظل حصص التعذيب اليومية، تحدث محمد أيضا عن حرمان المهاجرين من الطعام قائلا: «كان الأكل شحيحاً جداً لا يكاد يكفينا، والجوع يلازمنا دائماً. كنا نحصل على وجبتين فقط في اليوم لا تكفيان لسد جوعنا، وكان كل أربعة أشخاص يتناولون طبق مكرونة صغيرا، وكان يحلو للسجانين إسماعنا من وقت إلى آخر أقذع العبارات، ويخيفوننا بأننا لن نخرج من المعسكر إلا أمواتاً خصوصا المصريين».
ويشكل القادمون من بعض محافظات صعيد مصر ودلتاها العدد الأكبر من بين المهاجرين، الذين يتوافدون على ليبيا عبر الصحراء سراً، بحثاً عن «فرصة عمل»، أو أملاً في الفرار إلى «الفردوس الموعود».

الهروب بسيارة الشرطة

الملاحظة هنا أن مركز «بئر الغنم» يتبع رسمياً الشرطة الليبية، ومع ذلك كشف محمد لنا عن طريقة تهريبه، التي تمت بواسطة عناصر داخل المعسكر بقوله: «كل القائمين على المعسكر من ميليشيات وعناصر أمنية يبيعون المحتجزين سراً، ويتقاضون المُقابل كلما أتيحت لأحدهم الفرصة، دون معرفة باقي المسؤولين معهم بهذا الإجراء».
وأضاف محمد موضحا: «بعد أن دفع والدي في مصر المبلغ الذي حدده السمسار، أركبوني سيارة من عربات الشرطة المرصوصة داخل المعسكر، بعد رحلة عذاب استمرت ثلاثة أشهر تقريباً، جزء منها كان في مركز احتجاز غوط الشعال؛ ثم سلموني خارج البوابة الرئيسية لسيارة (تاكسي)، نقلتني بدورها إلى مكان بمدينة الزاوية (48 كيلومتراً غرب طرابلس)، ومن هناك ركبت سيارة أُجرة مع آخرين كانت في طريقها إلى مصر».
وبنبرة فرح لم تخل من ألم، أخبر حسين أبو العز، والد محمد، «الشرق الأوسط» بوصول نجله إلى منزله بمحافظة الدقهلية: «أخيراً استعدت ابني بعد ثلاثة أشهر. الحمد لله الذي نجاه من الجحيم. لكنه عاد إلي يائساً ومحطماً من قسوة التعذيب والإهانة، ومصاباً بأمراض جلدية نادرة؛ والمهم الآن سرعة الإفراج عن مسجون آخر من أبناء قرية تلبانة، يدعى نزيه سمارة (...) الوسيط يطلب 70 ألف جنيه»، وقال إن «السمسار»، الذي عمل على تهريب نجله، ينتمي إلى إحدى مدن جنوب مصر، ويقطن طرابلس.
وحصلت «الشرق الأوسط» على مقاطع «فيديو» من والد الضحية محمد، قال إنها من داخل المعسكر، وصورت عقب عملية تهريب بعض الضحايا.

المافيا والسمسار

هنا، تتكشف الحلقة المفقودة بين عمليات الخطف وتحرير الرهائن، وتكمن في الدور الذي يلعبه «السمسار» بالتوافق مع المتورطين في هذه الجرائم، والذي يؤكد دائماً على أنه «فاعل خير»، رغم أن واقعة الإفراج عن محمد كشفت ما يشبه علاقة (البيزنس) بينه وبين المسؤولين داخل مركز الاحتجاز.
«الشرق الأوسط» تواصلت عن طريق أسرة أحد المخطوفين في ليبيا مع أحد هؤلاء السماسرة، المقيم حالياً في حي الأندلس بطرابلس، الذي رفض الحديث معنا في بداية الأمر، لكنه دافع عن نفسه قائلا: «أنا أقدم خدمة لأهالي المخطوفين بالاطمئنان على أولادهم، والسعي للإفراج عنهم دون مقابل».
ورداً على اتهامه بـ«الاتجار في البشر»، قال السمسار: «لا. أنا أسعى لتخفيض المبالغ المطلوبة للإفراج عنهم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار».
وحتى الآن، لا تزال أسرة نورا تتعرض للابتزاز من طرف «سماسرة» يطالبون بمبالغ مالية كبيرة، بحجة الإفراج عن ابني عميها، آخرهم انتحل صفة موظف كبير بالحكومة المصرية، لكن قبض عليه لاحقاً.
ومن «بئر الغنم»، وهو اسم لبلدة صغيرة كانت مسرحاً لمعارك «ثورة 17 فبراير» عام 2011 إلى الصحراء حيث الجريمة، التي شهدتها الحدود بين ليبيا والسودان، وذلك عندما أقدمت شبكة لتهريب المهاجرين على نقل 28 مهاجراً من السودان إلى الحدود الليبية، مقابل مبالغ مالية؛ لكنها تخلت عن 14 منهم وسط الصحراء، دون زاد أو وسائل لنقلهم، ما أدى لموت ستة مهاجرين، بينما تاه الباقون في الصحراء.
غير أن القضية أصبحت قيد التحقيق من النيابة العامة الليبية حالياً، بعدما قبضت أجهزة الشرطة على عناصر الشبكة، وتم حبسهم احتياطياً.
وتقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إن قرابة خمسة آلاف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لديها، منهم نحو 45 في المائة رجالاً، و22 في المائة نساءً، و33 في المائة أطفالاً. كما سجلت المنظمة الدولية للهجرة إنقاذ 969 مهاجراً من الغرق في الفترة الممتدة من 19 إلى 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وأعادتهم إلى مراكز الإيواء ثانية.

أعضاء بشرية للبيع

تسرب المهاجرين داخل ليبيا عبر الحدود المترامية بدا الآن أنه يصُب في صالح شرائح عديدة، بداية من الميليشيات والعصابات الممتهنة للتهريب، وصولاً لبعض القبائل بجنوب البلاد، التي تواجه اتهامات بالاستفادة من الفوضى، التي ضربت ليبيا طوال عقد مضى، والتربح من تهريب البشر والسلاح والمخدرات والوقود أيضاً.
لكن المثير في الأمر هو أن هذه التجارة فتحت باباً شرهاً آخر للاستثمار الحرام، يتمثل في قتل مهاجرين أفارقة، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة أطباء اختصاصيين، وبيعها بمبالغ طائلة.
مصادر قضائية ليبية أطلعت «الشرق الأوسط» على جانب من التحقيقات الجارية مع وافد صومالي، يدعى حسن قيدي، متهم بـ«قتل عشرات المهاجرين، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة شبكة يقودها تمتهن تهريب المهاجرين والاتجار فيهم وبيع أعضائهم البشرية». بالإضافة إلى اتهامه بـ«اغتصاب عدد من المهاجرات تحت تهديد السلاح، بعد خطفهن وإخفائهن في مخازن سرية لإرغام عائلاتهن على دفع الفدية نظير إطلاق سراحهن».
ولاحقاً تطرق النائب العام، الصديق الصور، إلى هذه الجريمة خلال لقائه مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2021 مع وزيرة العدل، حليمة إبراهيم، وبعض القيادات، وقال إن التحقيقات الجارية بمعرفة النيابة العامة كشفت أن «شبكات الجريمة المنظمة استفادت من غياب سلطات الدولة؛ فارتكبت جرائم الاتجار بالبشر، وقتل مهاجرين والاتجار بأعضائهم البشرية».
الناشط المدني الليبي عبد الحميد الوافي، المهتم بملف المهاجرين والنازحين، أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية للمهاجرين نشطت إلى حد كبير بعد عام 2011، وخاصة في مناطق غرب البلاد»، وتحدث عن «وجود عصابات تتخفى في صورة عمال يستدرجون ضحاياهم إلى أماكن سرية، وفي وقت ما، كان يتم ذلك في غابات قصر خيار(شرق العاصمة بنحو 80 كيلومتراً تقريباً)، «وهناك كانت تجرى عمليات جراحية للمخطوفين، وتنتزع أعضاؤهم البشرية، قبل أن يُلقى بهم في البحر». وفق قوله.
ويبرهن الوافي على ذلك بعثور بعض المواطنين، والأجهزة المحلية في وقت سابق على جثث لمهاجرين ممزقة إلى أشلاء، لكن عندما توجهنا بالسؤال إلى وزارة الداخلية الليبية عن هذه الجرائم قال لنا مسؤول أمني رفيع إن «كل ما يتعلق بهذه القضايا من معلومات لدى النائب العام، ومن الأفضل الذهاب إلى النيابة العامة»، لكن الأخيرة قالت إن «القضية رهن التحقيق».
ومن وقت لآخر تعثر الدوريات الأمنية عن جثث متحللة لمهاجرين في الصحراء الليبية. وقد شهدت ليبيا تزايدا ملحوظاً في تدفق أعداد المهاجرين باتجاه الشواطئ الأوروبية، في ظل ما تشهده البلاد من هدوء نسبي راهناً، لكن قوات خفر السواحل المحلية، والسفن الأوروبية العاملة على إنقاذ المهاجرين تعيدهم إلى ليبيا.
ويخلو حديث جُل المسؤولين الليبيين من تحمل أي مسؤولية تجاه ما يقع من جرائم تنكيل بحق المهاجرين، وبهذا الخصوص قال العميد المبروك عبد الحفيظ، مدير جهاز الهجرة غير المشروعة، إن بلاده «باتت ضحية، وتُركت وحيدة في مواجهة هذه القضية، التي عجزت عن معالجتها دول العالم».
كآبة أيام الانتظار تمر على أسر المخطوفين، الذين يستغيثون في ليبيا، ثقيلة، إلا أن الأنباء الواردة من معسكر «بئر الغنم» حملت خبراً ساراً لقرية كفر أبو نجم، اختلطت معه مشاعر الحزن والقهر مع دموع الفرح وحالة الترقب. فقد أبلغت نورا «الشرق الأوسط» أنه بعد ثلاثة أشهر من احتساب قريبيها في عِداد الموتى، أخبر أحد الناجين أسرتها أنهما كانا مسجونين معه في «بئر الغنم»؛ وتمكن هو من الهرب، بعدما اصطحبه أحد قيادات المركز الأمنية إلى منزله لذبح أضحية العيد الماضي، لكنهم حتى الآن لا يعلمون عنهما شيئا، وينتظرون تحرك السلطات المصرية لاستعادتهما.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».