إثيوبيا وهاجسا الاستقلال والحداثة

أحلام الخديوي اسماعيل وعناد الأباطرة

إثيوبيا وهاجسا الاستقلال والحداثة
TT

إثيوبيا وهاجسا الاستقلال والحداثة

إثيوبيا وهاجسا الاستقلال والحداثة

على الرغم من القرب الجغرافي واللغوي بين شبه الجزيرة العربية والحبشة، ظلت العلاقات السياسية ضعيفة والتبادل الاقتصادي والثقافي ضئيلا ًبين الجانبين بعد نشوء الدول العربية – الاسلامية في القرن السابع الميلادي. ولم تشهد إثيوبيا فتحاً عربياً بفضل شعور المسلمين بالامتنان لإيواء ملك أكسوم النجاشي أصمحة (أو أشاما بحسب المصادر الإثيوبية) للمسلمين الأوائل. وفي سياق ذلك، اعتُبر الحديث الشريف «اتركوا الحبشة ما تركوكم» من محددات العلاقة بين العرب والحبشة، على الرغم من الخلاف بين المفسرين والمحدين في شأن مضمون الحديث وصحته.
حجم اثيوبيا، والتعداد الكبير لسكانها وثرواتها، وتنوعها الإثني واللغوي والديني، يجعلها دائمة الحضور في الاهتمامات العربية والدولية، فيما تعيق العوامل ذاتها، إضافة إلى الفقر والصراعات الدموية المتكررة، تبوُّأ إثيوبيا المكانة التي تستحق بين الدول. ومنذ الخلاف العميق مع مصر والسودان في شأن سد النهضة، ثم اندلاع الحرب بين جبهة تحرير شعب تيغراي والحكومة الاتحادية، ظهر أن الأحلام التي رافقت وصول رئيس الوزراء الحالي آبيي أحمد الى الحكم في 2018، تبخرت لتحل مكانها الحقائق المريرة لواقع الانقسامات.
وتتناول السطور التالية جانبا من سعي اثيوبيا بشعوبها المختلفة الى الحفاظ على استقلالها، في وجه عالم عات وعوامل ذاتية تشمل الصراعات بين الاقوام والشعوب الاثيوبية. بيد ان تركيزنا سيكون على العناصر الخارجية وهو قد يُفسر باعتماد الرواية الاثيوبية للأحداث. وليس هذا هو القصد.

هاجس الاستقلال

على مدى قرون كان الحفاظ على الاستقلال هاجس الممالك التي توالت على حكم الهضبة الاثيوبية. في القرن السادس عشر، شكّل ظهور الأمير أحمد بن ابراهيم – أحمد غران (الأعسر) في المصادر الإثيوبية- مصدر قلق كبير لملوك السلالة السليمانية التي استولت على الحكم سنة 1270 بعد الاطاحة بالأسرة الزغوية. وزعم افراد السلالة السليمانية تحدرهم من النبي سليمان وملكة سبأ واقاموا شرعيتهم على نسبهم هذا، إضافة الى تعزيزهم دور الكنيسة الارثوذكسية التي لا تقل أهمية في التاريخ الإثيوبي عن الممالك المختلفة.
فقد وصلت المسيحية الى مملكة أكسوم، الواقعة على البحر الأحمر والتي كانت تحتل أجزاءً من أريتريا واقليم امهرى الحاليين، على يد القديس فرونتيوس الآتي الى الحبشة من مدينة صور سنة 316 والذي أقنع عدداً من النبلاء باعتناق المسيحية، قبل أن يقيم الصلة بين كنيسته الجديدة وبين بطريركية الاسكندرية، التي أرسلت مبشرين لنشر المسيحية وحافظت على العلاقة مع الكنيسة الحبشية. بذلك اصبحت الحبشة الدولة الثانية التي تتبنى المسيحية ديناً رسمياً بعد أرمينيا.
وأدت المسيحية دوراً حاسماً في الحفاظ على تميز هويات ابناء المرتفعات الاثيوبية، على الرغم من انحسار الأهمية الاستراتيجية التي اكتسبتها الممالك الاثيوبية أثناء الصراع الروماني ثم البيزنطي مع الفرس، وكان اليمن وجنوب الجزيرة العربية ساحة من ساحاته المهمة، بعدما ظهر الاسلام وانتشر في تلك النواحي، إلا أنّ الكنيسة الاثيوبية ثابرت على علاقات غير منتظمة مع نظيرتها في الاسكندرية، واتخذتا مواقف متطابقة اثناء السجالات اللاهوتية، التي شهدتها المجامع المقدسة المسيحية في الشؤون العقدية وفرقت بين المسيحيين ووزعتهم بين الكنائس المتنافسة المختلفة. وثمة وجود قديم للكنيسة الحبشية في القدس. ويقول المؤرخ كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» أنّ ديراً للأحباش اقيم في منطقة بشري شمالي لبنان، ويرجح أن وجود الاحباش هناك جاء نتيجة التنافس بين الموارنة واليعاقبة الذين بسطوا نفوذهم في المناطق المارونية وجاءوا برهبان من الحبشة ووطنوهم هناك.

أحمد الأعسر

الخطر الأكبر الذي واجهه استقلال الممالك الاثيوبية، التي شهدت العلاقات بين بعضها البعض تبدلات حيث تمدد جديدها على حساب القديم وتغيرات في ولاءات الاقاليم المختلفة، كان الدولة التي اقامها الامام أحمد بن ابراهيم كما سلفت الاشارة. وكان أحمد من الأسرة الجبرتية في الصومال والتي يقال إنّ أصولها تعود الى الجزيرة العربية. وأصبح ملكاً على مملكة عَدَل التي توسعت لتشمل أكثرية أراضي الحبشة بين العامين 1529 و1549 وكادت تقضي على المملكة الحبشية بعدما اصيبت بهزيمة قاسية في 1527. حصل ذلك في ذروة النفوذ التركي العثماني، حيث قدم الأتراك بعض قطع المدفعية التي أدت دوراً مهماً في معارك الامام أحمد ودوّن تفاصيلها المؤرخ اليمني شهاب الدين أحمد بن عبد القادر في كتابه «تحفة الزمان- فتوح الحبشة».
ولم يتأخر الصراع الصومالي- الاثيوبي أن تحول الى جزء من المعركة بين السلطنة العثمانية والبرتغال، التي كانت تتوسع جنوباً وشرقاً بعد اصطدامها بالعقبة الاسبانية عندما حاولت التوسع نحو العالم الجديد في الغرب. أثيوبيا كانت واحدة من الساحات التي تواجه فيها الأتراك والبرتغاليون وسقط في معركة وفلة سنة 1542 كريستوفاو دي غاما، ابن المستشكف الشهير فاسكو دي غاما. وكان دي غاما الابن نظّم جيشا صغيرا للقتال الى جانب الاثيوبيين، إلا أنه وقع في أسر القوات الصومالية التي أعدمته. وبعد عام، قُتل الامام احمد برصاص قناص برتغالي، فطُوي مشروع فتح الحبشة وانهارت مملكة عَدَل المسلمة وعاد الكثير من الاثيوبيين الذين اعتنقوا الاسلام بعد مجيء القوات الصومالية الى المسيحية.
واستعادت قوات الامبراطور غيلاوديوس (أو أصناف سَغَد الأول، بحسب اسمه الرسمي) القسم الاكبر من الأراضي التي احتلتها مملكة عدل الى ان تمكن الامام نور بن المجاهد، وهو ابن شقيق الامام احمد، من وقف الهجوم الاثيوبي سنة 1549. وبذلك بقي وجود للمسلمين في اثيوبيا التاريخية، في منطقة أوغادين، اضافة الى تبنيه من قبائل الاورومو في المناطق الغربية.

أحلام إسماعيل

مبدئيا، دُفِع التهديد عن الاستقلال الاثيوبي بانحسار مملكة عَدَل، ولم يعد للظهور سوى في القرن التاسع عشر، مع محاولة الخديوي اسماعيل انشاء امبراطورية أفريقية تشمل منابع النيل الأزرق وتضمن تحول مصر الى قطب عالمي، من ضمن مشاريع اسماعيل الكبيرة. يرى عدد من المؤرخين في مشاريع اسماعيل استئنافا لأحلام جده محمد علي باشا في مجالي التوسع الاقليمي والتحديث الصناعي والتعليمي. وبالفعل، يجوز القول إن اندفاعة اسماعيل في سبعينات القرن التاسع عشر تتشارك في العديد من السمات مع حملة جده على السودان التي قادها ابنه طوسون باشا في 1820 وكان من قادتها عابدين بك الارناؤوطي (الألباني) الذي بنى جزءاً من القصر المعروف باسمه حتى اليوم.
ووصل الجيش المصري الى أعماق الاراضي السودانية والحدود الاثيوبية وكانت من العلامات التي أظهرت القدرات اللافتة لباشا مصر، العامل حتى تلك الفترة في ظل العلم العثماني، قبل ان تنشب الحرب بين الجانبين في العقد التالي ويشن محمد علي حملته الشامية ضمن محاولته اسقاط الدولة العثمانية برمتها. بعد فشل حلم محمد علي هذا، بفعل التدخل الدولي لمصلحة السلطان العثماني، توسع الوجود المصري في القرن الأفريقي ليضم محطات تجارية وقواعد عسكرية في مصوع وعصب في اريتريا وهرار في اثيوبيا، اضافة الى بربرة الواقعة في جمهورية ارض الصومال الحالية. الجدير بالذكر ان اسماعيل استعان ايضا لبناء جيشه بضباط سابقين من الكونفدرالية الاميركية (الولايات الجنوبية) الذين خسروا الحرب الأهلية الاميركية وراحوا يبحثون عمن يشتري خبراتهم وخدماتهم. وقد عيّن أحدهم، الجنرال وليام وينغ لورينغ الذي عرف باسم «لورينغ باشا» رئيسا لاركان قواته المتجهة الى اثيوبيا.
ملوك الداخل الاثيوبي، الذين لم تخلُ علاقاتهم من تنافس وصراع، كانوا شعروا بما حمله الاستعمار الغربي الى أفريقيا من خطر على استقلالهم. يضاف الى ذلك أن الخديوي اسماعيل جدد المخاوف من الاختراق المصري الواسع. وعلى جاري العادة في الدول التي تبحث في السبيل الكفيلة بمواجهة التحديات الجديدة، بدأت افكار التحديث كطريق للحفاظ على الاستقلال تجد طريقها الى القصور، خصوصا ان القواعد المصرية عزلت الداخل عن الخطوط البحرية التجارية.
وتقول المصادر المصرية أن السبب في حملة اسماعيل كان احتجاج الامبراطور يوحنس الرابع (يوهانس او يوحنا) الذي أدرك الخطر الذي يمثله القصور الحضاري الاثيوبي عن العصر، على استمرار استقلال بلاده. وأوفد يوحنس الى القاهرة بعثة نقلت المطالب الاثيوبية بإلغاء الرسوم الجمركية على السلع العابرة للمرافئ الارتيرية الواقعة في قبضة القوات المصرية، نظرا الى الأعباء الكبيرة المترتبة على الاقتصاد الاثيوبي. مهما يكن من أمر، لم تؤد المفاوضات الى نتيجة واستعان يوحنس بالمغامر البريطاني تشارلز كيركهام لبناء جيش حديث وقيادته ضد المصريين الذين بدأوا ما يعرف بـ»حملة الحبشة» من مرافئ اريتريا. وانتهت الحملة في 1874 بهزيمة الخديوي اسماعيل وتعزيز نفوذ الامبراطور الاثيوبي. ما سيكون له عواقب سيئة على مستقبل اسماعيل وحكمه واخفاق مشاريعه.

حملة نابيير

الحضور البريطاني الذي سعى ملوك اثيوبيا الى استخدامه في مواجهة التمدد المصري، كان سابقا على ظهور كيركهام. إذ ان حرباً نشبت بين سلف يوحانس، الامبراطور تواضروس الثاني، والبريطانيين. ويُعتبر تواضروس مؤسس مشروع تحديث اثيوبيا، من خلال محاولته الغاء النظام الاقطاعي، وتعيين اصحاب الكفاءة في المناصب العليا، وبناء جيش قادر على التصدي للقوى الاستعمارية التي راحت ترسل مبعوثيها الى أفريقيا تمهيدا لغزوها. سعيُ تواضروس الى تثبيت مكانة دولية له مقابل تجاهل الغرب لجهوده، دفعه الى اعتقال عدد من المرسلين والمغامرين البريطانيين، لترد لندن بتجريد حملة «تأديبية» كبيرة بقيادة الجنرال روبرت نابيير قوامها الأساس قوات هندية، تمكنت من إلحاق الهزيمة بتواضروس بعدما تخلى عنه امراء المناطق، واحتل البريطانيون حصنه في مغدلا في 1868 لتجده وقد انتحر مفضلا الموت على الاستسلام للبريطانيين، ما اتاح المجال لمنافسه يوحنس الرابع تولي الحكم كإمبراطور على اثيوبيا.
أدت الأسلحة التي خلفتها حملة نابيير وراءها، وخصوصا قطع المدفعية، دورا في تدمير جيش الخديوي اسماعيل. وبعد اخفاق الحملة المصرية التي قادها اراغيل بيه الارمني والعقيد ادولف اهرنهوب الدنماركي في معركة غونديت، باءت المحاولة المصرية الثانية لاجتياح الهضبة الاثيوبية بالفشل ايضا بهزيمة كاملة في معركة سهل غورا، التي قاد القوات المصرية فيها راتب باشا سنة 1875. فيما تولى راس علولا انغيدا، القائد التيغراني اللامع، قيادة الاثيوبيين. ولقب «راس» يُطلق في اثيوبيا على الزعماء الذين يثبتون جدارة في الميدان حتى لو لم يمتوا بصلة الى العائلة المالكة.
نهاية حلم الخديوي بإمبراطورية أفريقية كان بداية حلم آخر بزغ في روما هذه المرة. إيطاليا الساعية الى اللحاق بنظيراتها الاوروبيات، بعدما جاءت متأخرة الى حفل تقاسم المستعمرات في أفريقيا وآسيا، منّت النفس بالحصول على مدخل الى القارة من اريتريا. وتحولت المستوطنتان الايطاليتان في عصب ومصوع الى منطلق للتوسع في الداخل الاثيوبي بعد قيام «اريتريا الايطالية». علة التأخر الإيطالي عن ركب الاستعمار الاوروبي، غياب الدولة الوطنية فيها حتى منتصف القرن التاسع عشر وتوزعها على دويلات متناحرة، واستطرادا تخلف البنى الرأسمالية المشابهة لتلك التي باتت راسخة في بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال.

ثم جاءت إيطاليا

الحرب الايطالية الاولى في 1894 -1896 انتهت بهزيمة مشينة للقوات الايطالية على يدي راس علولا الذي أشرف على جيش يوحنس الرابع. وقعت الحرب نتيجة تمرير الايطاليين فقرة في معاهدة ثنائية اعقبت صدامات وقعت بين سنتي 1887 و1889 مع الاثيوبيين تنص على وضع بلاد هؤلاء في حماية ايطاليا. لكن نتيجة الحرب ضمنت الاستقلال الاثيوبي كحقيقة. وجاء الامبراطور ميلينك الثاني، الذي اختار اسما يُذكّر بأحد ابناء الملك سليمان من ملكة سبأ، ليعلن عودة السلالة السليمانية من طريقه وهو الذي يتحدر من اسرة نبيلة ونجح في تثبيت نفسه كامبراطور خلفا ليوحنس الذي مات متأثرا بجرح اصيب به خلال معركة ضد الأنصار السودانيين. ومع انتصار القائد راس علولا في مقلي وعدوى سنة 1896، اختتمت الحرب الايطالية -الاثيوبية الاولى بدخول مينيليك، ملك شيوا السابق، كشخصية أفريقية الى الساحة الدولية بعدما استطاع الحفاظ على استقلال بلده - مع بعض المساعدة الفرنسية والروسية في سياق التنافس التقليدي الاوروبي- في وجه الاستعمار الايطالي.
وسيبدأ مينيليك مرحلة جديدة من تحديث البلاد وتغيير حدود المقاطعات وتعيين حكام جدد ووسع حدود اثيوبيا، لتصبح على الرقعة الموجودة عليها اليوم تقريبا. ويُنسب الفضل اليه في انشاء الوزارات المتخصصة وادخال التعليم الحديث وبناء العاصمة الجديدة أديس أبابا. بعد وفاته في 1913، تولى راس تفاري، ابن عم مينيليك، السلطة كولي للعهد ومساعدا لزوديتو ابنة الامبراطور الراحل. فتابع مشروع التحديث وترسيخ اجهزة الدولة التي انضمت في 1923 الى عصبة الامم.
وتحسن اقتصاد اثيوبيا بفضل الارباح التي كان يدرها تصدير البن الاثيوبي الممتاز. وما زال هذا المنتج الزراعي المصدر الاول للعملة الصعبة الى اليوم. وفي 1928 سمّت زوديتو تفاري ملكا باسم هيلا سيلاسي الأول. لتبدأ مرحلة من التاريخ الاثيوبي ستشهد حربا ثانية تشنها ايطاليا، واحتلالا جديدا ينتهي بدخول هيلاسيلاسي اديس أبابا ظافرا بعد طرد الايطاليين بمساعدة الحلفاء سنة 1941 وصعودا في مطالب اريتريا الاستقلالية، ثم فشلا لمشاريع الاصلاح وتفاقم الفساد والحركات الطلابية المطالبة وصولا الى الانقلاب العسكري وحكم مجلس «الدريغ» بزعامة العقيد منغستو هيلا ميريام و»رعبه الاحمر» واطروحات الاشتراكية العلمية...
ما تقدم جوانب من الخلفية التي تدور عليها صراعات اليوم بين إثيوبيين لم يبرأوا من أوزار الماضي وتبعاته، وحيث تتقرر من جديد السبل التي ستمضي عليها تلك البلاد الغنية الى حد البذخ بالتاريخ والتنوع، والفقيرة الى درجة الجوع في إدارة الموارد وشح الطبيعة.



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».